18 ديسمبر، 2024 11:10 م

الفاسدون أقوى من الكاظمي

الفاسدون أقوى من الكاظمي

إن الفساد في الدنيا نوعان، فساد مالي وإداري عادي يتلخص في قبول رشوة أو تلاعب في مناقصة أو اختلاس، وأسبابه، عادةً، تعود إما إلى حاجة وفقر وعوز أو إلى جشع وطمع بشري لم تنجُ منه أمة من الأمم، لا في القديم ولا الحديث. فحتى الدول المتقدمة جدا، كالسويد وألمانيا وهولندا وسويسرا،وغيرها، لم تستطع أن تنهي حالات الفساد، نهائيا، خصوصا المستترة منها التي ليس عليها دليل قانوني ملموس. وهذا النوع من الفساد يمكن علاجه، أو تقليل منسوبه إلى أقصى الحدود الممكنة بحكومة نزيهة وقوية وحازمة ومتماسكة، وبقوانين وإجراءات سديدة، وبقضاء عادل ومستقل لا لحزب أو حاكم أو إمام مسجد أو راعي كنيسة سلطة أو وصاية عليه.

أما النوع الثاني فهو الفساد السياسي المستخدم من قبل السلطة الفاسدة التي تتعمد تهيأة ظروف انتشاره في الميادين المالية والإدارية والوظيفية والحزبية والأخلاقية والدينية، بهدف التغطية على فسادها، واستخدامه أداتها السياسية الناجزة بجعله حالة عامة مستدامة، بحيث لا تكون الرشوة والاختلاس جرما معيبا يعاقب مرتكبُه في بيئة قد اعتادت عليه وتساهلت فيه.

وفي العراق، اليوم، وبالوقائع والحقائق والوثائق، ينتشر النوعان من الفساد، جنبا إلى جنب، يدعم أحدهما الآخر ويتغذي منه. والخطورة في ذلك أن سلطة الاحتلال الخارجي تحتاج إليه لإدامة حالة الخلل الاجتماعي والوطني والأخلاقي في المجتمع من أجل تعطيل فعل القوى الوطنية المناهضة لاحتلالها والرافضة لوجودها.

وفي حالة كهذه لا يتقلص الفساد بازدياد الدخل القومي، ولا يتضاعف بانخفاضه. فالموظف الفاسد الذي يختلس اليوم مليارا واحدا بسبب قلة موارد الدولة سوف يزيد منسوب اختلاسه ويجعله مليارين أو ثلاثة أو مئة عند توفر السيولة.

وفي هذه الحالة لن يكون لزيادة أسعار النفط أو لانخفاضها تأثير حقيقي وفاعل وملموس على الاقتصاد العام، لأن قدرة الحكومة لا تتأثر بها، لا سلبا أولا  إيجابا، في إنجاز مهمامها التنفيذية المطلوبة والمنتظرة منها.

ورغم أن الملف الاقتصادي هو الملف الأهم الذي يعول عليه رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، في تحقيق وعوده في الإصلاح السياسي والأمني والاقتصادي، إلا أن البيئة الحاضنة للفساد، ووجود السلاح (المنفلت)، وهيمنة الدولة العميقة، وسطوة الإدارة الخارجية، كلها سدودٌ وقيود تمنعه من إحراز تقدم حقيقي يغير موازين القوى في ساحة الصراع.

نعم. إن زيادة الدخل القومي يمكن أن تنفع في دولة مؤسسات أخرى آمنة ومستقرة تستخدمها لترشيد خدمتها لناخبيها بتوسيع مشروع يحتاج إلى توسعة، أو تنفيذ آخر كان متوقفا لعدم توفر السيولة، أو لزيادة خدمة معينة على حساب أخرى.

ولكن حين تكون الدولة محكومة بأحزاب مرتبطة بإرادات خارجية، ويصبح لدوام قدرتها على التحكم بأجهزة الدولة ومؤسساتها وقوانينها أولويةٌ تتقدم على غيرها، فهي سوف تحتاج إلى المزيد من المال لتغذية أجهزة سطوتها وحمايتها. وبذا سوف تتبخر الزيادة في مداخيل الدولة بسرعة، بوسائل وطرق متعددة تعجز الحكومة الضعيفة عن التصدي لها وضبطها.

إذن فما دام الفساد باقيا على حاله في العراق، وما دام كبار المختلسين هم أصحاب القوة والسلطة الحيقية، فلا الكاظمي ولا غيره يستطيع أن يفي بوعده في محاربة الفساد، وسيكون حديثه عن استعادة هيبة الدولة ومحاسبة الفاسدين حديث العاجز العائم في نهر من الأحلام، في قناعة الملايين من العراقيين.

واستنادا إلى ما يتسرب من مجالس بعض كبار القوم في المنطقة الخضراء فإنهم، حين يختلون بخاصتهم خلف الأبواب المغلقة، يُقرّون بعجزهم الكامل عن التحرش بأحد أصحاب الرؤوس الكبيرة، ويرددون مقولة “إن الفاسدين أقوى منا جميعا”، ويعترفون بأن مشاكل الوطن وأهله لن تحل إلا حين تبدأ الدولة سيرها على الصراط المستقيم، وهذا لن يتحقق إلا إذا تمَّ سوْق أكبر رأس من رؤوس المتهمين الكبار إلى ساحة العدالة ليقول القضاء العادل المستقل كلمته الفصل فيما ينسب إليه من مخالفات واختلاسات أصبحت مكشوفة ومفضوحة وصار التستر عليها أكثر من مستحيل.

والخلاصة. أن مجتمع العدل والكفاية والإصلاح لن يتحقق في العراق مادم النظام الإيراني هو الذي الآمر الناهي الذي وفر الغطاء والحماية للسلاح المنفلت، وللطرف الملثم الثالث، وما دام يمنع يد العدالة من المساس بأحد وكلائه ومناصريه، حتى لو كان أكبر الفاسدين، وأعتى المزورين وأخطر المختلسين.

فللتفاءل، كما للتشاؤم، أسبابٌ موضوعية لا تقبل الشك ولا الجدال. وفيما يخص العراق، حاضرا ومستقبلا، توحي الحقائق المعاشة في واقعه الحالي بأن موعد التفاؤل لم يحن بعد، و[ن على الشعب العراقي السجين أن ينتظر معجزة الانتخابات الموعودة التي يحلم بأنها سترفع له الزير من البير، دون مساعد ولا معين.