[email protected]
يخبئ الـ “ترند” في طياته متاهة من الدوافع والتأثيرات والانعكاسات التي تستحق الغوص فيها، فهو ليس مجرد موضوع رائـج، بل هو تجسيد لعصرنا الرقمي، حيث تتشكل الهويات، وتتبلور الآراء وتتلاشى الحقائق في خضم زحام الإعجابات. الترند، بتعريفه التقني البسيط، هو الكلمة أو الهاشتاغ أو الموضوع الذي يحظى بأكبر قدر من الانتشار والتداول على منصات التواصل الاجتماعي في فترة زمنية محددة. ولكنه في عمقه، هو مرآة تعكس هواجسنا الجمعية، وتطلعاتنا الخفية، وانقيادنا اللاإرادي لـ”هوس” الإعجاب.
الترند، في بعده الإيجابي، يمكن أن يكون أداة قوية للتغيير الاجتماعي، ومنبراً لإسماع أصوات مهمشة. فكم من قضايا عادلة وجدت طريقها إلى الضوء بفضل هاشتاغ انتشر كالنار في الهشيم؟ وكم من قصة معاناة وجدت الدعم والمؤازرة بفضل تغريدة وصلت إلى الملايين؟ هنا يصبح الترند تجسيداً لقوة التضامن الرقمي، وقدرة الأفراد على التأثير في مجتمعاتهم. إنه صوت المواطن الرقمي، الذي يرفض الصمت، ويسعى إلى تغيير واقعه.
ولكن للترند وجه مظلم لا يمكن تجاهله، الوجه الذي يظهر فيه الاستغلال والتلاعب والتسطيح. فثمة حملات إعلانية خبيثة استغلت الترند للترويج لمنتجات ضارة أو أفكار مضللة، وهناك العديد من الأخبار الكاذبة التي انتشرت بسرعة البرق لتشوه الحقائق وتضلل الرأي العام، عندها يصبح الترند أداة في يد أطراف سياسية أو أصحاب رؤوس الأموال أو أي جهة تسعى إلى السيطرة على العقول وتوجيهها. وهذا ليس إلا وهم بالحرية، وسجن رقمي يتوهم فيه الأفراد أنهم يعبرون عن آرائهم، بينما هم في الواقع يرددون صدى آراء الآخرين، كمن يركض خلف الصوت الأعلى دون تفكير أو تمحيص، إنه “الفقاعة” التي تحيط بالفرد، وتجعله يعتقد أن العالم كله يفكر مثله بينما هو في الواقع معزول عن الحقيقة.
ما يثير القلق أيضاً هو التسطيح الذي يصاحب الترند، فالموضوعات المعقدة التي تحتاج إلى نقاش متعمق وتحليل دقيق تتحول إلى شعارات سطحية ومقولات مبتذلة ورموز تعبيرية ساذجة. فالقضايا المصيرية التي تحدد مستقبلنا تُختزل إلى هاشتاغات عابرة تنتهي صلاحيتها بمجرد ظهور ترند جديد. لذا يفقد النقاش معناه ويتحول إلى مجرد استعراض للإعجابات.
ثمّة بعد فلسفي آخر يستحق التأمل، كيف يؤثر الترند في هويتنا الفردية؟ أنحن حقاً أحرار في اختيار ما نؤمن به وما نعبر عنه، أم أننا مجرد انعكاس لما هو رائج؟ هل أصبحنا نحدد قيمنا ومبادئنا بناءً على عدد الإعجابات التي نحصل عليها؟ لقد تحول الترند إلى تهديدا للذات الأصيلة، ومصدراً للاغتراب الروحي.
لعل العلاج يكمن في الوعي النقدي، فينبغي التعلم كيفية التفكير بشكل مستقل، مع التشكيك في كل ما نراه ونسمعه، وأن نبحث عن الحقيقة بأنفسنا، بدلاً من الانقياد الأعمى للترند. يجب أن ندرك أن الإعجاب الجماعي ليس دليلاً على الصواب، وأن الاختلاف ليس خطيئة. كما ينبغي أن نعيد تعريف معنى الحرية، وأن نتحرر من عبودية الإعجاب ونكتشف ذواتنا الأصيلة بعيداً عن ضجيج العالم الرقمي.
صفوة القول، الـ “ترند” ليس واقعا مفروضا أو قدرا محتوما، بل هو ظاهرة يمكن التحكم فيها وتوجيهها نحو الخير. إنه سلاح ذو حدين، يعتمد على كيفية استخدامه بحكمة ومسؤولية ونقد، كيلا يتحول إلى سجن للروح، بل إلى أداة للتحرر والتقدم. فالقيمة الحقيقية ليست في عدد الإعجابات، بل في عمق الفكرة، وصدق القول، وأصالة الفعل.