17 نوفمبر، 2024 12:37 م
Search
Close this search box.

الـنـص الـمُـؤسِّـس وتـأويـلاتـه فـي الاسـلام

الـنـص الـمُـؤسِّـس وتـأويـلاتـه فـي الاسـلام

فـي مـسـاء الأربـعـاء ١٦/٠٢/٢٠٢٢ نـظـم مـنـبـر الـتـنـويـر نـدوة مـهـمـة لـمـنـاقـشـة الـنـص الـمُـؤسِّـس (أي الـقـرآن)، والـنـص الـمـفـسـر أو الـمـؤول، ونـعـت الـنـص الـمُـؤسِّـس أيـضـا بـالـنـص الأول، وكـل مـن الـنـص الـمـفـسـر والـمـؤول بـالـنـص الـثـانـي. وشـارك فـي الـنـدوة ثـلاثـة أعـلام هـم الـشـاعـر أدونـيـس وأحـمـد عـصـيـد وصـلاح بـوسـريـف. لـم أدون كـل مـا طـرحـه الـمـفـكـرون الـثـلاثـة، لـكـنـي قـدمـت مـداخـلـتـي مـسـجـلا مـلاحـظـاتـي عـلـى مـا تـنـاولـوه، وحـيـث لا يـسـع الـوقـت لـيـطـرح الـمـتـداخـل كـل مـا يـرى وجـوب قـولـه، سـأذكـر مـا قـلـتـه، مـضـيـفـا شـيـئـا مـن الـتـوسـع والـتـفـصـيـل.

وجـدتـهـم قـد حـمـلـوا مـسـؤولـيـة أزمـة الـفـكـر الاسـلامـي الـنـص الـثـانـي، أي الـنـص الـمـفـسـر والـمـؤول، مـن تـفـسـيـر الـمـفـسـريـن، واسـتـنـبـاط الـفـقـهـاء لـلأحـكـام الـشـرعـيـة، وطـروحـات مـنـظـري الإسـلام الـسـيـاسـي، وتـأويـل الـمـفـكـريـن الإسـلامـيـيـن، وكـأن الـنـص الـمُـؤسِّـس لا يـتـحـمـل أي مـسـؤولـيـة، أو إن طـرح الـتـسـاؤلات عـلـى الـنـص الـمُـؤسِّـس أمـر مـحـظـور، لأن الأصـل فـيـه بـراءتـه مـن أن يـكـون هـو، ولـيـس الـنـص الـثـانـي وحـده، الـذي يـتـحـمـل مـسـؤلـيـة أزمـة الـفـكـر الاسـلامـي، وأزمـة فـهـم وتـطـبـيـق غـالـبـيـة الـمـسـلـمـيـن لـديـنـهـم، ومـا يـعـيـشـه عـالـم الأكـثـريـة الـمـسـلـمـة مـن تـعـصـب وانـغـلاق ووهـم امـتـلاك لـلـحـقـيـقـة الـمـطـلـقـة والـنـهـائيـة، وغـيـر الـقـابـلـة لـطـرح الأسـئلـة، عـلاوة عـلـى الـفـهـم والـمـمـارسـة لـلإسـلام مـن قـبـل الـجـمـاعـات الإرهـابـيـة. لـذلـك شـبـهـت فـي مـداخـلـتـي الـنـدوة، وكـأنـنـا أمـام بـنـايـة شـامـخـة وتـبـدو بـفـن مـعـمـاري غـيـر مـألـوف، نـعـلـم إجـمـالا مـدى أهـمـيـتـهـا، وانـعـكـاسـات مـخـرجـاتـهـا الإيـجـابـيـة مـنـهـا والـسـلـبـيـة الأكـثـر مـن الإيـجـابـيـة عـلـى الـشـعـوب الـمـعـنـيـة، بـل وعـلـى غـيـرهـم مـن سـكـان كـوكـب الأرض، فـبـقـيـنـا نـطـوف ونـحـوم حـول الـبـنـايـة، نـدقـق فـي واجـهـاتـهـا مـن جـهـاتـهـا الأربـع، ونـتـأمـل فـي أبـعـادهـا، وارتـفـاعـهـا، ونـحـسـب نـوافـذهـا، وسـعـة هـذه الـنـوافـذ، ومـن أي جـهـة تـنـفـد الـشـمـس مـن خـلالـهـا، وفـي أي وقـت مـن الـنـهـار، حـسـب كـل جـهـة مـن جـهـاتـهـا، ثـم نـتـأمـل فـي الـمـدخـل الـرئيـس، وربـمـا نـضـيـف إلـى مـراقـبـتـنـا الألـوان الـمـسـتـخـدمـة لـلـواجـهـة، لـكـن لـم يـفـكـر أحـد مـنـا أن يـجـرؤ عـلـى دخـول هـذا الـمـبـنـى الـغـريـب والـمـؤثـر، لـيـرى مـا فـي داخـلـه.

ويـفـتـرض بـالـمـفـكـريـن الـثـلاثـة أنـهـم يـعـلـمـون أن الـتـسـلـيـم بـإلـهـيـة مـصـدر الـنـص الـمُـؤسِّـس أو الـنـص الأول، وتـبـرئتـه مـن مـسـؤولـيـة الازمـة، لا مـبـرر لـه. فـي الـوقـت الـذي إنـنـا إذا ألـزمـنـا الـمـدارس الـعـقـلـيـة مـن مـدارس الـمـسـلـمـيـن، بـمـا ألـزمـت بـه نـفـسـهـا، وحـاكـمـنـا الـنـص الأول وفـق مـبـدأ أولـويـة الـعـقـل، وحـاكـمـيـة الـعـقـل عـلـى الـنـص، ولـيـس الـعـكـس، نـجـد إنـنـا إذا سـلـمـنـا بـمـتـانـة الاسـتـدلال الـعـقـلـي عـلـى وجـود الله، الـذي اسـتـفـاد عـلـمـاء الـكـلام الـمـسـلـمـون فـي ذلـك مـن مـدارس الـفـلـسـفـة والـمـنـطـق لـلإغـريـق، أكـثـر مـمـا اسـتـفـادوه مـن الـقـرآن فـي ذلـك، فـالـديـن لا يـسـعـه أن يـكـون إلا مـن الـمـمـكـنـات الـعـقـلـيـة، فـلا هـو مـن ضـرورات الـعـقـل كـمـا يـدعـون، ولا مـمـتـنـعـات الـعـقـل، كـمـا يـدعـي الـكـثـيـر مـن الـلاديـنـيـيـن. وهـنـا عـنـدمـا يـواجـه الـعـقـل مـمـكـنـا مـن الـمـمـكـنـات الـعـقـلـيـة، فـهـو أي الـعـقـل يـتـخـذ مـنـه ابـتـداءً، وبـوصـفـه كـمـفـهـوم فـي الـذهـن، مـوقـف الـحـيـاد، فـيـواصـل الـبـحـث بـاخـتـبـار مـصـداق أو مـصـاديـق الـمـفـهـوم الـمـجـرد، الـمـاثـل أو الـمـاثـلـة بـيـن يـديـه فـي الـواقـع، أي خـارج الـذهـن، فـيـصـل عـنـدهـا مـسـتـخـدم الـدلـيـل الـعـقـلـي، إمـا إلـى تـصـديـقـه، أو عـدم تـصـديـقـه. لـذا مـن غـيـر الـصـحـيـح أن نـحـمـل أزمـة الـديـن الـنـص الـمـفـسـر والـمـؤول حـصـرا، مـع الإقـرار بـتـحـمـلـهـمـا قـسـطـا كـبـيـرا مـن مـسـؤولـيـة ذلـك، بـل يـجـب قـبـل ذلـك الـتـحـلـي بـشـجـاعـة مـحـاكـمـة الـنـص الاول (الـمُـؤسِّـس)، مـن قـبـل مـحـكـمـة الـعـقـل.

ومـمـا جـرى نـقـده، هـو حـريـة الـتـأويـل عـلـى غـيـر مـا أول الأولـون، وتـحـمـيـل الـكـثـيـر مـن الـتـأويـل مـسـؤولـيـة الأزمـة كـمـا مـر، بـيـنـمـا أجـد أن عـلـيـنـا طـيّ مـلـف الـتـأويـل، لا بـل حـتـى الـتـفـسـيـر، والـتـحـرر مـن حـاكـمـيـة الـنـص الأول عـلـى فـكـرنـا وسـلـوكـنـا وكـل مـنـاحـي حـيـاتـنـا. فـلا بـد أن يـأتـي الـوقـت، الـذي يـأخـذ الـنـص الـمُـؤسِّـس مـكـانـه الـطـبـيـعـي الـمـنـاسـب لـه، فـيُـعَـدّ مـن الـتـاريـخ، لـه مـا لـه وعـلـيـه مـا عـلـيـه، تـمـامـا كـمـا إنـنـا لا نـرى أول لائحـة قـانـونـيـة عـرفـتـهـا الـبـشـريـة، ألا هـي مـسـلـة حـمـورابـي مـلـزمـة لـنـا فـي سـن دسـاتـيـرنـا وقـوانـيـنـا، لأنـنـا لا نـنـظـر إلـى مـسـلـة حـمـورابـي بـعـيـدا عـن تـاريـخـيـتـهـا، وبـالـتـالـي عـدم إلـزامـيـتـهـا عـبـر عـصـور مـا بـعـد عـصـرهـا. وعـلـى ذكـر تـاريـخـيـة الـنـص، الـذي جـرى تـنـاولـه أيـضـا فـي الـنـدوة، والـذي أرفـض اعـتـمـاده فـيـمـا يـتـعـلـق بـالـقـرآن (الـنـص الـمُـؤسِّـس)، لأن مـسـلـة حـمـورابـي وسـائر الـنـصـوص الـتـي أنـتـجـهـا الإنـسـان، سـواء الـشـعـر الـعـربـي، أو الـفـلـسـفـة الاغـريـقـيـة، أو غـيـرهـمـا، لا أحـد يـدعـي قـدسـيـتـه ونـهـائيـتـه وأبـديـة سـريـانـه، ولـذا أصـر عـلـى مـحـاكـمـة الـقـرآن فـي ضـوء اعـتـقـاد الـمـسـلـمـيـن بـإلـهـيـتـه، بـحـيـث يـجـب أن يـكـون مـا هـو صـادر عـن الـمـطـلـق تـعـالـى، مـطـلـق الـصـواب، ومـطـلـق الـصـلاحـيـة؛ تـلـك الـصـلاحـيـة الـمـمـتـدة عـلـى طـول الأزمـنـة كـلـهـا، ومـتـسـعـة لـجـغـرافـيـة كـوكـب الأرض مـوطـن الإنـسـان بـلا اسـتـثـنـاء، لـذا يـجـب أن يـكـون مـفـهـومـا مـن الـمـتـلـقـي (الإنـسـان الـمـخـاطـب مـن الـمـطـلـق)، مـن الـوهـلـة الأولـى دون الـحـاجـة إلـى تـفـسـيـر الـمـفـسـريـن وتـأويـل الـمـؤولـيـن. والـمـشـكـلـة فـي الـقـرآن أنـه يـخـتـلـف حـتـى عـن الـعـهـديـن الـقـديـم والـجـديـد، لأن ذيـنـك الـكـتـابـيـن يـشـبـهـان إلـى حـد كـبـيـر كـتـب الـحـديـث والـسـيـرة، والـتـي أصـبـح يـشـكـك فـي أكـثـر مـا ورد فـيـهـا أكـثـر الـمـفـكـريـن الـمـسـلـمـيـن مـن كـلا الـطـائفـتـيـن.

وكـمـا جـرت الإشـارة إلـى تـعـدد (الإسـلامـات) فـي الـواقـع نـتـيـجـة الـتـفـسـيـر والـتـأويـل، وهـذا، وهـو مـا كـررتـه مـرارا، إن الـنـص الـمُـؤسِّـس هـو الـذي أسـس لـتـعـدد صـور الإسـلام، لـكـونـه حـمّـال أوجـه، كـمـا يُـنـسَـب إلـى عـلـيّ، ولأنـه اشـتـمـل عـلـى الـمـتـشـابـهـات، أي تـلـك الـنـصـوص مـتـعـددة الـفـهـم، بـعـكـس الـمـحـكـمـات ذات الـمـعـنـى الـواحـد، الـذي هـو نـفـس الـمـعـنـى الـمـفـهـوم مـن ظـاهـر الـنـص، دون الـحـاجـة إلـى الـتـأويـل. ولـطـالـمـا قـلـت إن كـل الاسـلامـات بـتـنـوعـهـا وتـفـاوتـهـا والـتـنـاقـضـات فـيـمـا بـيـنـهـا تـسـتـنـد إلـى أدلـة مـتـيـنـة ومـقـنـعـة مـن الـكـتـاب والـسـنـة، مـن نـفـس الـكـتـاب (الـنـص الـمُـؤسِّـس) ونـفـس الـسـنـة.

ثـم جـاء الـمـفـسـرون والـمـؤولـون والـمـجـتـهـدون لـيـصـنـعـوا مـن أنـفـسـهـم طـبـقـة عـلـويـة، فـلا يـكـتـفـون بـدعـوى الـقـداسـة لـلـنـص الـمُـؤسِّـس، بـل أصـبـحـت نـصـوصـهـم الـثـانـيـة الـمـسـتـنـبـطـة مـن الـنـص الـمُـؤسِّـس مـقـدسـة هـي الأخـرى، ويـكـفـِّر مـن يـشـكـك بـهـا. وعـلـى ذكـر الـكـفـر، فـإنـي أصـر عـلـى ألا وجـود لـلـكـفـر بـالـمـعـنـى الـديـنـي، بـل هـنـاك إيـمـان وإيـمـان مـغـايـر، والـمـتـطـرفـون والـيـقـيـنـيـون بـمـا هـو لـيـس يـقـيـنـيـا بـحـكـم الـعـقـل، هـم الـذيـن يـوصـمـون الإيـمـان الـمـغـايـر بـالـكـفـر، وهـذا مـا أدبـهـم عـلـيـه الـنـص الـمُـؤسِّـس الآتـي حـسـب ظـنـهـم مـن الـمـقـدس الأعـلـى سـبـحـانـه وتـعـالـى عـن ذلـك. وهـذه الـطـبـقـة صـنـعـت الـطـبـقـيـة فـي فـهـم الـديـن، فـهـم يـمـثـلـون الـطـبـقـة الـمُـلـقـِّنـة، والـمـسـلـمـون الـعـاديـون يـمـثـلـون طـبـقـة الـمـتـلـقـيـن بـلا نـقـاش.

أحدث المقالات