23 ديسمبر، 2024 7:33 م

الـدولة والمجتمع في العراق المعاصـر

الـدولة والمجتمع في العراق المعاصـر

إن  الدراسة التي نحن بصددها، هـي اشتغال بـ سوسيولوجيا السياسية أو علـم الاجتماع السياسي ، ولما كانت السوسيولوجيا (علم الاجتمـاع) قد وجدت أصلاً لتقابل حاجات وهموم المجتمع وتفـي بتطلعاته سواء أكانت مرحلية أم مستقبليـة فانه يجب على المشتغلين بها التزام هـذا الشرط الذي هـو أول عوامل وجودهـا . فإذا مـا تمت مصادرة هذا الشرط مقدماً لسبب أو لآخر فلا أقـل من الاستغناء عن هـذا الميدان من حقول المعرفـة .
وعـلى الرغم من أن عنوان الدراسة / الكتـاب يشير إلى عمل كبير يشمل العديد من الجوانب فـالمؤلف يعترف بداية من أن قصـده هو أكثـر تواضعاً ، فانه لا يـريد التطرق إلى جميع القضايا التي يطـرحها موضوع تاريخ العلاقـة بين الدولة والمجتمع في العـراق ولا بحث مجمل القضايا التـي تطرحها سوسيولـوجيا المؤسسة السياسية فـي مرحلة تاريخية مهمة من تاريـخ العراق وهي مرحلة قيام الـدولة بشكلها المعاصر منـذ تأسيسها في العقد الثالث مـن القرن الماضي وحتى سقوطها المفزع بالاحتـلال الأمريكي بوصفها القضية الأساس فـي الكتاب ، والموضوع المركـزي الذي تضمن ثلاثة أسئلة حاول المـؤلف الإجابة عنها قدر استطاعته وهـي :
1- مـا هي المؤسسة السياسية ممثلة بالدولة وكيف تؤدي دورها في المجتمع عموماً ؟
2- مـا طبيعة الدولة التي تكونت في العراق بين 1921 و 2003 ؟
3- مـا العلاقة بين الدولة والمجتمع في العراق المعاصر ؟

إن اهتمـام الباحثين في السوسيولوجيا السياسية لا ينصب علـى الدساتير وإشكال الحكومـة ولا على الصيـغ التي تحقق بها الدول وظائفهـا المختلفة فحسب بل عادة مـا يسعى هؤلاء إلـى أبراز طـابع الدولة باعتبارها شكلاً مميـزاً من إشكال المؤسسة الاجتماعيـة والى اكتشاف نمطها الاجتمـاعي إذا صح التعبيـر ومن ثم الكشف عن علاقاتهـا المميزة بالأنساق والأجزاء الأخـرى من النظام الاجتماعي . وعنـدما نوصف الدولة بأنها مؤسسة فـان هذا الوصف يشير إلى إنهـا تنظيم محدد في المجتمـع ، ومن ثم يتـم تمييزها عن السلطة السيـاسية من جهة وعن المجتـمع كمستوعب لها (المؤسسة السياسية) بـالإضافة إلى مؤسسـات الأخرى من جهة ثانيـة .
إن الأزمـة البنيوية الاجتماعية للمؤسسة السياسية في العـراق والتي وصلت إلى ذروتهـا بسقوط الـدولة وتلاشي مؤسساتها في إعقـاب الاحتلال الأميركي لا يمكن فهمهـا دون تفكيك طبيعة هـذه الدولة التي تشكلت في العراق عـام 1921 ، كونها مصدراً للأحقاد ومنبعاً للهزائم والأزمات المتلاحقة فـي التاريخ الحديث لمجتمع العـراق . هذه الـدولة وهي وريثة الاستعمار المباشر أدركت مبـكراً أنها لا يمكن أن تكون التعبير الحقيـقي عن المجتمع العراقي بفعـل غربتها عن ثقافة أغلبية الأفراد والجمـاعات والفئات في هذا المجتمع وعن المخزون النفسي والتاريخي للأغلبيـة ، أي عن التراث المحكوم بالثقل الـديني (الإسلامي تحـديداً) . كمـا إنها ابتعدت أيضاً عن لمَّ شمل المجتمع وفقاً لآليـة التنوع في أطار الوحدة .
إن ظهـور الدولة العراقية الحديثة فـي عشرينات القرن الماضي لم يكن فعلاً أصيلاً وتلقائياً . من هنـا كثرت عُقدها المتناثرة في مـا يسمى بفسيفساء مكونات المجتمع الاثنية والطائفية والدينيـة . فقـد كان الانتداب البريطانـي والحكم الملكي النتاج المـركب للضعف البنيوي الهائل في العراق عند مشارف الربـع الأول من القرن العشرين وهـو واقع وجد انعكاسه في شكل الدولة العراقية الحديثة ومضمـونها كونها دولة بلا نموذج ممـا أدى إلى نهايتها الفاجعة فـي 9/ نيسان /2003 .
إن الكتـاب وعبر طرحه مجموعة من الأسئلة حـول : مـاهية العلاقة بين المؤسسة السياسيـة ممثلة بالدولة وبين المجتمع ؟ وهـل هذه العلاقة حقيقية أو افتـراضية مفتعلة ؟ جدلية أو غيـر ذلك ؟ تحاول ـ أي هـذه الأسئلة ـ أثارة مجموعة من المؤشرات النظرية التي سوف تعتمد في الجانب التحليـلي والتي تفضي بدورها إلى المسـألة الثانية وهي أن الدراسة بالإجمال هـي محاولة لإيجاد بضـع إجابات عن التساؤل ، وذلـك عبر مجموعة المعطيات التي تبحث في التاريخ السياسي للعـراق منذ تأسيس الدولة الحديثة فيه عـام 1921 ، وحتى سقـوطها بالاحتلال الأمريكي في شهر نيسان عام 2003 وذلـك في ضوء ما استجد من تنظيرات في علم الاجتمـاع .
إن المؤسسـة السياسية بوصفها تمثل إحدى المؤسسات المؤثرة فـي المجتمع وتنبع أساساً من الـواقع الاجتماعي الذي تنتمي إليـه وتنصهر في بوتقته فإنها تعطـي انطباعاً عن هذا الواقع لكنها بالمقابل تبقـى فاعلة في هذا المجتمع أكثـر من أي مؤسسة أخرى فيـه .
فـالدولة من وجهة نظر علم الاجتماع بوصفها أعلـى التنظيمات الاجتماعية دقـة ووضوحاً في المجتمع من جهة ولأنها هـي التي تقوم بإدارة المجتمع وتملك زمـام المبادرة الفعلية في توجيهه من جهة ثانيـة فإنها تمثل واجهة مؤسساته خير تمثيـل . ولما كـانت الدولة تتسم بسمات المجتمع الموجـودة فيه وتتفاعل معه بطريقة تتبلـور معها أدوارها المهمة وأول هـذه الأدوار أدارة ذلك المجتمع وتنظيمه وتؤثر ـ بوجـه خاص ـ في توجهها ـ أي الـدولة ـ نحو الأهـداف الإستراتيجية للمجتمع . فعليه لابـد للمشتغلين في السياسة مـن أن يتأثروا بما يفرزه الواقع الاجتماعـي .
فعن طـريق سبر أغوار المؤسسة السياسية من وجهـة نظر علم الاجتماع حـاول المؤلف الكشـف عن علاقة هذه المؤسسة بواقـع الحياة الاجتماعية والمجتمع عموماً . يبـدو أن العامل الاجتماعي ذو أهميـة فاعلة في المؤسسة السياسية بـل في السياسة عموماً ولاسيمـا في المجتمع العـراقي حيث يبدو واضح وجلـي . فمن البديهـي أن المجتمع في العراق سـابق على الدولة الحديثة التي تكونت فـي بداية العقد الثالث مـن القرن الماضي رغم أن المؤسسـة السياسية ممثلة بالدولة وأنظمة الحكـم السياسي ـ أي النسق السياسي ـ كـانت ولم تزل تشكل ركناً أساساً من بنى المجتمع ومكوناتـه . والنسق الأكثر فاعليـة على مدى تاريخه العريق ولكـن المؤكد أيضاً إنها لم تكن مطابقـة أو حتى مقاربـة التصورات الحديثة عنهـا .
إن هـذه الحقيقة التاريخية يمكن أن تمنحهـا تصوراً واضحاً عن مدى التأثيـر الذي تملكه العوامل أو المتغيـرات الاجتماعية والثقافية .. فـي المؤسسة السياسية العراقيـة . صحيح إن هنـالك بالتأكيد دوراً مهماً تلعبه المؤسسـة السياسية ممثله بالدولة عموماً في حياة أي مجتمـع . وبشكل خـاص فـي قضايا التنمية والأهداف الإستـراتيجية للمجتمع . هذا من جهة ، ومن الجهة الأخرى فـان تنامي وعي المجتمع بأهمية السيـاسة عموماً وبـأنظمة سياسية معينة تحديداً هو دليـل على اهتمام المجتمع بالقضايـا السياسية ، كذلك فـان الإقبال الذي تشهده النشاطـات السياسية من انتخـابات وتظاهرات وندوات وحوارات .. ومـا إلى ذلك من الفعاليات السياسية على المستوى الشعبـي في مجتمع العراق هـو دليل آخر . لـكن بالمقابل فان هنالك هـوة كبيرة وابتعاداً واضحـاً بين المجتمع الـواسع وبين القضايا السياسيـة الملحة أو المهمة في حيـاة المجتمع بل أن هناك تخوفاً جلياً من الخوض فـي المواضيع والقضايا السياسية رغـم كثرة الكتب والإصدارات والمقالات التي تعني بشـرح وتوصيل المعلومات عن هذا الموضـوع .
وثـمة تناقض واضح بـل ثمة مفارقة .. فهـذا المجتمع الذي طالمـا سُيَّسَ ظهر ساعة سقوط الـدولة بلا سياسة لأنه ببساطة لـم يعد يمتلك مقومات المجتمع السياسي المعاصر فهو بلا أحزاب ونقابات وجمعيـات وروابط وهيئات مستقلة وبلا تنظيمات مهنيـة وحرفية تستطيع أن تقوم بمبادرة وان وجـدت فقد كانت قد اختزلت إلى مجـرد ملحق تافه بالنظام السياسي وضمن إطـار وطني عام فان من غُيـب طويلاً آثر الغياب وهو مجتمع بكامـله ظهر من دون حيلة ووجهه على الجدار مفزوعاً مما يـرى وفي شروط تحكمَّ فيهـا المجهول والغياب فمن كان يستطيع الدفاع عن الدولة الوطنية غير مواطنـين أحرار . لـكن لم يعد هناك من مواطنيـن بل مجرد رعايـا ؟!
إن المـؤسسات الاجتماعية عامة والمؤسسات السياسية بـالتحديد هي أهم ركائـز المجتمع ودعائمه التـي يقف عليها بثبات إذا مـا كانت ثابتة ورصينة والعكس صحيـح إذ أن المؤسسات الاجتماعية الضعيفـة أو المتفككة لا تنتج مجتمعاً متماسكاً ، وعليـه فان البحث في نشأتها وتأسيسها وآليـات عملها ينتج خبرات اكبـر في التعامل بوعي مع هـذه المؤسسات ويسهم فـي تنميتها وتطويرهـا . فالمؤسسة السياسية (الدولـة) تعكس بالضرورة رؤيـة المشتغلين بالسياسة إلى مجتمعهم والـى قضاياه وطموحاته ومشاكله الراهنة بوصفهم إفـراداً في ذلك المجتمع وأعضاء مشاركين فـي بنائـه .
ووفقـاً لما سبق ، فان دراسة سوسيولوجيا الدولة في مجتمع العراق المعاصر تأخذ أهميتها لاعتبـارين :
الأول ـ أهميـة العوامل الاجتماعية في بلـورة الدولة الحديثة في العراق تحديـداً .
الثاني ـ أهميـة الدور الذي تؤديـه هذه المؤسسة في المجتمـع .
فـالمؤسسة السياسية هي التي أنتجت أحـداثا وظواهر اجتماعية وتاريخية هامة وحاولت أن تـؤرخ لها بشكل أو بآخر . ورغـم أن السياسي المشتغل بالسياسة في العـراق لم يكن يهتم بالانتماء إلى المجتمـع بالمعنى الدقيق لكلمة الانتماء وذلـك في عهود طويلة من تاريخ العـراق فهو عادة ما يكون مـن أبناء الطبقة المترفة العليـا أو المتوسطة وهو يحاول في معظم الأحيان الترفع عن الغالبيـة مـن إفراد المجتمع (الطبقة المسحوقة) إلا انه في مجـال آخر كان يعبر عن وضع اجتماعي خاص ذلك انه كـان يعتمد على طبقته أو ملكيتـه الاقتصادية أو نفوذه العشائري أو مكانته الاجتماعية ، وكان السياسي مرتبطاً بهذا الوضـع .
قـد لا نتفق مع المؤلف في كـل ما ذهب إليه في كتابه ، غيـر أن هذا لا يمنع من تقديـرنا للجهد الذي بذله ، إذ يعتبر بحق المحاولة الأولـى الجادة والوافية لدراسة أحوال المجتمع العـراقي وتقلباته السياسية خلال الفترة مـــن 1921 حتـى 2003 .
ولاشـك في أن هذه المهمة التي آثر المؤلـف أن يحمل عبئها شائكة وعسيرة ليـس من حيث صعوبتها وحسب بـل من حيث كونها تضعه على خطوط التماس مـع المقدس الديني لهذا الجانب أو ذاك أو ذلـك .. وما أكثر الجوانـب المقدسة دينياً أو بالأحرى إيديـولوجيا في بلد متعدد المقدسات والأعراق حتى في تاريخه وجغرافيتـه .
ومهـما حاول المؤلف أن يكون حيـادياً وعلمياً فانه لن يستطيع أن يـرضي جميع الإطراف خـاصة وان الدراسة العلمية لا يقصد بها إرضـاء هذا أو ذاك وإنما البحث عن الحقيقة ، والحديث عن الواقع كمـا هو وصولاً إلى اكتشاف العلاقة بيـن الحدث وأسبابه بين الظاهرة وعللها ليصار بالتالي إلى اخـذ العبرة وتلاقي الوقوع في التجـربة نفسها مرات ومرات حتى لا نتجرع كـأس الخلافات والاختلافات ثم للتخـلف كلما عصفت بمجتمعنا المحن ومـا أكثرها التي عرفناها عبر التاريـخ .
وإذا كان لابـد لنا من ملاحظة حول المنهج الـذي اتبعه المؤلف في كتابه فهو انه وقع في نفس المحظور الـذي يقع فيه أحيانا كتـّاب الفكر الديني باستشهادهم بقول المفكر الديني فلان أو فلان معتبـرين كلامه أمراً بديهياً يقبله الجميـع .
مـا نريد أن ننبه إليه في معرض حديثـنا عن هذا الكتاب .. أن كلام هذا أو ذاك سواء من المفكـرين أو علماء الدين ليس بالضرورة أن يكون كلاماً سليماً وحقيقة بديهية يسلم بها الجميـع . صحيح أن المؤلـف اعتمد الأدوات والتقنيات الغـربية المنهجية في توصيفه لمفردات المجتمع العراقـــي .. لكن هـذا لا يعطيه المبرر كي يمر على هذه المصطلحات باعتبارها مسلمات فيبني تحليلاته على أسـاسها من دون مناقشتها أو الوقوف عندهـا .
وعـن تأسيس الدولة العراقية ، يـذكر المؤلف أنها تكونت اثر الحـرب العالمية الأولى على أيـدي البريطانيين الذين عملوا على بنـاء المؤسسات الدستورية والجهاز البيـروقراطي ، إلا انه على الرغـم من وجود نخبة سياسية محلية متنـورة ومطبوعة بالطابع الغربي تطمح إلـى بناء دولة حديثة ومجتمع مدنـي ، فان طبيعة القـوى التقليدية والزعماء التقليديين المحافظين الخاضعين للهيمنة البريطانية من جهـة والفسيسفاء الاجتماعية من جهة ثانيـة جعلا من العملية السياسية لبنـاء شكل حديـث للسلطة وبالتـالي بناء نظـام سياسي جديد للدولة العـراقية الحديثة عملية نخبوية تفتقر إلى قنوات مناسبة لنشـر الوعي الديمقراطي وتحقيق المشاركة الشعبية في الحياة السياسية فكانت الدولة تفتـقر إلى المشروعية والشرعية في الوقت ذاتـه .
والمـلاحظة الثانية التي يبديها المؤلف على الدولة العـراقية إنها منذ أن تكونت كـان الإقصاء والتهميش هو الهاجس الأول لهـا ، فطوال الأعوام آلـ (37) من عمـر الحكم الملـكي في العراق ظل التهميش هـو حصة اكبر الفئات في المجتمع العراقـي وهم الشيعة . وكـان الإقصاء حصة لأكبـر الحركات السياسية العراقية ممثلة بـالحزب الشيوعي العراقي الذي كـان يشكل ومنـذ تأسيسه في بداية الثلاثينـات من القرن الماضي القوة الأساس فـي الشارع السياسي العراقي التـي كانت تستطيع أن تحـرك الشارع بأكثر مما تفعل أي قـوة سياسية معارضة أخرى بل بأكثر مما تفعل الحكومة والملـك نفسه ومع ذلك فقد كانت الاعتقالات والقمع والمنـع من العمل العلني هو ما واجهه هذا التنظيـم .
كمـا أن السمة الأساس والأبـرز للدولة العراقية إضافة إلى سمة الإقصاء والتهميش ـ احد استنتـاجات المؤلف غير العلمية ـ هي تطرفها الاثنـي . وسـواءً كان الحكام مدنيين أو عسكريين فقـد ظل هاجسهم الأول هو انتماؤهم الاثنـي . فـالسمة الغالبة على التوجيهات السياسية للـدولة كانت الاثنية الشوفينية البغيضة التـي وان بـدت مثالية فان ممارستها بطبيعة الحـال بدأت تصطدم بالواقع الداخلي للمجتمع في العراق المتعدد اثنياً والمتنوع داخل تعـدده ذاك . وقـد تطور تأثير التطرف الاثني الشوفينـي بشكل سافر فـي الثلاثينات عندما تـأسست الجمعيات والنوادي القومية ببغداد ، وقـاد ذلك على المدى البعيد إلى سلسلة مشكلات وانقسـامات وانقلابات ومؤامرات وحروب في نهاية القرن العشرين ، دفع العراق فيها أثماناً باهضـة .
إن التطـرف الاثني الشوفيني كانت تصحبه ميـول طائفية شديدة النزعـة . فالسمة السياسية الأكثـر فاعلية في الدولة العراقيـة كانت تطيفّها السياسي . فعلـى الرغم من الادعاءات القومية التي سادت الـدولة العراقية ألا أن الميل الطائفـي كان هو الأكثر تأثيراً وخصوصاً فـي عملية اختبار كوادر الدولة والجيش ، فمثـلاً وعلى الرغم من العداء المعلن للأكـراد فأنهم مفضلين على الشيعة العـرب فــي مختلف المجالات المهمة وخصوصاً الجيش . وسواء كان حكام الدولة مدنيين أو عسكريين علمانيـين أو اسلامويين فقد ظل هـاجسهم الأول هو انتماؤهم الطائفـي .
إن الاثنـية الشوفينية للدولة الحديثة في العراق وتطيفّها السياسي يؤكدان حقيقة الفرضية التي افتـرضها المؤلف حول غلبة النسق الثقافـي على النسق الاقتصادي في تكويـن وتسيير العقل السياسي في العـراق .
إن المجتمع العـراقي متعدد اثنياً ودينياً وطائفياً ، وقـد كان لهذا التعدد أثره السلبي في عدم نضـج مشروع هوية المواطن العراقيـة وبالتالي مشروع الدولة الحديثة ككـل ، فالمجتمع يتحمل جزءاً مـن تعقد الإشكالية ، لكـن الجزء الأكبر يقع على عاتق الدولـة . فالدولة وطـوال سنين عمرها لم تفعل الهوية الوطنـية العراقية كعامل مشترك يسـاعد في اندماج الانتماءات والولاءات المتعـددة والوصول بها إلى هوية المواطنـة .
إن هـذا الأمر الذي بات معروفاً في مطلـع عقد التسعينات من القرن العشرين لقلة من المختصيـن في الشأن العراقي (سوسيولوجياً ومجتمعياً) وقـد بدأ واضحاً في مقالاتهم وبحوثهم لا يقوم على أسس واهيـة بل أن ذلك يستند إلى ما ظلت تقوم عليه دولـة العراق الحديثة طوال أعوامها التي أعقبت موت الملك فيصـل الأول .
لقـد ترافق هذا القلق والتشتت مع الانقسام الطائفـي (الشيعي / السني) الذي كان أكثـر حدة مـن الانقسام الاجتماعي أي الانقسام الطبقـي . وبكلمات أخرى ، فان المجموعات التـي كانت تنتمي فـي مدن العراق إلى عقائـد دينية أو طوائف أو طبقات مختلفة أو كانت من أصول اثنية أو عشائرية مختلفة كـانت تميل إلى أن تعيش في محلات منفصـلة . فقد قـامت بنية المجتمع في العراق ولا تزال تقـوم على أساس الانقسامات الدينية أو الطائفية أو الاثنية أو العشائرية داخـل المدينة الواحدة حيث كانت المحـلة تشكل عالماً خاصاً لكل صنف اجتمـاعي من هذه الأصناف المذكـورة .
إن تفـاوت التوزيع الطائفي أولاً بين السنة والشيعة تحديـداً والتوزيع الديني بين المسلمين وباقـي الأديان قد مثل خللاً آخر داخـل المؤسسة السياسية . فمن جهـة ظل الشيعة الذين يمثلون طـائفة كبيرة في المجتمع العراقـي محرومين من المشاركة السياسية الفاعلة في بدايات تأسيس الدولة في العهـد الملكي الأمر الذي تنبه لـه الملك فيصل الأول في واحدة من مذكراته السرية . ومن جهة أخرى لـم يكن لباقي الأديان باستثنـاء اليهود أي ممثل في الوزارة الأولـى .
إن تفـاوت التوزيع الاثني بين العـرب والاثنيات الأخرى قـد مثل خللاً مضافاً داخل المؤسسة السياسية . فالمؤسسة السياسية العراقية الأولى وطـوال سنواتها في العهد الملكي ظـلت تفتقر إلى التنـوع الاثني الذي كان يزخر به العـراق .
علـى الرغم من كل الاستنتاجات غير العلمية المبنية للأسف علـى أساس الانحدار الطائفي والمذهبـي والطبقي للمؤلف إلا أن الكتاب يقدم ـ نوعـاً ما ـ بحثاً مفيداً في بعـض جوانبه التي تلقي الضوء علـى فترة شابها الكثير من اللبس والتـداخل في تاريخ العراق الحديـث . كان على البــاحث أن يضع فـي اعتباره أن هناك عوامل عديـدة لها مدخليات حقيقية وفاعلة في تحريــك أحداث التاريـخ .. إذ يجـب أن نلاحظ أن كل أحداث التـاريخ يقف خلفها بشـر حقيقيون كانت لهم مشاعر وأفكار ومعتقـدات وآمال وأحلام وهـي بغض النظر عن كونها صادقة أو كـاذبة مخطئة أو صائبة فإنها كانـت موجودة على ارض الواقع وقـد حركت أصحابها ومن يدور فـي فلكهم إلى الإمــام والتقدم أو إلى الخلف والتأخر وأحيـاناً كثيرة إلى الجنون والى النتائج الكارثيـة .
إن لـدينا الكثير الكثير لكن القضية تحتـاج إلى مـزيد من البحث والى إيغال أكثر فـي أعماق التـاريخ والى التتبع الجيد والمنصف لثنايـا الإحداث التي يزخر بها تاريــخ البشرية بشكل عام وتاريخنا بشكل خـاص .

* الكتـاب :
الـدولة والمجتمع في العراق المعاصر ، سوسيولوجيا المؤسسة السياسية في العراق 1921ـ2003 ، تأليـف : علي وتوت ، ط1 ، مركز دراسات المشرق العربي ، بغـداد / بيروت ، 2008 ، 623 ص .
[email protected]