23 ديسمبر، 2024 1:45 م

قصة قصيرة
   قبل آذان المغرب بنصف ساعة بدأ الحاج حمزة بلملمة موجودات دكانه المؤلفة من التحفيات التي تحمل نقوشا ً لرسوم سومرية وآشورية وبابلية وأخرى مصرية تضم تماثيل لتوت عنخ آمون ونفرتيتي وابي سمبل وغيرها من الحاجيات  المنزلية كالهاونات وميازين البقالين مع اوزانها المختلفة الاشكال ، ثم يبقي البعض منها بعد اكمال صلاته .
   بعد ان قضى صلاته ، شرع الحاج بإدخال ما تبقى من الموجودات ثم أقفل الدكان بعناء رجل أشرف على السبعين من العمر . أعتدل ليخرج انبوبة البخاخ الزرقاء من جيبه وضغط عليها مرة واحدة مستنشقا ًهواءها النقي المضغوط مع هواء السوق الذي بدأ بالتحسن ، تبعها زفير طويل وهو يستند على طاولة العرض الامامية للتحفيات وعيناه تحدقان في السماء متمتمآ في نفسه : رب  لاتجعلني اغرز انفاسي كالمسامير في صدري , ثم بدأ يطلق انفاسه بهدوء , بينما راحت النجوم تتجمع في السماء المظلمه ببرود    .
   أعلنت الساعة السادسة والنصف في جهاز المذياع الذي يمتلكه جاره العتيد ابو زهرة الذي اعتاد ان يطيل في زمن ادخال أغراضه التي تشابه اغراض الحاج حمزة عسى ان يصطاد ما تبقى من المشترين ، لأنه يدرك ان الحاج لا طاقة له بعد هذا الوقت من ايام الخريف . أما باقي حوانيت سوق الهرج فقد أغلقت ابوابها وأنسَّل أصحابها الى بيوتهم في هدوء معتاد .
   أنتصب الحاج حمزة قائما ً وهو يهمّ بوضع عباءته الزري السوداء تحت أبطه الايسر كمن يريد ترك الامور لتأخذ زمامها بنفسها .  أقبل نحوه رجلا ًقصيرآ بخطوات سريعة , كان يبدو عليه ضيق التنفس . سلم على الحاج بتحية المساء وتبع ذلك بقوله :  ” أعترف لك يا حاج بأنني متجاوز بعض الشيء . فأرجو المعذرة ، لكن ماذا أفعل  وقد مات أبي ونصبت له مجلس العزاء وجئت اليك لأشتري دلتين للقهوة احداهما  قمقم كبير والاخرى صغيرة للتقديم , لاقوم بواجب المعزّين .لم يتردد الحاج بالرّد فقال : “البقاء لله ،ثم تابع : “لكن يابني انني اغلقت الباب والدلال تقبع في عمق الدكان و تعترضهما اشياء كثيرة  ,”ثم استدرك : “ابحث عن دكانا  اخر في الجوار لعلك تجد ضالتك فيه.”
    التفت الرجل محدقآ في دكان ابي زهره الذي زاد في جلجلة اوانيه النحاسية شديدة التلألؤ تحت اضواء دكانه المليء بها فبدا كأنه فجّ لكنز قديم تحلّق به النفس ، إلا انه رد قائلا ً : ” على اية  حال انا اشكر لك احترامك لي واهتمامك ، لكن ما عذري والقهوة تقدم بالدلال !” والاصدقاء ينقلبون أعداء حينما تطرق قلوبهم بمطارق البخل .   “الا يقّدر الناس حكم الوقت ؟  كيف تنظمّ الحياة اذن  ؟! ”  رد عليه الحاج  ثم تابع يقول : وهل نقبّل أفواههم على مايقولون من ترهات ؟!
    أستغرق الحاج حمزة مع نفسه وظن ان الرجل سيقتنع برأيه او انه سيعود في الغد  . لكن الرجل قال : “الا ترى يا حاج بان الافتراض المعمول به هذه الايام هو تقديم الشيء في مناسباته ولا اعتبار للوقت او اي شيء آخر لأن الناس تهدف الى تقديم الاشياء كما يتوقعها الطالبون ” ثم تابع يقول :  ثم إن الرجال لاتصافح اليد الميته ! خيّم الصمت بينما راح الوقت يمضي وكأن غيوم الموت دخلت رأسيهما .
     أدخل الحاج حمزة يده في جيبه ليخرج انبوبة الهواء المضغوط ثانية , وضغط عليها مستنشقا ً مزيجا ً من هواء السوق الذي امسى رطبا ً هذه المرة مع هواء الانبوبة وقال بتبرم :” حتى الصخور ,  ياولدي تحمل في جوانبها اخاديد الشيخوخة ثم تذرها الرياح شيئآ فشيئا الى الفناء . وفجأة انطلقت أسراب الخفافيش من بين جدران المباني القديمة بزعيقها الخافت محطمة ماتبقى من صمتهما فقال الحاج : هاهو الخفاش وقد ضجر من سكينته طوال النهار وأنا مازلت هنا لم أكمل بعد أبيات قصيدتي في أقناعك ياولدي , وأظن سأنهي هذه الانبوبة هنا فالساعة ألآن تشير الى السادسة والاربعين دقيقة وانت تضعنا للتو في خانة المتوقعين والله اعلم اين سينتهي بنا الأمر إن لم افتح  لك الدكان.” قهقه الرجل ربما لأنه قوّض رأي الحاج فنتج عنه استسلامه لصالح فتح الباب .
   قبل ان يغير الحاج وجهته نحو أقفال الباب المصنوع من الصفيح المضلع المطوي كالسجادة نحو الأعلى ، عطس ابو زهرة بشكل مفتعل وهو يرفع دلة القهوة النحاسية وبدأ ينكثها بقوة مما جعل الغطاء ينزلق ويرتد محدثا ً جلجلة مدوية مع تطاير غبار السوق العالق بها طوال النهار . التفت الرجل اليه دون ان يظهر أية إمارة تدل على الاهتمام . اما الحاج حمزة فقد استدار نحو دكانه ليفتح اقفاله وهو ينشد أبياتآ من الشعر الهجائي . تنبه الرجل الى أبيات الحاج  فأدرك أنه يركب حصانآ ميتآ وأن كبريائه يمنعه من أن يرى أو يسمع غناء الذباب فوق لحم فاسد , فتمتم  بكلمات يجيب على أبياته قائلآ :  ” السمو هو الطريقة الاكثر جمالا ًللرد عما يختلج في النفس مما تفعله المواجه” التفت اليه الحاج مبتسما ً وهو يلج المفتاح الخاص بالقفل الداخلي السري قائلا ً :”رجل في ثلاثينيات العمر وينطق بالحكمة ؟! هذا لا يصدق أبدا ً. “
     كيف عرفت انني في الثلاثينات من العمر ان لم تكن حكيما ًايضا.” أجابه الرجل   . ضحك الاثنان  ثم استدرك الحاج يحدثه  :  “أتظن ان العملية ستتم خلال الدقائق الباقية  ؟”  تأوه الرجل وهو يحدق في أسراب أخرى من الخفافيش وهي تؤوب تارة في شقوقها و في جدران الدكان الخارجية التي اندلقت فوقه أضواء دكان ابو زهرة تارة أخرى ليقول :” إلا إذا رميت بنظام الساعة من على ظهر جوادك .”ضحك الحاج ثانية وهو يخرج القفل الداخلي ليتقدم نحو الاقفال الخارجية قائلاً  : ” الجواد ثانية ياولدي ؟!  والحياة كيف ننظمها يا بني؟” دهش الرجل قائلا ً :” أتلومني يا حاج لِمَ جئت في هذه الساعة وها أنت تظهر لي مقدار الثمن الذي دفعته من اجل هذا الإدراك الواعي.” ثم اضاف :”اتعلم انني كنت على وشك ان اتسبب في موت ابي يوماً ، فقد كان ذا نزعة تعصبية للزمن بسبب الدواء الذي يأخذه بغية أن يقتنع بالشفاء.”
    رفع الحاج حمزة الباب المطوي ومد يده على زر النور ليندلق بين موجودات الدكان  التي بدت هي الاخرى مثل كنز الحكايات الغابرة يرافقه صوت ابو زهرة محييا  بعبارات التمجيد دون ان يلتفت اليه الحاج بل استدار الى الرجل ليقول له  :” عم تتحدث يا رجل ، احقا ً تسببت في ذلك وأنهيت حكايته الآن ؟ ام انك تتكلم مجازا ً؟!
    نظر الرجل إلى الحاج نظرة تساؤل ثم رمق ابا زهرة بنظرات شزر ثم ابتسم وقال :” هل صدّقت ذلك يا حاج ؟ ” ثم اردف بلهجة يشوبها الحزن :” كنت اعشق تمتمته مع ضربات حبات مسبحته اليسر التي كان يتباهى بها أمام أصحابه أيام قوته ، لكن وجهه اصبح كالتراب وبدأ كلامه يتسلل من فمه بصعوبة وتشابهه في نومه مع الدجاج بعد لحظات من تناوله دواءه  . كانت امي تقول له : ” ايها الرجل ، قم من فراشك واخرج فقد سكنته أشباح الموت “. توقف الرجل عن الكلام وهو ينظر في وجه الحاج وقد أندلق فوقه ضوء المصباح المعلق ليقول :” كانت أمي تقول لنا : لا طائل من أبيكم فقد اختلت عنده كل الاشياء  الا من الزمن فجعله مسبحة لدوائه  .”
   بدا العناء يتسلل الى بدن الحاج وهو يخرج التحفيات الواحدة تلوا الاخرى وهو يتمتم :” الحياة شيء قد نضحي لها احيانا ً أما هذا الرجل فيدفعني الى عدم الاهتمام بها ، اما جاري فهو غير معني على غير عادته بالذي أنا فيه وربما يقع ضمن تصنيف أخر وها انا بين خيارين :” ان اتقبل انسانيتي وافعل مااقوم به الآن او اكون مثل جاري اتّبع جلجلة الأنانية هذه المرة وهذا أمر لم أألفه منه  .” ثم التفت الى الرجل الذي ازاح كوفيته عن رأسه  ليمسح قطرات العرق المكتنزه فوق وجهه وهو يناوله القمقم والدلة معا ً هاتفآ :” الحمد لله الذي جعلنا نقدم ما استطعنا بما يتناسب مع عنائنا. ”
   نظر الرجل الى الدلال الذهبية بأهتمام مادا ًيده لتناولهما دون ان يعبّر بشيء عما يجول في خاطره .  وقد بدأت برودة خفيفة تندفع في تلافيف السوق بينما امتلأت السماء بالنجوم التي بدت كأنها بساط من الحبوب البيضاء وقد مدّ القمر أجنحته كحمامة بيضاء فوقها ,  وشارف ابو زهرة على الانتهاء من ادخال كافة موجوداته دون ان تنطق شفاهه بأي كلمة أو يد يمكن ان تميزه  .  فقال الرجل أخيرا ً: “انا قلت لك الحقيقة في حاجتي الى الدلال , لكنني لم اخبرك بأنني لا املك ثمنها واظنها غلطتي ثم توقف عن الكلام .”
    حدّق الحاج حمزة بوجه الرجل مبتسما ً ليقول :” ايها الثلاثيني اتظنني شمعة وقد انتهى وقودها المحترق  ؟ والله لقد جعلتني امارس حريتي مثلما اريد وما اعتاد ت عليه نفسي من حب حتى وان كنت مازحا ً او ملتويا  .”
    اغلق ابو زهرة رتاج دكانه ونزل منتفضا ً ليقول للرجل بأزدراء :” انت ايها السامي الجميل ،ايها المدعي . فقد مررت بي منذ ثلاث ليال بالحكاية نفسها ولا ادري كيف تجرأت على فعلها مع الحاج  .” دهش الحاج حمزة لأقوال ابي زهرة قائلآ : ” ماهذا الذي تقوله يارجل ؟ ! هل تعرفه من قبل  ؟ ولم آثرت السكوت إذن  ؟ ! “
  هزّ ابو زهرة رأسه وقال معاتبا    : ” الم تسمع نقر الدلة العالي واصوات جلجلة الاواني ، فقد اردت ان تلتفت اليّ لأغمز لك بعدم الاستجابة لطلب هذا الماكر , ولكن تلك كانت أقل أثارة .” لم يتحرك الحاج حمزة ولم يتفوه بشيء , ثم التفت الى الرجلين وراح يتأملهما بعينين نصف مغمضتين وهما ينظران لبعضهما بانفعال ، بينما الليل بدا ينحني للبردً شيئآ فشيئا ً, ثم ابتسم في وجهيهما وهو يدخل يده في جيبه ليخرج انبوبة الهواء المضغوط مخاطبا ً الرجل :” دع جسمك العاري تطهره الشمس , ثم ضع فوق شاربك الغليظ شيئا ً من المرؤة فهي مردودة اليك . وأعلم إن الله لايزهر لك حبآ حتى تتقيأ الحرام الذي في جوفك  “
   ثم التفت الى جاره ابي زهرة قائلا ً :مرحا لك .. فالامر قد وقع لكنني سأرتب ما لدي إزائك ولن ادير ظهري لجلجلة اوانيك النحاسية بعد اليوم  , فأن ساءني هذا الرجل فقد سررت بك.” ثم أخذ شهيقآ طويلآ ليزفره بهدوء وهو يعود لاقفال الدكان بينما صدح المؤذن لصلاة العشاء.