23 ديسمبر، 2024 10:17 ص

  يروى إن الشاعر ابا نؤاس قد دخل يوماً على الخليفة هارون الرشيد فوجده حزيناً ، فسأله عما به فقال إنه مغتم لمرض السيدة زبيدة ، فقال له ابونؤاس للترفيه عنه : يامولاي ، إن زوج الواحدة يمرض بمرضها ويحزن لحزنها ويتألم بألمها ، فهلا اتخذت لك زوجة ثانية ، فإن مرضت احداهما او حزنت كانت الثانية معافاة سليمة فتعوضك عن الاخرى وتخفف العبء عنك . ثم خرج ابو نؤاس من المجلس وتفكر الرشيد فيما قاله ، وقام الخدم والجواري بايصال الخبر للسيدة زبيدة ، فغضبت على ابي نؤاس وطلبت من الحرس طرده من بغداد .
بعد ايام احتال ابونؤاس على الحرس وتنكر بصورة مكاري (مجّاري) ، وهو الذي يحمل الاثقال على الحمير والبغال ، فدخل بغداد وقد غير شكله وهيئته ، ثم تعمد الوقوف بحماره امام شـرفة السيدة زبيدة لكي تراه ، واتى بمجموعة من الاثقال لكي يحملها في خرج الحمار ، فوضع كل الاثقال في الجيب الايمن فأنقلب الخرج وسقط من فوق ظهر الحمار ، ثم عاد وركب الخرج فوق ظهر الحمار ووضع الاثقال كلها في الجانب الايسر ، فانقلب الخرج مرة آخرى ، وتعمد تكرار اللعبة عدة مرات . اثناء قيام ابي نؤاس ب هذه العملية شاهدته احدى الجواري فأستدعت سيدتها أي السيدة زبيدة ، والتي جلست تتفرج على هذا الحمال الاخرق الذي يضع كل احماله في جانب واحد ، فضحكت من بلاهته وغباءه ، ثم نادته قائلة : يا هذا ضع نصف الاحمال في جانب وضع النصف في الجانب الآخر ، لكي يتوازن الخرج فوق ظهر الحمار . فرفع ابو نؤاس رأسه وقال : قلنا هذا الكلام ، فقلتم اخرجوا ابو نؤاس من المدينة .  
التوازن في كل الامور مهم وضروري ، ومن غير المعقول أن تعتمد الدولة على اتجاه او طرف واحد تضع كل العبء عليه وتهمل بقية الاتجاهات أو الاطراف ، في حين إن العراق وعدة دول عربية تعاني من انعدام العدل والتوازن بين الاطراف ، مما يتسبب في استمرار المشاكل السياسية والاقتصادية وتوقف عجلة الانماء والتقدم .
في العهد الملكي اعتمد النظام على مجموعة من كبار البيروقراطيين لأدارة شؤون الدولة ، في حين تم تجاهل الشباب والفلاحين وابناء الطبقات الفقيرة المهمشة في قعر المدن . عندما جاءت ثورة 14 تموز كان المفترض بها أن تقيم توازناً بين افراد وطبقات المجتمع ، ولكن حصلت امور وهنات وافلتت زمام الامور في كثير من الاحيان من يد الدولة ، مما ادى الى سلسلة من الانقلابات العسكرية وانتهت الامور بيد العسكر ، وما أن استقرت امور الدولة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وانتعش اقتصادها ، حتى تغلبت الاجهزة الامنية وقمعت جميع الاحزاب والتنظيمات المخالفة لرأي النظام وتسلطت على رقاب الشعب ، وفي الآخر تغلب ابناء القرى والارياف وتسلطوا على مقدرات الدولة وشؤونها ، مما انتج لنا نظاماً قبلياً لا علاقة له بنظام الدولة المدنية الحديثة .
نفس المشاكل التي عانى العراق منها طوال التسعين سنة الماضية تعاد وتكرر بصيغ جديدة مع كل نظام . بضعة عشرات متسلطين على قمة السلطة السياسية ويدعون خدمة الوطن والمواطن ، وبدلاً من استدعاء ذوي الكفاءة والموهبة لتعيينهم موظفين في الدولة ، كل يستدعي اقرباءه واولاد عمه لتعينهم مهملاً المئات ثم الالوف من الخريجين العاطلين عن العمل ، ومبعداً بقية طبقات الشعب عن تفكيره واهتماماته . والى أن تعلم النظام الملكي اصول نظام الدولة الحديثة ، وصعد ذوي الاستحقاق الى قمة السلطتين الادارية والسياسية ، هب ابناء الجيل القديم يريدون ايقاف عجلة الزمن لكي لايحالوا على التقاعد .
الكثير من كبار موظفي العهد الملكي لم يحصلوا على استحقاقهم الوظيفي إلا بعد ثورة 14 تموز ، حين ازيح الجيل القديم عن الخدمة ، ولكن مع هذه الازاحة اخطأت الثورة حين ازاحت مجموعة من كبار التكنوقراط مثل الدكتور نديم الباججي ، وذلك لأعتبارهم من بقايا النظام الملكي ومن المحسوبين عليه .
لم يكن الزعيم عبد الكريم قاسم ولابقية قادة الثورة سياسيين محنكين ، مما ادى الى انفلات الامور من بين ايديهم ، وظهور طبقة من العسكريين المغامرين الذين يريدون الوصول الى قمة السلطة السياسية بأي ثمن ، مما ادى الى انقلاب الثامن من شباط  والثامن عشر من تشرين الثاني عام 1963 ، ثم محاولتين فاشلتين قام بهما عارف عبدالرزاق على عبد السلام عارف ثم على اخيه عبدالرحمن عارف ، حتى جاء انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968 ، والذي هو في حقيقته انقلاب داخلي ، أي إنه حصل من داخل القصر الجمهوري والمؤسسة الاستخباراتية والعسكرية المحيطة بالرئيس .
يقسم اكثر من طرف إن انقلاب 1968 قد حصل بتنسيق مع اجهزة مخابرات اجنبية ، وقد تبين لاحقاً إن هذا الانقلاب قد كان لمنع التطور الديمقراطي للعراق وتحول نظامه نحو اليسار ، فخلال عشر سنوات من عمر الجمهورية كانت الافكار الراديكالية العنيفة قد تراجعت ، ونضج جيل جديد من اليساريين الشباب المؤمنين بالديمقراطية الغربية كسبيل للوصول الى السلطة ، أي أن تصبح صناديق الاقتراع هي الحكم الفصل بين مختلف الاحزاب السياسية بدلاً من العنف واستخدام السلاح ، وكانت تجربة الاحزاب الاشتراكية والشيوعية في كل من ايطاليا وفرنسا نموذجين واضحين لليساريين ومن الممكن الاقتداء بهما ، وهذا ما لم تكن الولايات المتحدة بالذات ترغب بحصوله ، فالعراق بالنسبة اليها مجموعة آبار نفط سخية العطاء ، ولا تحب سقوطها بيد اشتراكيين راديكاليين يشاكسون شركات النفط وينازعونها على حقوق الشعب في نفطه .
خلال عشر سنوات من عمر الجمهورية العراقية ، بقى جزء كبير من ابناء الشعب مهمشين وخارج اهتمامات الدولة ، واحس الكثير من الفقراء وبالاخص الشيعة منهم بعد مقتل عبد الكريم قاسم بأن الدولة أخذت تبعدهم وتقصيهم ، وساد بين اوساط المثقفين بأن مراكز القرار السياسي كلها بيد عفترة ، وهي مختصر اسماء المدن التي قدم منها قادة النظام القائم آنذاك ، أي عانة والفلوجة وتكريت والرمادي وراوة وحديثة ، وعندما جاء المرحوم عبدالرحمن عارف وحاول زحزحة الامور والتواصل مع الاكراد والشيعة وعدم ابقائهم بعيدين عن اهتمامات الدولة ، لم يستطع تحقيق الكثير من الانجازات لأن القادة العسكريين لم يفسحوا له المجال .
جاء حزب البعث وبدأت حملة التصفيات للأحزاب والاتجاهات المعارضة للسلطة ، ولاحظوا إن عفترة استمرت بالحكم مابين عامي 1968 و1977 حينما بدأ التكارتة الانفراد بالسلطة وازاحة الباقين عن القمة ، وبرز دور السوامرة (السامرائين) لفترة بضعة اعوام ، ثم تراجع دورهم بعد اعتقال الزعيم البعثي الكبير عبدالخالق السامرائي عام 1973 ، وقد اتهم بالمشاركة في التخطيط لأنقلاب ناظم كزار والذي كان يشغل يومها منصب مدير الامن العامة .
* عندما تسأل أي عراقي عاش فترة السبعينيات عن الفترة الذهبية للعراق ، فلن يختلف اثنان عن القول إنها كانت سنوات منتصف السبعينيات ، أي مابين عام 1973 يوم اعدم في منتصفها مدير الأمن العامة ناظم كزار ، وبين عام 1979 حيث تولى في منتصفها صدام حسين رئاسة الجمهورية . خلال هذه الاعوام وجد جميع العراقيين اماكن لهم في سيارة أو باص الدولة ، والتي صارت تهتم بأمور جميع المواطنين وترعاهم ، ومجموعة كبيرة من خيرة المستوصفات والمستشفيات والمدارس والمعاهد والكليات ، قد وضعت اسسها أو بنيت خلال تلك الفترة .
ولأن العراقيين وبنسبة عالية قد عاشوا فترة من الأمن والامان والاستقرار المادي والنفسي ، فقد انتج الشعراء والادباء والمفكرين مجموعة من افضل كتاباتهم في تلك المرحلة ، ومن اجود المسلسلات العراقية والتي هي مسلسلي (الذئب وعيون المدينة) ، ومن بعده جزئه الثاني (النسر وعيون المدينة) قد انتجا في اواخر السبعينيات ، وافضل مسرحية عراقية (برأيي) ، والمسماة النخلة والجيران قد انتجت خلال تلك الفترة كذلك .
لقد عبرت مسرحية النخلة والجيران بصدق عن حالة الوطن والمواطن العراقي ، فمؤلفها (غايب طعمة فرمان) مات منفياً في موسكو ، وسمعنا بخبر وفاته من آذاعة لندن ، ولم تذكر وسائل الاعلام العراقية شيئاً عنه إلا بعد عام من وفاته ، وتوفيت بطلة المسرحية فخرية عبد الكريم (زينب) منفية في برد السويد ، واوصت بلف جنازتها بعلم الجمهورية العراقية الاولى ، إي علم الجمهورية المعتمد رسمياً بين عامي 1959 و 1963 ، وبقت ناهدة الرماح مقيمة في لندن بعد أن ذهبت للعلاج هناك ، وترك خليل شوقي العراق لزمن طويل بعد الحصار الاقتصادي ، واخيراً مات قاسم محمد مخرج المسرحية في الامارات ، ولم نعد نتذكر الكثير من ابطال المسرحية (مثل يوسف العاني) ، والذين تعمد الاعلام اهمالهم خلال فترة الحصار ، وكأنما كان النظام يعاقبهم على مشاركتهم بهذا العمل المسرحي السياسي .
لقد فقد العراق مجموعة من خيرة كوادره الادبية والفنية في السجون والمنافي لأنهم كانوا يساريين أو شيوعيين ، كما فقدنا مجموعة من كبار العلماء والادباء والمثقفين لأنهم كانوا اسلاميين أو قوميين عرب أو اكراد ، وكأن قدر العراق هو القتال والصراع بين قبائل الجاهلية على الحكم والسلطة واموال النفط ، وتعمد الانظمة المتعاقبة على طرد المثقفين المتنورين منه لأفراغ الساحة للاميين والجهلة ، وكأنما المثقف العراقي هو رجس من عمل الشيطان فأجتنبوه فتتعمد الأنظمة المتعاقبة تجنبه واقصاءه واضطهاده ، وسواء كان المثقف شيوعياً أم اسلامياً ، قومياً أم اقليمياً فهو مكروه من قبل أي نظام سابق أو حالي ، لأنه لا يمعمع مثل باقي افراد القطيع .
* بعد زمن طويل من التطور المدني ، وبعد أن خلصتنا ثورة 14 تموز من القبلية والعشائرية ، وبعد أن كدنا نصدق إن العراق قد بدأ يتحضر ويتمدن طوال عقد السبعينيات ، عادت الغترة والعقال والعباءة لتحتل المشهد السياسي بعد اختفائها مع اختفاء اقطاعيي العهد الملكي ، واعيدت الينا الولاءات العشائرية لتصبح في المقدمة بدلاً من الشهادة العلمية والكفاءة المهنية ، وجاءنا القائد الضرورة ليصبح شيخ العشيرة العراقية ، واغلقت ابواب الارتقاء المهني والوظيفي امام من لايخضع لشيخ العشيرة وحاشيته وازلامه ، واليوم نعود فنكرر نفس السيناريو اعتماداً على الديمقراطية العددية العمياء ، والتي تؤدي عاجلاً أم آجلاً الى دمار البلدان ومجئ الغربان ، حيث إن التطبيق الاعمى لأي مبدأ يؤدي الى تدميره لاحقاً .
كما إن التوازن والاعتدال مطلوب من قبل الدولة تجاه جميع مواطنيها ، فالوسطية والاعتدال مطلوبين لمنع التطرف في تطبيق مبدأ او عقيدة . لقد طبق الاتحاد السوفيتي الاشتراكية بكامل حذافيرها وفرض تطبيقها على بلدان اوربا الشرقية ، فأختنق الاقتصاد وتضخمت البيروقراطية وتفشى الفساد الى درجة كبيرة بين زعماء الاحزاب الشيوعية . بالمقابل طبقت اوربا الغربية نوعاً مهجناً ومعدلاً من الاشتراكية ، فوفرت الضمان الاجتماعي لمواطنيها وحققت لهم قدراً كبيراً من الامن الاقتصادي والرفاهية .
رغم إن الولايات المتحدة واوربا الغربية تتبعان نظام الاقتصاد الحر ، فالازمات الاقتصادية المتكررة تحدث في الولايات المتحدة بشكل دوري تقريباً ، ونسبة الفقر والبطالة وتشرد السكان هو في الولايات المتحدة اعلى مما عليه في اوربا ، وذلك لأن اوربا عامة اتبعت نظام الرأسمالية الناعمة ، في حين الولايات المتحدة ما زالت تتبع اسلوب الرأسمالية الجشعة المتوحشة .
خففت دول اوربا الغربية من شراسة الرأسمالية عبر فرض ضرائب عالية على ارباح الشركات والمؤسسات الرأسمالية ، واستخدمت هذه الاموال لأستحداث نظام ضمان صحي اجتماعي تربوي لصالح الطبقات الوسطى والفقيرة ، في حين إن الملايين من الفقراء في الولايات المتحدة ليس لديهم أي ضمان صحي لحد اليوم ، ولو اصيب مواطن امريكي فقير بمرض فأن اغلب المستشفيات الامريكية سترفض استقباله ، اللهم إلا إذا كان المستشفى تابعاً لجهة حكومية أو جمعية خيرية ، ومن الغباء تقليد الولايات المتحدة في رأسماليتها الجشعة ، لأن ذلك سيدمر الطبقات الوسطى والفقيرة في أي بلد .
حاولت بعض احزاب اليمين الاوربي تقليد القوانين الاستثمارية للولايات المتحدة ، ونسى زعمائها إن الولايات المتحدة دولة عملاقة اقتصادياً  ومتعددة الموارد ولا يمكن للبلدان الاوربية تقليدها ، وعندما حصلت الازمة الاقتصادية الامريكية عام 2008 ، سرعان ما تبين قصر نظر الساسة اليمينيون في كل من اسبانيا وايطاليا والبرتغال ، فلقد امتدت الازمة الاقتصادية الامريكية لتحدث لهم حالة من الركود الاقتصادي .  
* إذا نظرنا للعملية السياسية التي بنيت في العراق بعد عام 2003 وسميت خطئاً بالديمقراطية ، نجد إن القادة العراقيين قد ارتكبوا خطائين قاتلين عند تشكيل النظام الجديد ، فمن جهة زعموا رغبتهم بتطبيق الديمقراطية ولكن بدون العلمانية أو مدنية الدولة ؟؟ ، ومن جهة آخرى يريدون الوصول الى نظام دولة اسلامية ، ونسوا أو تجاهلوا إن الاسلام والديمقراطية نقيضان لايمكن اجتماعهما في بلد أو نظام واحد .
من الصحيح القول عن الديمقراطية إنها تعطي المساواة بين الناس وبدون افضلية لجماعة على اخرى ، ولكن تعتبر حرية الرأي والاختيار من البديهيات الاساسية في الديمقراطية ، أي أن لا تتدخل الدولة في دين الفرد او مذهبه أو عقيدته السياسية ، ومن شاء البقاء على دينه فليبق ، ومن اراد التحول الى الهندوسية أو البوذية أو الالحاد فهو حر ، في حين إن النظام الاسلامي يقتضي بمحاكمة أي مسلم يغير دينه أو عقيدته بتهمة الردة ، وهذا مثال واضح على التناقض بين الديمقراطية والاسلام .
لايدرك الكثير من الناس إن الديمقراطية هي الأبنة الشرعية الحقيقية للربيع الاوربي (1848) ، حين نزلت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة تطالب بحرية الرأي والارادة ، وتمكين الشعب من مراقبة صرفيات الحكومة واعمالها ، ومنع القساوسة والرهبان وخريجي المدارس الدينية من التدخل في شؤون الدولة أو تولي ادارتها ، وبالتالي يصبح خريجي المدارس والكليات العلمية والمهنية والذين ترجم لقبهم بشكل مغلوط الى العلمانيين هم من يديرون سياسة الدولة واقتصادها .
لو راجعنا اصل الترجمة العربية لكلمة العلمانية لوجدناها تعني خريجي المعاهد والكليات العلمية التي تدرس الفيزياء والكيمياء وبقية العلوم المادية التطبيقية ، فالاطباء والمهندسون والصيادلة والاقتصاديون وجميع من درس العلوم الدنيوية هم علمانيون (حسب الترجمة) ، في حين أن المتدينون أو الدينيون فهم من درسوا العقيدة الدينية المسيحية وقوانين الكنيسة وتشريعاتها داخل المدارس والمعاهد الكنسية ، وكلمتي العلمانيون والدينيون كلمتان اوربيتان لا تعنيان شيئاً بالنسبة الينا ، وقد قلبتا في المصطلحات السياسية العربية لتصبحان بمعنىً مختلف عن اصولهما ، فالدينيون صاروا من يطالب بأعادة الشرع الاسلامي بدلاً من تطبيق القوانين المدنية الحديثة ، والمفروض أن يقال إن الدينيون كذلك هم من يطالب بأستعادة نموذج السلطنة العثمانية أو بتطبيق نموذج النظام السعودي في الحكم ، بدليل إن بعض سلفي مصر ارادوا إنشاء هيئة الامر بالمعروف وجوبهوا بردة فعل جماهيرية قوية منعتهم من اكمال المشروع .
لم تطالب الجماهير الاوربية عند خروجها في المظاهرات بمشاركة العمال والفلاحين بأتخاذ القرارات وادارة شؤون الدولة ، بل علينا الاعتراف بأن الحركة الديمقراطية كانت حركة مدنية برجوازية قادها مثقفو الطبقة الوسطى ، ولأن العمال والفلاحين لن يكون لهم مكان مميز في الديمقراطية الاوربية ، ولم تتجه الحركة الجماهيرية نحو الفكر الاشتراكي ، لذا فقد قام ماركس وانجلس في ذلك العام (1848) بأصدار البيان الشيوعي ، وارادوا تشجيع العمال على الاستيلاء على المصانع وادارتها . 
إذا اردنا تطبيق الديمقراطية بكل جوانبها فعلينا منع الاحزاب الدينية من المشاركة نهائياً في العمل السياسي ، إلا إذا تحولت الى احزاب علمانية لاتذكر الدين في مناهجها او بياناتها ، وأن تمتنع الدولة عن رعاية أي مؤسسة دينية أو احتفالاتها بصورة نهائية ، وإذا اراد الناس القيام بمظاهرة أو مسيرة دينية ، فعليهم أخذ رخصة رسمية من الدولة (من وزارة الداخلية تحديداً) لكي ترسم لهم طريق المسيرة وتوفر لهم الحماية إن احتاجوا اليها ، لا أن يقوم الناس بالمسير بطريقة عشوائية ومن طرق مختلفة حسب اهوائهم متسببين بارتباك حركة سير الناس والمركبات .
من ضمن الضوابط الديمقراطية المتبعة لدى دول العالم المتقدم منع رجال الدين من القاء أي مواعظ اسلامية أو مسيحية عبر وسائل اعلام الدولة (صحف ، اذاعة ، تلفزيون) ، رغم إن بعض الانظمة الديمقراطية تتسامح وتغض الطرف عن ذلك . كذلك يجب على أي رجل دين مسلم يريد المشاركة في الانتخابات نزع الجبة والعمامة والمشاركة بصفته مواطن مجرد من الالقاب الدينية ، ونفس الامر ينطبق على القساوسة والرهبان ورجال الدين الآخرين .
وإن نحن تقبلنا الديمقراطية بقضها وقضيضها ، فعلينا القبول بالمساواة المطلقة بين الناس ، ومن ضمنها المساواة بين الذكور والاناث واعطاء المرأة نفس حصة الرجل في الميراث ؟؟ ، كما إن الدول الاوربية كثيراً ماتجادل الدول الاسلامية ليس فقط حول حقوق المرأة ، وإنما حول حقوق الشواذ جنسياً ، فالديمقراطية تقضي بالحرية الشخصية لكل انسان ما دام لايمس بحقوق الاخرين وحرياتهم ، وبما إن الشواذ جنسياً هم مواطنون مثلهم مثل غيرهم ، فالديمقراطية تقتضي عدم اضطهادهم أو التمييز ضدهم ؟؟؟ ، وكما ترون إن الديمقراطية العلمانية (على الطريقة الاوربية) تحمل جوانب وهوامش مقززة ومقرفة ، وبالتالي فلا يمكن تطبيقها بكاملها في أي مجتمع اسلامي يحترم نفسه ودينه .
سيقول البعض إذن لنطبق نظام الشورى الاسلامي ، وهو شئ شبه مستحيل اليوم ، فلقد كان نظام الشورى الى زمن الامام علي (ع) مقتصراً على المهاجرين والانصار وذوي السابقة في الاسلام ، وهذا النظام إذا تم تحديثه فسيكون قاصراً على علماء ووجهاء واعيان ومثقفي المسلمين ، وبالتالي يصبح غير المسلمين مبعدين نهائياً عن المشاركة في الحياة السياسية . كما إن الاحزاب الاسلامية ستحتج وتعترض عليه ، حيث يقضي نظام الشورى بحرمان الاميين والجهلة وانصاف المتعلمين والمرتزقة ادعياء الورع والتقوى من التصويت ، في حين المضحك المبكي إن الاحزاب الاسلامية تعتمد على هؤلاء بالذات للفوز بالاغلبية العددية .
 * نعود مرة آخرى الى التوازن ، فمن الافضل لأي بلد اسلامي عدم تطبيق الديمقراطية بكاملها ، ولكن بالمقابل يجب احداث توازن بين علماء الدين وحملة الشهادات العليا من جهة وبين الاميين وانصاف المتعلمين من الجهة الآخرى ، فمن غير المعقول أن يقود الاميون المشهد السياسي ويهيمنون على مقدرات البلد ، كما من غير المعقول عزلهم سياسياً وحرمانهم من التصويت في أي انتخابات محلية أو نيابية ، لذا فمن الافضل للعراق ولعدة دول اسلامية استحداث مجلس للشيوخ على أن تكون كلمته فوق كلمة مجلس النواب ، بشرط أن يكون المشاركون بأنتخابه من حملة الشهادات الجامعية وممن تجاوزوا سن الاربعين ، وينتقى ثلثي المرشحون اليه ممن خدموا الدولة العراقية لآكثر من خمسة عشر سنة ، وفي هذا المجلس يسمح بمشاركة رجال الدين على أن يحرموا من المشاركة في عضوية مجلس النواب ، وهذا المجلس ليس بدعة في الديمقراطية ، فمجلس الشيوخ الفرنسي ينتخبه اعضاء المجالس البلدية وليس عامة افراد الشعب .
 إذا اردنا تطوير العملية الديمقراطية في العراق وجعلها حقيقية ، فعلينا اولاً : تغيير قانون الانتخابات وتقسيم العراق الى دوائر انتخابية مغلقة ، بحيث لاتزيد مقاعد كل دائرة عن ثلاثة أو اربعة مقاعد ، فأن رشح خمسة اشخاص على نفس المقعد ولم يفز أي منهم بنسبة واحد وخمسون بالمائة من الاصوات ، تعاد الانتخابات بعد اسبوع أو اسبوعين بين الاثنين الفائزين بأعلى نسبة من الاصوات .
ثانياً : يحق لكل مواطن الترشيح في محل سكناه الاصلي قبل 2003 ، أو من المنطقة التي كان يسكنها قبل خروجه من العراق (وذلك للهاربين واللاجئين السياسيين في الخارج) ، وبالنسبة لبغداد والموصل والبصرة والنجف يعتمد احصاء 1957 لمعرفة السكن الاصلي للمرشح ، فأن قال قائل إنه يقطن هذا المكان منذ عشر أو خمسة عشر سنة ، فيحق له الترشيح في ذلك المكان على أن لايكون قد انتقل اليه بعد عام 2003 . 
ثالثاً : ايجاد صيغة ما لغربلة المرشحين لأي انتخابات ، وقيام مفوضية الانتخابات بسؤال شيوخ ووجهاء أي محلة أو ناحية عن اخلاقيات المرشحين وسلوكياتهم السابقة قبل الموافقة على ترشحهم ، فأن كانت الاحزاب عديمة الحياء وترشح من هب ودب تحت عباءة الديمقراطية ، فلا يوجد في أي ديمقراطية مكان للمشاغبين السيئ الاخلاق ولا للطفيليين الذين يحضرون بصورة دائمة في ثالث ايام الفواتح .     
رابعاً : تحديد رواتب اعضاء المجالس وجعلها لا تزيد في حدها الاقصى عن راتب خريج الكلية الذي قضى خمسة عشر سنة في الخدمة الوظيفية ، على أن تضاف مخصصات عشرة بالمائة لاعضاء مجلس النواب ، وخمسة عشر بالمائة لأعضاء مجلس الشيوخ ، وإذا فاز موظف قضى عشرين سنة أو اكثر بعضوية المجلس ، فلا يخفض راتبه وانما  يقبض فوق راتبه مخصصات عضوية كبقية اعضاء المجلس .
قد يقول قائل بأن اقتراحي هذا سينفر الكثيرين فيرفضون ترشيح انفسهم لعضوية المجالس لقلة رواتبها ، وهذا هو المطلوب من الاقتراح ، فمن سيأتي للمجلس عليه التضحية من اجل خدمة الشعب ، فالمجلس البلدي أو مجلس النواب هو ليس مجلس فاتحة ولا حسينية لأطعام العواطلية والمرتزقة ، ورواتب الدولة ووظائفها هي لمن يقدم الخدمات للمواطنين والذين هم ابناء الدولة واحفادها ، ومن غير المنطقي أو المعقول تحويل الدولة لجمعية خيرية أو بقرة حلوب لتوزيع المال والوظائف على اقارب زيد وعمرو من النواب والوزراء .
واخيراً : في كل فرق كرة القدم في العالم هنالك مدرب ومساعد مدرب واحد عشر لاعب فقط لاغير ، يضاف اليهم خمسة أو ستة لاعبين يجلسون على دكة الاحتياط ، ينزل الفريق لخوض المباراة ويجلس عامة الناس للتفرج على احداث المباراة ويشجعون الفريق الف او باء . أما في العراق فقد جلس اللاعبون المتمرسون في كرة القدم ومدربوهم للفرجة على الاحداث ، ونزل الفلاحون والبقالون وباعة الخضر والحرفيون وبالدشاديش احياناً لخوض المباراة ، واكتظ الملعب بأكثر من مئة لاعب وخمسة حراس مرمى لكل فريق ، وتخيل في وسط هذه الفوضى إن هنالك شئ اسمه مبارة كرة قدم أو ديمقراطية ، وال ماعنده شغل يصير سياسي .