يتأرجح العراق في مناخاته المتقلبة, فبعد جفاف طويل جاءت السيول العرمة, واصبح العراقي محتاراً بيومه: أيهما الأقسى والأشد وطأة ؟!
لم يستطع ارباب الحكم, خلال اكثر من خمسة عشر عاماً, من انجاز شيء يُذكر في مجال السياسة المائية للبلاد ولا الزراعية فيها, كما هو شأنهم مع القطاعات الأقتصادية الأخرى في البلاد, وذلك بسبب تحاصصهم الذي اورث كل مفاصل الدولة الفساد, واستبعادهم للخبرات الفنية عن مراكز القرار, اضافة الى عدم تخصيصهم الأموال الكافية في الميزانية العامة لكي ينهض كوادرنا في وزارتي الموارد المائية والزراعة بواقع الزراعة ومعالجة مشكلة المياه, وتركوها على الغارب, بدون ان يحركوا اصبعاً, فلم تعد الزراعة هماً, مادام استيراد بصلنا قائم على قدم وساق من مناشيء ايرانية رصينة, تؤمن حاجاتنا الغذائية دون أمن غذائي.
وحتى بعد تعالي صرخات أم الأنهر البصرة طالبة الغوث لعطش سكانها قبل بساتينها ونخيلها, لم نشهد حلولاً ناجعة لمشاكلها.
.. ورغم علمهم المسبق بخطط تركيا لبناء سدود عملاقة على منابع دجلة والفرات وتحويل ايران لمجاري العشرات من الأنهر والجداول التي كانت تصب في انهارنا بدون تنبيه الا انهم بقوا في سباتهم او قل غيّهم… مادام استيرادهم لقناني ماء الشفة من السعودية لأرواء ظمأنا الرافديني مستمراً.
الآن وبعد مآسي الجفاف التي عايشناها والأمراض المصاحبة لها, جاءت السيول لتخنق انفاس اكثر من مئة شهيد من اطفال واهالي الموصل, ضحايا الجشع والفساد المنفلت, قضوا غرقاً, في يوم عيد, في مأساة عبّارة الموت.. وكذلك في غمرها لقرى ومناطق شاسعة من اراضينا, وتشريد سكانها واتلاف محاصيلهم الزراعية.
وخلال الخمسة عشر عاماً الماضية لم يكن لأصحاب القرار اهتماماً جدياً لحل اشكالات المياه بشحها وبأسرافها, مما أثقل كاهل ابنائنا من كوادر فنية, تحت ضغط خطر الفيضان, لأدارة مياه السيول وتصريفها لدرء خطر غرق حواضر ذات كثافة سكانية كبيرة بأتجاه مناطق اقل اهمية, وقد ابلوا لحد الآن بلاءاً حسناً.. اما في اقامة سدود جديدة او حتى تطوير القديمة منها فأن ذلك كان حلماً ابعد من وصل حبيبة.
ولولا غضب الطبيعة او لطفها لما امتلأت سدودنا المتهالكة واهوارنا وغدراننا بالمياه خلال هذه السنة.
ولا ندري حقاً هل ان الأستغلال الجائر لها واستحواذ المتنفذين من مسؤولين حكوميين وقادة احزاب اسلامية وميليشيات على كميات منها لأرواء بساتينهم وملأ بحيرات اسماكهم, على حساب حقوق الفلاح المنتج, سوف لن يهدر ما جادت به علينا الطبيعة من كمية مياه وافرة والتي لو قدر لنا استغلالها بشكل حكيم, وبأستخدام طرق الأرواء والزراعة الحديثة لنهضت بالزراعة العراقية من كبوتها وسدت احتياجات مواطني البلاد من منتجاتها, حسب تقديرات متخصصين بالانتاج الزراعي.
ورغم اني ليس بجيولوجي ولا خبير مياه او زراعة, فأني ارى بالبديهة ان ما يعاني منه نهر الفرات حالياً من شح مياه كان يمكن تلافيه لو كان لدينا قنوات او نواظم رابطة بين النهرين للتحكم بحركة المياه ومناقلتها بينهما عندما تشح في احدهما في بعض المواسم, فعلى ما يبدو بأن قناة الثرثار لا تستطيع مواكبة زخم المياه العالي الحالي المتدفق اليها من نهر دجلة بما يكفي لتنظيم حركة المياه فلا زالت الفيضانات تهدد مناطق جديدة في شمال البلاد وشرقها بينما لازالت مياه بحيرة الرزازة, التي تقع جغرافياً تحتها, مثلاً شحيحة كما يشير الى ذلك اهالي المنطقة… ولا يمكن التعويل على النضوح الجوفي من بحيرة الثرثار اليها لحل الحاجة الملحة والسريعة لتفادي غرق مناطق جديدة والأستفادة بالشكل الأقصى من المياه المتدفقة لخزنها لأغراض تنمية الثروة السمكية والسياحة ( لأن حسب علمي بأن مياه بحيرة الرزازة مالحة وغير صالحة للزراعة او للشرب, الا اذا جرى تحلية مياهها, وهو الأمر الذي لا يمكن ان نتوقعه من هكذا حكومة تركت اهالي البصرة ظمأى لكي تسقي عطاش كربلا – الرزازة ).
القنوات او النواظم المقترحة ليس بالضرورة ان تكون مفتوحة لتلافي التبخر العالي في الصيف او تكون مفتوحة في بعض المناطق التي يمكن الأستفادة منها في احياء الصحراء وبالتنمية الزراعية او جعلها واحات سياحية مثلاً.
لا مكان لدينا اليوم لشاعرية قصيدة بدر شاكر السياب ” انشودة المطر ” في وجود مسوخ متسلطة, , وقعوا علينا ” كجلمود صخرٍ حطه السيل من علٍ “, ولاترى في الجمع بين ” الماء والخضراء والوجه الحسن ” سوى خطراً داهماً على يباب عقولها.