يقولون في أساطير الشُرب والشَراب إن زوجات أباطرة روما ، ومن بعدهم ملكات آل بوربون في فرساي يشربن الحليب من مناقير العصافير ، أما كيف يمتلئ فم العصفور بالحليب فهذا مالم تتحدث عنه تلك الاساطير ، لكني تعلمت من أمي أن ألذ آنية للحليب هو ثدي الأم ، ويسمى الثدي بالعامية ( ديس ) واذا كُسرت ساق أو يد احدنا يوصى له بحليب الجاموسة من ( ديس ) أمه.
وفي سبعينيات القرن الماضي انتشرت على جدران الدوائر الحكومية صورة للرئيس احمد حسن البكر وهو يشرب الماء من طاسة صُنعت من القير ، واعتقد انها قدمت اليه ليشرب بها الماء في واحدة من معسكرات العمل الشعبي أو في زيارة لواحدة من القرى الريفية في ضواحي بغداد ، وقد تندر عليها احد المعلمين حين وزعتها التربية لتعلق في جدران ادارات المدارس تعبيرا دعائيا على بساطة الرئيس وحبه لشعبه عندما قال :
لو كان ما في هذه الغضارة القيرية حليبا لما اتت الحروب الينا ، وكان يعلق على حربنا مع ايران عندما بقيت هذه الصورة معلقة حتى بعد تخلي البكر عن الحكم وكانت حجة المدير أن كتابا رسميا لم يأتي من التربية لرفعها من الجدار.
لأول اسمع أن طاسة شرب الماء لها اسما ثانيا هو ( غضاره ) وتلك تسمية المعدان لها ، واظن أن الاسم لو اعدته الى الوراء لاكتشفت أن له جذورا سومرية ، حيث كثير من المفردات في لهجتهم تعود الى ذلك الزمن الذي ولد فيها الحرف واللغة وقصيدة الشعر.
وهكذا كنت كلما اشرب الماء في اناء أتذكر غضارة الحليب ، تلك المصنوعة من الفافون او تلك التي يصنعها ( كواز ) في الجبايش من القير او الفخار ، لكن كلمة غضارة كنت اسمعها تطلق على طاسة الفافون ، ولا أعرف السر . ولكن موسيقى المفردة هو صدى الحنين العولمي الى ذلك المكان الذي افارقه الآن ولكن صورة غضارته ولمعان حليب يمنحني نشوة ورغبة بكتابة القصة والقصيدة ورسالة الغرام الى ( ديس ) أمي.
وعليَّ في مديح هذه الغضارة التي يحملها الينا كل يوم طيب الروح والذكر شغاتي وهي ممتلئة بالحليب لتروي فينا ظمأ الصيف ولهيبه .
اتذكر تلك الحادثة الممتلئة بألم الذكرى يوم جاء المأمورون بواحد من ابناء ريكان شهيدا من جبهات الحرب ، عندما انحت على جسده والدته وشمته ثم قالت لزوجها :هات غضارة ممتلئة بالحليب لأبلل بها فم ولدي فلا اريده أن يذهب عطشانا الى السماء.
تلك الصورة التي تحمل فجيعة الحرب وحنان الام ، هي اليوم موجودة على واحدة من كاليرات روما للفنون التشكيلية ، فعندما رويت هذه الحادثة الى رسام عراقي مغترب منذ ثلاثين عام عن بلده . عاش الموقف بكل جوانحه ورسم المشهد في كل تفاصيله بلوحه لم تستغرق منه سوى نهار واحد ، وقد حملت اسم ( الحليب وحرب الغضارة)….!