لأني غريب
لأني غريب
لأن العراق الحبيب
بعيد وأني هنا في أشتياق
إليه، إليها..أنادي : عراق
فيرجع لي من ندائي نحيب
تفجّر عنه الصدى
أحسّ بأني غريب المدى
إلى عالم ٍ من ردى لايجيب
ندائي،
وإما هززت ُ الغصون
فما يتساقط غيّر الردى :
حجارْ
حجارٌ وما مِن ثمار
وحتى العيون
حجارٌ، وحتى الهواء الرطيب
حجارٌ، ينديه بعض الدم ِ
حجارٌ ندائي، وصخر فمي
ورجلاي ريحٌ تجوب القفار/ بيروت15/4/ 1962 ص164 الاعمال الكاملة)
القراءة الانتاجية للقصيدة
تبدأ القصيدة بالغربة وهي غربة جغرافية كما هي غربة صحية ،جغرافيتها مثبتة في نهاية القصيدة ،أعني ان الشاعر كتبها من المستشفى الراقد فيها في بيروت، والغربة الصحية معلنة داخل النص
(أحس ُ بأني عبرت المدى
الى عالم ٍ من ردى لايجيب
ندائي)
والعاطفة تُختزل كالتالي (وأني هنا في أشتياقٍ ..إليها)..ثم يوظف السياب لقطة ً من طفولتنا كلنّا حين نهز السدرة / شجرة النبق تحديدا لنحصل على الثمرات، فتتساقط ،دائما مع النبق، الأحجار المرمية سابقا على السدرة والعالقة بين الغصون..في القصيدة تغيب السدرة وتحضر الغصون وهي مفردة ٌ مشحونة ٌ بطراوة مملكة النبات ،فما ان أقول مفردة غصون،حتى أراها تنبجس بخضرة زاهية..وفي المواسم يكتمل الزهو بقطوفٍ دانية، لكن في هذه القصيدة نرى التضاد الاتصالي بين الخيالي/ الرمزي
(وإما هززت ُ الغصون
فما يتساقط غير الردى :
حجارْ
حجارٌ وما من ثمار
وحتى العيون
حجار ٌ وحتى الهواء الرطيب
حجار ٌ، ينديه بعض الدم ِ
حجارٌ ندائي، وصخرٌ فمي
ورجلاي ريحٌ تجوب القفار)
نلاحظ ان مفردة (الغصون) ترد في القصيدة مرة ً واحدة ، لكن الغصون عاقر لايتساقط منها لذيذ الثمر!! وهكذا من كثرةٍ طريةٍ(الغصون) تنبجس ُكثرة مضادة لها في المعنى ، وتحيلني مفردة غصون لتضاد يسبقها في السطر الشعري الخامس :
(..أنادي : عراق
فيرجع لي من ندائي نحيب
تفجر عنه الصدى) نلاحظ التضاد الفيزياوي بين الصوت والصدى، حيث ينعدم التراسل المرآوي بينهما : الصوت/ الصدى فتكون المعادلة بالشكل التالي : عراق ————– نحيب
وليس : عراق————عرااااااااا ق
وغياب التراسل المرآوي بين الصوت/ الصدى، سنجد له تبريرا من داخل القصيدة 🙁 أحسّ بأني عبرتُ المدى
الى عالمٍ من ردى لايجيب
ندائي)..إذا في عالم الردى لاتوجد غصون ، إلاّ
(في ظلام العالم السفليّ حقل
فيه ممايزرع الموتى حديقة/ قصيدة حدائق وفيقة /ص123/ الاعمال الكاملة)..يمكن ان نرى ثمة َ قصديةٌ عاليةٌ بين اكتفاءِ القصيدة بمفردة (الغصون )المعرّفة بألف لام التعريف التي تنبجس منها مفردة (حجار) النكرة ربما للتركيز على مكابدات الجسد المنتهك بالعلل :
(1) حجار ْ
(2) حجارٌ وما مِن ثمار
(3) وحتى العيون حجار
(4) وحتى الهواء الرطيب حجار
(5) حجارٌ ندائي، وصخر فمي
من هذه الإحالة التكرارية الخماسية الحجرية ،يصنع الموت كؤوسا ويحسو هواء حياة الشاعر السياب :
(وأصغي : أذاك انهيار الحجار ؟
أم الموت يحسو كؤوس الهواء/ ص432/ قصيدة في لمستشفي/ الاعمال الكاملة) ومن هذا الحجار المتراكم ،يصنّع معولا حجريا
يتوغل في ماتبقى من حياة انهكتها العلل والاحترابات والأصطراعات السياسية، في وطن تفكر فيه الايدلوجيات بتنظيراتها،لافي وطنيتها ،و(المعول الحجري/ ص446)
(رنين المعول الحجري في المرتج من نبضي)
وفي منتصف القصيدة..
(رنين المعول الحجريّ يزحف نحو أطرافي)..هذا المعول لم يكن فقط في نبض وأطراف السياب ،بل كان في نبض وأطراف الحركة الوطنية العراقية المتطاحنة فيما بينها..
فيي (لأني غريب) ..نلاحظ ان الحجار، يوسق الموجودات كلها : الثمار/ العيون/ الهواء/ النداء/ الفم….
بل الحجارهو هذه الكثرة من الموجودات التي تطوّقُ بقية َ الكائن الشعري السياب أيضا: (حجارٌ ندائي، وصخرٌ فمي)
أعني ان الحجار هو الموت كما في السطر التالي
(فما يتساقط غير الردى)..
نلاحظ ان هذه القصيدة القصيرة المسننة كالحجار يمكن اعتبارُها من القصائد الرشيقة الخالية من الزوائد الشعرية
التي ربما تؤثر سلبا في سيرورة القصيدة ..وهي تتجاور نصياً وعنونة ً مع (غريب على الخليج) المنشورة في (أنشودة المطر)
وكذلك مع الغربة اثناء كتابة القصيدتين، غريب على الخليج كتبها..1953 في الكويت حين كان مطاردا من قبل النظام الملكي العراقي.. بسبب شيوعيته ..(لأني غريب ) كتبها في بيروت 1962 حين كان الموت يطارده ..وتنماز قصيدة غريب على الخليج بنسيج شعري تركيبي متشابك… ،خلافا لقصيدة (لأني غريب)القصيدة القصيرة المتماسكة.