18 ديسمبر، 2024 9:01 م

الغش آفة النظام التعليمي

الغش آفة النظام التعليمي

يعاني النظام التربوي العراقي من مشاكل هائلة وأزمات قاتلة، وهو ما يتسق مع حالة البلد السيئة في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبالرغم من ان جذور هذه الأزمة وأسباب تفاقمها معروفة لحد كبير، إلا اننا نرغب في القاء الضوء على بعض جوانبها المهمة والتي من ابرزها الامتحانات والقبول الجامعي المرتبط بها، والذي جعل هدف الطلبة هو مجرد الحصول على معدل عالٍ ليضمن لهم الدخول الى الكليات المفضلة في سوق التمايز الاجتماعي، وساعد في ذلك استمرار نظام القبول في الكليات والمعتمد اعتماداً كلياً على نتائج هذا الامتحان بالرغم من فشله في قياس درجة مؤهلات الطالب المهاراتية والذكائية ومواهبه وقدراته، وبالرغم من انتشار الغش الذي أفسد نتائجه وجعلها غير جديرة في تصنيف الطلبة.
تعد الامتحانات النهائية وسيلة ضرورية لقياس معدل تحصيل الطالب المدرسية ولكنها ومع مرور الزمن تنوعت اساليبها وتطوّرت آلياتها بحيث أصبحت تهتم بتقييم المستويات العليا من التفكير والتحليل، والتركيب والنقد، والمهارات وتقلل من الاهتمام بالحفظ والاستذكار. فهل استطاع نظامنا التربوي من معرفة نواحي الضعف في أساليب الامتحانات ومعالجتها بالشكل المناسب؟ وهل استطاع من التغلب على مشكلة أحادية التقييم والشكل التقليدي له؟ الجواب واضح. بالطبع لم يستطع النظام التربوي من التخلص من آفاته ولم يستطيع من إيجاد وسائل افضل وانجع لقياس قدرات الطلبة و ربما يكمن السبب في استمرار اعتماده على طرق التدريس البالية في التلقين والاجترار.
مشكلة الامتحانات النهائية هي انها تشجع الفاشلين بمنحهم فرص غير شرعية للنجاح والتفوق فهي مرتع خصب للغش مؤديا الى نتائج وامتيازات بدون استحقاق وبدون تكافؤ الفرص، وهي بذلك تزرع ثقافة اليأس والإحباط وعدم الاكتراث والسلبية بين صفوف المتعلمين بسبب كونها تشجع التحايل والخداع لتصبح قاعدة، والجد والاجتهاد استثناءً لها.
أصبح الغش آفة التعليم الأساسية، وبانتشاره اصبح التعرف على المستويات الحقيقية لجودة التعليم امراً مستحيلاً واذا لم نتمكن من معرفة جودة التعليم فإننا لن نتمكن من التحقق من معارف ومهارات الخريجين مما يلغي مفهوم الكفاءة والمنافسة العادلة ويقتل تكافؤ الفرص في التعيين.
اليوم أكثر من أي وقت ماضي تحوم الشكوك حول درجة تأهيل مخرجات الثانوية العامة والجامعات بسبب الغش والاحتيال والفساد. وكنتيجة لتسريب الأسئلة، والغش الجماعي والفردي و”الالكتروني” والذي هو حصيلة طبيعية “للحشو”، والتلقين في التدريس، واجترار المعلومات في الامتحان، وانتشار ظاهرة كتابة التقارير والأطروحات من قبل مكاتب تجارية، وتواطؤ التدريسيين مع الطلبة، والدروس الخصوصية، والدور الثالث، وتدخل المتنفذين في حماية المفسدين من الطلبة، والضغوط والممارسات اللا أخلاقية التي يمارسها أولياء الطلبة والمتنفذين على المدرسين لترويعهم وإجبارهم على إنجاح الطلبة الفاشلين، أصبحت العملية التربوية فاسدةً تحتاج الى إصلاح جوهري وعاملاً معيقاً لعملية التنمية البشرية وزعزعت ثقة المواطن بأهمية التعليم. كثيراً ما نسمع عن آباء يتبجحون بنجاح أبنائهم بتفوق لكننا لا نسمع عن أي منهم يتحدث عن فساد الطريقة التي تفوق بها أولادهم، وكثيرا ما نرى من هؤلاء الطلبة “الناجحين” في سوق العمل كاطباء ومحامين ومعلمين، فهل هناك علاقة بين “النجاح” المهني والفساد المدرسي او الجامعي؟ في المجتمع الفاسد كل فاسد ناجح وليس العكس. المجتمع الفاسد لا يعير أهمية لقيم الانسان المتحضر والأخلاق الإنسانية والسلوك السوي للأفراد والجماعات بل يهتم بما يمتلكه الفرد من سلطة ومال ويعتبره ذكيا وناجحا اذا ما تمكن من الحصول على شهادة عليا او وظيفة مربحة كطبيب او صيدلي او أستاذ جامعي حتى وان كان بليداً من الناحية المعرفية والثقافية. في المجتمع الفاسد يمكن للفرد ان يحقق “النجاح” بحيازته على شهادة جامعية ومن دون ان يمتلك حتى القدرة على مطالعة الكتب. هناك أساليب عديدة لضمان “النجاح” و”التفوق” تنتشر في مجتمعنا منها كما اسلفنا ذكرها الغش في الامتحانات والخداع ورشوة الممتحن. الغش يخلق انسانا فاسداً لا يحترم ملكية الآخرين، يتلقى ويقرأ كالاسفنجة، غير واع وغير ناقد. الطالب الغاش، كما يقول د. عبد الحسين صخي، “هو مشروع لمواطن منحرف”، بدأ من ازدواجية الاخلاق وانعدام المسؤولية وانتهاءً بتبرير سرقة الأموال العامة. الغش ينم عن نفس غير أمينة لا يؤتمن صاحبها ولا ثقة به في المجتمع الصالح لتعوده على ممارسة هذا السلوك الشائن في كثير من جوانب حياته العملية بعد تخرجه.
وبالإضافة الى الانعكاسات الخطيرة لظاهرة الغش في عملية التقييم من تضليل للنتائج، وفقدان أهميتها تعتبر هذه الظاهرة السبب الرئيس لاستشراء الفساد والجهل المجتمعي، ونمو الأمراض المجتمعية وتدهور الاقتصاد. أما على الصعيد النفسي للفرد، فان نجاحه في الغش يزيد من غروره فيصبح الغش عنده أمراً طبيعياً، وتعاوناً بين الطلبة وحقاً مكتسباً وشجاعة يحسدها عليه أقرانه، ولربما يعمل الغشاش على تعليم الآخرين الغش والخداع والاستهانة بالعمل الجاد والمثابرة. تصوروا مجتمعا قائما على مساهمات أفراد حصلوا على شهادات مزورة وتعودوا على الاحتيال والغش في دراستهم ، هل يمكن ان يساهموا حقا في بنائه ؟ وهل يمكن الثقة بعدم خيانتهم لأهداف المجتمع ولمصالحه الحيوية؟ وهل يمكن الاعتماد على كفاءتهم ومؤهلاتهم الفكرية والعلمية والمهنية؟ أليس هناك صحة في تصور ان الغش مسؤول عن التخلف الذي يعاني منه المجتمع، وبأن الغش ينتج “متعلمين جهلة” و “عقول مغلقة” و “وحوشا داعشية” وافراداً عاجزين عن تقديم أي مشروع نافع للبلد مهما بلغوا من درجات وظيفية أو مهنية عالية. ألا يمكن ان يكون سبب عدم معرفة الطبيب شيئا عن الأمانة الطبية، أو القاضي عن العدالة، أو المسؤول الإداري عن الانصاف والنزاهة، أو الأستاذ عن الاخلاق الاكاديمية يعود الى جرائم الغش التي تعودوا عليها في الامتحانات خلال دراستهم المدرسية والجامعية؟
وصف التربويون الغشاش بالصفات التالية:
فاسد، سارق، غير صادق، غير أمين، مخادع، عديم الاخلاق، منحرف، خاوي الوفاض، محتال، نصاب.
اذا كانت هذه هي صفات الغشاش فهل يمكن للمجتمع ان يثق به لتأدية أي وظيفة سياسية، او اجتماعية، او اقتصادية او تربوية؟ واذا كان معظم افراد المجتمع ممن مارسوا الغش فهل يمكن لهذا المجتمع ان يتطور ويتقدم وأن لا تغزوه الأزمات ويعم فيه الفساد؟
الخلاصة، بتصوري ان بلاء المجتمع يكمن في آفة الغش، وان هذا البلاء يشتد عندما يهمل المجتمع معالجة هذا البلاء، وفي الوقت ذاته يشجع نظامه التربوي على ممارسة الغش من خلال اعتماده على الحفظ والتلقين في التدريس والاجترار في الامتحانات.
وحقاً ما قاله التربوي د. سوفونكانيليس: “افضل ان أرسب بشرف ولا أنجح عن طريق الغش.”