22 نوفمبر، 2024 10:27 م
Search
Close this search box.

الغزل القديم و الرومانسية الحديثة و نموذج معاصر ج1

الغزل القديم و الرومانسية الحديثة و نموذج معاصر ج1

وضع الشعر في اصله لبث المشاعر أو تأجيجها أومعالجتها وتصويرها ، وتبيينها لفظا بكلمات وجمل وعبارات مقطعة نغميا و مقفاة حرفيا وصوتيا، كما اخترعت الموسيقى للغرض نفسه ولكن بآلات ونوتات ، كما ابتكر الرسم والنحت والتشكيل للغاية ذاتها ولكن بالوان وخطوط ومجسمات ولوحات ،
فكان الشعر أعلاها مكانة واقدمها وجودا واكثرها تعبيرا و ادقها وصفا واقدرها على التبيان و انجحها على التوصيل و اعمقها على لمس الوجدان، ذلك ان وسيلته الكلمة “وفي البدء كانت الكلمة” و من لايفهم الكلمة بمعناها الشعري او يتذوقها ويهتز لها فلن يهتز لشيء آخر ،ولو فعل لكان مدعيا او معذورا اذا عوق يمنعه عن ذلك او موهوما يطرب دون وعي لما يطرب له. و قد اختار الله سبحانه الكلمة ليعضد بها رسله وليتحدى بها عتاة العصاة وليهدي بها البشر ممن اذا سمعوا كلامه (تَرَىٰٓ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ)،
و اول ماوضع الشعر للتعبير عن الوجدان ولذلك فالغرض الوجداني كان اولا سواء كان رثاء ام غزلا ام شكوى أم حنينا ، واكثر ما يهم الانسان ان يبينه و يزوقه ويكنيه و يستعير له ويغطيه بالتورية هو الغزل او الشوق او الوجد او الضنى او النسيب ، وهذه كلها تتبع المذهب الرومانسي في الشعر يزاد عليها “التشبيب” قديما أو مايطلق عليه “الغزل الصريح” وربما “الفاحش” أو “المتحرر” ، وهذا هو لب الرومانسية بعد تأصيلها كمذهب شعري.
فكان شعراء الرومانسية اعذب الشعراء و انفذهم الى قلوب العوام والخواص ، واكثرهم تداول قصائد على ايدي الموسيقيين وابداعهم ومن بعدهم المغنين ، ولاشك ان الشعر العربي الفصيح بكل اشكاله الخليلية او التفعيلية -او مالا نعده شعرا مما وراء ذلك من نثريات الحداثة- شهد فترات صعود رومانسي كبيرة ، حتى قبل اطلاق المصطلح “القادم من الادب الغربي” وذلك من اول جيل شعري للمهلهل وامريء القيس ، و شغل الاول عن هذا بمصيبة ثأر أخيه و لكن الثاني جمع الى الفروسية و الوصف بعض الرومانسية المتناثرة في قصائده ، و لأننا بدأنا مع انطلاق الشعر العربي المقصّد -كما يؤرخه الرواة- ليتماشى مع قصد مبحثنا هذا ، فلابد من الاشارة الى الغزل بعمومه عند شعراء العرب ، اذ سنبين لاحقا ان ماكان العرب يسمونه الغزل كغرض شعري واحد يقابل المدح والفخر والوصف ، فانه –وكما سنأتي عليه- تفرع وتشعب او توسع فخرج منه النسيب و التشبيب الذي تفرع الى مادي وفاحش وماجن، فكان الاول نواة المناجاة الحديثة والثاني بذرة الرومانسية اللاحقة بأكثر صورها تحررا ، و لأمرىْ القيس هذا أشعار لكل منها ، فيبدأ بالغزل بعد بيته الطللي في معلقته :
وإِنَّ شِفـَائِي عَبْـرَةٌ مُهْرَاقَـةٌ ،،،،، فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
فيقول:
أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلُّلِ ،،،، وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِيْ فَأَجْمِلِي
وَإنْ كنتِ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّيْ خَليْقَةٌ ،،،، فَسُلِّيْ ثِيَابِيْ مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
أَغَرَّكِ مِنِّيْ أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي ،،،، وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْناكِ إِلا لِتَقْدَحِي ،،،، بِسَهْمَيْكِ في أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ

ولكنه لم يتورع عن التشبيب
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَـا ،،،، وَجَـارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَـلِ
فها هو يذكر تنقله بين النساء دون حرج:
إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَـا ،،،، نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ
ثم يذكر أيامه معهن صراحة :
أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صالِحٍ ،،،، ولا سِيّمَا يَوْمٌ بِدارَةِ جُلْجُـــــــلِ
و مايقوله ليس من الغزل بل من الرومانسية والتشبيب ، انظر:
ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذارَى مَطِيَّتِي ،،،، فَيَا عَجَباً مِنْ كُوْرِهَا المُتَحَمَّـلِ
و ها هو تصريح المزاورة الممنوعة:
وبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُهـــا ،،،، تَمَتَّعْتُ مِن لَهْوٍ بِها غَيْرِ مُعْجَلِ
تَجاوَزْتُ أحْراسًا إلَيْها ومَعْشَرًا ،،،، عَلَيَّ حِراصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي
وصف الفعل مجاهرة:
إذا ما بكى من خلفها انْصَرَفَتْ لهُ ،،،، بشِقٍّ وَتحتي شِقُّها لم يُحَوَّلِ
و الفقرتان الاخيرتان هما من صور الرومانسية قبل ـتاصيلها،
و بعده طرفة بن العبد اول متشبب من شعراء الجاهلية من الشباب :
يقول مبتدأ بالغزل :
لِخَـوْلَةَ أطْـلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَـدِ ،،،، تلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ
ثم الطلل :
وُقُـوْفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُـمْ ،،،، يَقُـوْلُوْنَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَلَّـدِ
و الحنين
كَـأنَّ حُـدُوجَ المَالِكِيَّةِ غُـدْوَةً ،،،، خَلاَيَا سَفِيْنٍ بِالنَّوَاصِـفِ مِنْ دَدِ
و الوصف :
عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِيْنِ ابْنَ يَامِـنٍ ،،،، يَجُوْرُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَـدِي
يَشُـقُّ حَبَابَ المَاءِ حَيْزُومُهَا بِهَـا ،،،، كَمَـا قَسَمَ التُّرْبَ المُفَايِلَ بِاليَـدِ
ثم لايمتلك نفسه طويلا فيدخل الى الرومانسية والتشبيب دون تمهل :
وفِي الحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ المَرْدَ شَادِنٌ ،،،، مُظَـاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَـدِ
خَـذُولٌ تُرَاعِـي رَبْرَباً بِخَمِيْلَـةٍ ،،،،، تَنَـاوَلُ أطْرَافَ البَرِيْرِ وتَرْتَـدِي
ومنه غزل عفيف:
وتَبْسِـمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَـوَّراً ،،،، تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٍ لَهُ نَـدِ
سَقَتْـهُ إيَاةُ الشَّمْـسِ إلاّ لِثَاتِـهِ ،،،، أُسِـفَّ وَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بِإثْمِـدِ
ووَجْهٍ كَأَنَّ الشَّمْسَ ألْقتْ رِدَاءهَا ،،،، عَلَيْـهِ نَقِيِّ اللَّـوْنِ لَمْ يَتَخَـدَّدِ
و لكن سرعان ما يأتي اقتحام الممنوعات :
وإِنِّي لأُمْضِي الهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ ،،،،، بِعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تَلُوحُ وتَغْتَـدِي
أَمُـوْنٍ كَأَلْوَاحِ الإِرَانِ نَصَأْتُهَـا ،،،،، عَلَى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُـدِ
وصف الجسد :
جُـمَالِيَّةٍ وَجْنَاءَ تَرْدَى كَأَنَّهَـا ،،،،، سَفَنَّجَـةٌ تَبْـرِي لأزْعَرَ أرْبَـدِ
تُبَارِي عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وأَتْبَعَـتْ ،،،، وظِيْفـاً وظِيْفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعْبَّـدِ
و هو و ان صعبت لغته على المتلقي العربي اليوم الا انك بمراجعة بسيطة للمعاجم تصل الى حساسية مايقول:
كَـأَنَّ جَنَاحَيْ مَضْرَحِيٍّ تَكَنَّفَـا ،،،، حِفَافَيْهِ شُكَّا فِي العَسِيْبِ بِمِسْـرَدِ
فَطَوْراً بِهِ خَلْفَ الزَّمِيْلِ وَتَـارَةً ،،،، عَلَى حَشَفٍ كَالشَّنِّ ذَاوٍ مُجَدَّدِ
و منها مايفهمه كل عربي :
لَهَا فِخْذانِ أُكْمِلَ النَّحْضُ فِيْهِمَا ،،،، كَأَنَّهُمَـا بَابَا مُنِيْـفٍ مُمَـرَّدِ
وطَـيٍّ مَحَالٍ كَالحَنِيِّ خُلُوفُـهُ ،،،، وأَجـْرِنَةٌ لُـزَّتْ بِرَأيٍ مُنَضَّـدِ
و للمعاصرين أسلوب الانتقال هذا من الغزل العفيف الى “التشبيب” او الصريح و ربما ،
ففي قصيدة للشاعر علي عمران بإسم “لِعينيهـا” يبدأ شاعرنا بالغزل العفيف لكن دون طول نفس سلفه “طرفة” فيفعل في مراحل غزله كما فعل ، يقول:

لِعينيها فقط، للكُحلِ ،،،، للـخـَدِّينِ، للـوَشْــمِ
لِجوهَرةٍ تنَـامُ اللـيلَ ،،،، في خمـَّـارةِ الحُــلم
لِثَغرٍ عاطِرِ الأنفَـاسِ،،،، مخلوقٍ مِـنَ الكَـرْم
لِطرحتِها التي استعصَتْ ،،،،على التَّقبيلِ والضَّـمّ
ثم ينتقل دون توجس :

لِنهدٍ جامِحِ الحَلَمَاتِ ،،،، مَعصُــومٍ مــِنَ اللَّثم
لِجنتِـها التـي كَتَبَـتْ ،،،، على أبوابِــها إسْمي
فَرُحتُ أصُونُ شُرفَتَهَا ،،،، إذا خَلَـدَتْ إلى النَّوم
على عَتَبَاتِ حَضرِتِها ،،،، وَقَفتُ… فَنُورُها يُعمِي
منعتُ الليلَ عن غَدِها ،،،، رَفعتُ بِسقفِها نَجم

ثم حصاد من غير جنس الزرع :
زَرَعتُ مُروجَهـا نَغَمًـا ،،،، ولم أحصُد سِوى همِّي

و هكذا فعل عمرو بن كلثوم الجاهلي ايضا في نشيده القومي:
تُرِيكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى خَلَاءٍ ،،،، وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونَ الْكَاشِحِينَا
ذِراعَيْ عَيطَلٍ أَدماءَ بِكر ،،،،ٍهِجَانِ اللَّونِ لَم تَقرَأ جَنينًا
وَثَدْيًا مِثْلَ حُقّ العَاجِ رَخْصًا ،،،، حَصانًا مِنْ أكُفِ اللّامِسِينَا

الى مابعدهم من جيل الاسلاميين الذين حاصرهم التهذيب الديني وعظمة التربية الاخلاقية التي طمست ابداعهم الغزلي الا قليلا و اخفت حاجتهم الرومانسية التي صاروا يعاقبون عليها بالحدود الصارمة ، ومع هذا ظهر بعضهم ، و لكن كانت العيون على شعراء قريش فان تجرأوا على ذلك تبعهم الاخرون ، ويقال ان أول من تجرأ على التشبيب منهم “ابن أبي عتيق”، وكان في الاصل طاهرا عفيفا يشبب عن غير ريبة، كما جاء في الجزء الثاني من “العمدة” ، ثم عمر بن أبي ربيعة من قريش، و”المرجى ” وهو من قريش أيضاً، وغيرهم، وكلهم من شعراء العصر الاموي. يقول ابن رشيق “فتجرأ الشعراء من غير قريش على الاقتداء بهم حتى شاع التشبيب، وصاروا يعتقدون ان الشعر لا يحسن الا به لما فيه من عطف القلوب ، فيبدأ الشاعر الحضري بذكر الحبيب والصدود والهجران، كما يبدأ البدوي بذكر الرحيل والانتقال ووصف الطلول” انتهى ، و جاء في “الاغاني” ان شعراء العرب كثيرا ما كانوا يشببون بالمرأة ليفضحوا ابنها او زوجها ، وقد يكون التشبيب بالبنات وسيلة لزواجهن ، و الامران لايحصلان في عصرنا هذا ، و لكن على ايامهم كان للامر صدى يقول ابو فرج : كما فعل نصيب مولى عبد العزيز بن مروان، وقد استسقى فتاة ماء فسقته لبناً وطلبت إليه ان يشبب بها، فقال: (ما اسمك؟) قالت: (هند) قال: (وما اسم هذا الجبل؟) قالت: (قنا) فأنشأ يقول:

أحب قناً من حب هند ولم أكن ابالي اقرباً زاده الله ام بعدا
الا ان بالقيعان من بطن ذي قنا لنا حاجة مالت إليه بنا عمدا
أروني قناً انظر إليه فاني أحب قنا إني رأيت به هندا
وشاعت هذه الابيات وخطبت هذه الجارية من أجلها . انتهى قوله . و واضح ان ما اراده الاصفهاني بالتشبيب في روايته هو”التغزل مع ذكر اسم المرأة” دون ضرورة ذكر المفاتن.

و لأن الحب في اللغة العربية اصناف و درجات ؛ فليس الهوى مثل الصبوة، ولا الهيام مثل الغرام، و لا الضنى مثل الوجد و العنا وهذه من آثار العشق وعوارضه ، إذ أنَّ كلَّ لفظة تعبِّر عن مرحلة من مراحل هذا الشعور ، و الحبِّ مصدر الغزل، الذي له درجاته واشكاله أيضاً ، كما بينا “فلم يأت آخر عصر بني امية حتى صار الشاعر لا ينظم مديحا او فخرا الا صدّره بأبيات في الغزل قد تكون أكثر من أبيات المديح. ذكروا شاعرا اتى نصر بن سيار عامل بني امية على خراسان بأرجوزة فيها مائة بيت نسيبا وعشرة أبيات مديحا، فقال له نصر: (والله ما أبقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيفا الا وقد شغلته عن مديحي بنسيبك) “العمدة” ج2
و قد سار شاعرنا- الذي اخترناه نموذجا عن المعاصرين في مبحثنا هذا- على إثر اجداده شيئا في ذلك ، يقول من قصيدته “دار العلوم” وهي من جميل قصائد الذكريات لكنه ذكر البنات باسمائهن وافعالهن مع ذكر المكان ، فلو كان في عصرهم لعد تشبيبا ، ولكننا نعده من الرومانسية بالعموم ، ،يقول

“والكلام على لسان حبيبتي”:
على سُورٍ دارِ العلومِ القديمْ ،،،، جَلَسْنا… وغَنَّى لعبدِ الحليمْ
وكُنتُ.. وكانتْ أمانِي معِي ،،،، وليلَى، وهندٌ، وإنجي، وريمْ
ولكنَّهُ كانَ يشْدو لِعيني ،،،، بحسٍّ رقيقٍ، وصوتٍ رخيمْ
انظر روعة التشبيه التصويري:

يقولُ: (حبيبي).. فيَرقُصُ شَعري ،،،، كَصَفْصافةٍ بينَ حِضنِ النَّسيمْ
خَرَجنا مِنَ الدَّارِ صَوبَ الحياةِ ،،،، فما كانَ إلا الدُّجَى، والهَشيمْ
وما كانَ إلَّا طريقٌ كفيفٌ ،،،، وأشجارُ دمْعٍ سَقَتْها الهُمومْ

و يختمه بجميل الحنين الى الذكريات:
فمَنْ يأخُذُ العمرَ كُلًّا ويأْتِي ،،،، بلحظةِ عِشْقٍ..ودارِ العلومْ

قبيل دخول العصر الاندلسي والعباسي (أكبر عصور الادب العربي بروزا في الرومانسية) بدأت المدارس تتشكل و منها هذه المدرسة التي كانت بتوجهات متفرقة يسميها النقاد ولرواة العرب “اغراضا” ، فكما هو المديح والهجاء والوصف فقد اعتبر المختصون في الشعر العربي ان مايقوله الشعراء عن المراة هو “غزل” و انتهى الامر ، لكن الحقيقة التي لم ينتبهوا اليها الا متأخرا ان الامر مختلف “وجدانيا” فليس التغزل في المرأة كالفخر أو غيره ، ذاك لا يتنوع ولا يتشعب و لا يختلف و لا يثار حوله الجدل فيمنع بعضه ويعاقب على بعضه و تنشب حروب بسبب بعضه ، وهذا كله من تداعيات الشعر الخاص بوصف النساء او التشوق لهن او التغزل بهن ، ولذلك بدأ النقاد يحاولون تفصيل ذلك وتفريقه عن غيره من اغراض الشعر.
فيحدد ابن رشيق المتوفى 456 هجري في كتابه “العمدة” في النقد: بأن ألفاظ (الغزل والنسيب والتشبيب) تأتي بمعنًى واحد، وهي كلمات مترادفة يصلح استعمال إحداها مكان الأخرى، لكن عبد القادر البغدادي في “خزانة الادب”: يصف “التشبيب” بأنه ذكر لصفات المرأة وهو القسم الأول من النسيب أي إن التشبيب جزء من النسيب، وقد فرّق عبد اللطيف البغدادي المعنى بين (الغزل والتشبيب والنسيب) في شرحه لكتاب “نقد الشعر” لقدامة بن جعفر، و سنأتي على ذلك تباعا وتبعا لحاجة البحث.
فالتشبيب اذن هو التسمية القديمة العربية للصنف الرومانسي من الشعر ، و الا فالغزل بمعناه الخاص لايكفي وحده ان يكافىء الرومانسية الغربية او العربية الحديثة و المعاصرة او يقابلها ، و يمكن لنا اذن تتبعه -“التشبيب”- بهذا المعنى وضمه للمدرسة الرومانسية منذ العصر الجاهلي قافزين صدر الاسلام الذي بلغ فيه ان الخليفة عمر كان يعاقب المتشببين ويحبسهم و ربما المتغزلين بعمومهم ، وصولا الى العصر الاموي الذي عاد شعراؤه الرومانسيون الى تنفس التحرر فبلغ ذروته ووصل جودته عند عمرو بن الي ربيعة الذي بدأ بالجراءة على اعادة وصف جسد المرأة ومفاتنه بل و افعاله مع النساء و زاد حتى صار الغزل بنوعه “الماجن” ينسب اليه وتابعه الاحوص و آخرون ، و قد كسر الرجل مادرج عليه العرب بعد الاسلام وحتى قبله شيئا ما ، “فلم يعرف الغزل الماجن رواجاً بين العرب، على الأقل ليس بالقدر الذي لاقاه الغزل العذري، لعدة اعتبارات؛ أهمها أن الشِعر جاب قصور الخلفاء والملوك، كما جاب الأسواق والبيوت، فلم يكن من اللائق استخدام الشِعر الجنسي”*.كما أنَّ للعرب عاداتهم، وتقاليدهم، التي تقضي بإخفاء الشبق عن العوام و العلن، وكتمانه. يقول في مشهورته “ليت هندا”:
زَعَموها سَأَلَت جاراتِها ،،،، وَتَعَرَّت ذاتَ يَومٍ تَبتَرِدْ
أكَما يَنعَتُني تُبصِرنَني ،،،، عَمرَكُنَّ اللهَ، أَم لا يَقتَصِدْ
طَفلَةٌ بارِدَةُ القَيظِ إِذا ،،،، مَعمَعانُ الصَيفِ أَضحى يَتَّقِدْ
سُخنَةُ المَشتى لِحافٌ لِلفَتى ،،،، تَحتَ لَيلٍ حينَ يَغشاهُ الصَّرَدْ
حَدَّثوني أَنَّها لي نَفَثَت ،،،، عُقَداً يا حَبَّذا تِلكَ العُقَدْ
و غير ذلك -مما منعه الاسلام وقبله مروءة العرب- كثير

بينما يقول الأحوص :
خَلِيلاَنِ بَاحَا بالهَوَى فَتَشَاحَنَتْ ،،،، أقاربُها في وَصلِها وأقَاربُهْ
ألا إنَّ أهوَى النَّاسِ قُرباً ورُؤيةً ،،،، وَرِيحاً إذا ما اللَّيْلُ غَارَتْ كَوَاكِبُهْ
ضجيعٌ دنا منِّي جذلتُ بقربهِ،،،،، فباتَ يُمنِّيني وبتُّ أعاتبُهْ
وَأُخْبِرُهُ فِي السِرِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ،،،،، بأنْ ليسَ شيءٌ عندَ نفسي يقاربُهْ
و هذا ينسب اليه انه كان السبب في التمهيد لشعراء اللهو من بعده حتى بشار بن برد الذي يبزه جودة في الشعر دون شك ، و الغريب انه كان شاعرا عذريا بادئ الامرثم حاد ، ومن عذرياته الجميلة يقول :
مَا عَالَجَ النَّاسُ مِثْلَ الحُبِّ مِنْ سَقَمٍ ،،،، ولا برى مثلهُ عظماً ولا جَسَدا
ما يَلبثُ الحُبُّ أنْ تبدو شَواهِدهُ ،،،، مِن المُحِبِّ، وَإِنْ لَمْ يُبْدِهِ أَبَدَا
و لهذا فأنا اعده أشبه الناس بشاعرنا المعاصر ، فهو مثله يقول الشعر العذري أحايين كثيرة دون تشبيب او تصريح فيجمع بين مايسميه النقاد العرب قديما الغزل البدوي”العفيف” الذي يغازل روح المحبوب ويناجيها ، وبين الحضري ” الجريء” او ” الصريح” الذي يصف المحاسن للجسد او ” الفاحش” الذي يتعدى الى وصف الفعل في بعض مراحله، انظر من عذريات علي عمران:

فبعد تمهيده بالوقوف على مرابع الهوى القديم ببيتين:

وتَظَلُّ سَاقيَةُ الهوَى ،،،،، هِيَ والليالي في سِجَالْ
يَأْبَى الزَّمَانُ تَذَكُّرًا ،،،،، والعهْدُ يأبَى أنْ يُزَال
ولايخفى جمال معنيهما ، ف(الساقية و الليالي في سجال) ، شواخص وجدانية بحركة لاتتوقف ولاشك تحركان معهما شواحن العاطفة ، وهذا من رقيق الحنين وتذكر معاهد الحب
ثم يدخل الى النسيب :

يا هوْدَجَ الحُبِّ المُسَافرِ ،،،،، عبْرَ أودِيَةِ الخَبَالْ
مُنْذُ ارتحَلْتَ توَقَّفَ ،،،،، الشَّلالُ، وانتحَرَ الخيَالْ
ثم الى الغزل :

وقصَائِدي في الحُبِّ بَعدَكَ ،،،،، لنْ تُقَالَ…. لِمَنْ تُقالْ؟!
إنِّي ذَكْرتُ لقاءَنا في الليلِ ،،،،، ما أحلَى الليالْ
ووصف المرابع برقيق الالفاظ وجميل الصور يؤطرها نغم الوزن الطربي الذي صاغ عليه انشودته:

وذَكَرتُ منْزلَنَا القديمَ،،،،، ذَكَرتُ حقْلَ البُرتُقَالْ
والفَرعَ كم طِرنَا إليهِ ،،،،، وكانَ أصعبَ ما يُنالْ
و عكس الدارج،، تغزلا بغزالة انثى تقنص الذكر :
والعُشْبَ كم نِمنَا عليهِ ،،،،،غَزَالةً قنَصَتْ غزَالْ
نَظَرَتْ، دَنَتْ، فَتَحَتْ، عَلَتْ ،،،،، صَرَخَتْ، وعانَقَتِ المُحَالْ
و من يومها لا اجابة لسؤالنا عن الحب و أصله و مآله:

سَأَلَتْ.. سَألْتُ ولمْ نجِد ،،،،، مِنْ يومِها حَلَّ السَّؤالْ
إنِّي أُحِبُّكِ.. والغرَامُ ال ،،،،، حَقُّ مَهْلَكةُ الرِّجَالْ

و العباسيون استكثروا من الغزل بكل انواعه وقد توسعت اغراضه و ازهرت فنونه و تحرر شعراؤه ، فصار للغزل أنواع اخرى بعد الغزل العفيف و الصريح و الفاحش ، انضم الغزل الصّوفيّ و نوع آخر من “الماجن” اوغل فيه بعض الشعراء العباسيين لا اريد ان نصل اليه.
“وقد شاع وانتشر الغزل الصّريح في ذلك العصر، بسبب اختلاط العرب بالأمم الأخرى، وشيوع صور التّحلّل الخلقيّ عند البعض منهم، .ومن أسباب شيوع شعر المجون بكثرةٍ في العصر العباسيّ –كما يبين الدكتور شوقي ضيف في كتابه العصر العباسي الاول- و انقل باقتضاب “هي التأثر بالمجتمعات المحيطة منها المجتمع الفارسيّ من لهو ومجون، وتعددت فيه ديانات كثيرة متنوعة من مجوس وغير المجوس إلى جانب كثرة الزنادقة والملحدين فأكثروا من شرب الخمر حد الثمالة، وتمتّعوا بحريّة مطلَقة مُتَناسين شريعة الإسلام التي نهت عن ذلك،ويعدّ شرب الخمر من أهم الأسباب التي ساقت البعض إلى سلوكِ طريق اللهو والعبث والمجون ” و أضاف استاذنا في المرحلة الجامعية الدكتور عدنان العوادي وهو تلميذ الدكتور شوقي ضيف “احد طلبة الدكتور طه حسين كما سمعت ” ان انتشار ظاهرة بيع الجواري والقِيان كانت سببا آخر، ولو كان التأثر بالموسيقى والقيان والغناء الى حد معقول من الوصف والتجاوب لكان الامر هان، فلا زلنا في عصرنا نجد شعراء رومانسيين يستلهمون من تلك المصادر قصائدهم وصورهم الجميلة ، لعلي عمران أبيات في هذا الغرض منها :

عيناهَا قِطعَةُ مُوسِيقَا
مِنْ وَحي حَمَامِ الأحلامْ
عينَاها عُصفُورٌ يلْهُو
في حقْلِ خُزَامَى ويَنَامْ
ويقُومُ الفجرَ على نَغَمٍ
ما أبدَعَ تلكَ الأنغَامْ
فالابيات الثلاثة الفائتة تتخذ الموسيقى محورا للتصوير والتشبيه ، ثم

ليَصِيدَ ظِبَاءً، وفَرَاشًا
ونوَارِسَ خُضْرًا، وحَمَامْ،
وزُهُورًا، وشَقَائِقَ وردٍ،
نامَتْ في رحِمِ الأكْمَامْ
وشِهَابًا، وكواكِبَ دُرٍّ
ونجُومًا، وقطيعَ غَمَامْ
و الثلاثة السابقة زهور ونجوم و نوارس وغمام ، ليشيع ايدك جو من التصوير الزاهر المضيء ، ثم:

ويسُوقُ الشَّمسَ ويأمُرُهَا
أنْ تهبِطَ مِنْ غيرِ كلامْ
كي تسْجُدَ بينَ ذِرَاعيها
وتبُوسَ الثَّغرَ البَسَّامْ
فتُضِيءُ شَبَابيكُ الدُّنيا
ويُنيرُ سِرَاجُ الأيَّامْ
وينتهي بالارتقاء الى ما اعلى من الموسيقى و أهم من الزهور :

عينَاها مِئْذَنَةٌ خُلِقَتْ
مِنْ ذَهَبٍ حُرٍّ، ورُخَامْ
عينَاها معبدُ قِدِّيسٍ
يَتَعبَّدُ… والنَّاسُ نِيَامْ

وما يجدر ذكره أنّ شعراء الغزل الحسّي والإباحيّ، لديهم من الأشعار الغزليّة العفيفة التي تحمل عاطفة وشاعريّة صادقة بقدر ما لديهم من الإباحيّة و التبذّل،و الغزل الصّريح أكثر حدّة وعنفًا من الغزل العفيف، بسبب كثرة دور النّخاسة، وامتلاؤها بالقيان الأجنبيّات من جنسيّات متعدّدة ومتنوّعة. خلع ثوب الحشمة عن القصيدة، فتحوّل الغزل عندهم لوصف محاسن المرأة وصفًا حسيًّا. والمبالغة في وصف الجسد، خالياً من العاطفة. إلا ما فرضه الشّكل العام للقصيدة. رغم ذلك لم يبلغ الشّعر الحسّيّ مبلغًا يجعله محظورًا تمامًا، إذ استطاع الشعراء المحافظة على المجاز والرمز ، وصار للغزل الصّريح في العصر العبّاسيّ أربعة أنواع : منها الغزل بالمؤنث وهو الاصل لكن دون رمزية او تورية هذه المرة، ومن ذلك بشّار بن برد الاعمى في وصفه لفاتنة وصفًا يعجز عنه المبصرون، يقول:
يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُفَّاحًا مُفَلَّجَة ،،،، أوْ كُنْتُ من قُضُبِ الرَّيحان رَيْحَانا
حتّى إِذا وَجَدَتْ ريحي فأعْجَبَها ،،،، ونحنُ في خَلْوةٍ مُثِّلْتُ إِنسانا
فحرَّكتْ عُودَها ثمّ انثنَتْ طَرَبًا ،،،، تَشدو به ثمّ لا تُخفيه كِتمانا
الغزل غير السوي : بلغ الغزل الصّريح في العصر العبّاسيّ من شدّة موجة المجون حدًا، وقد كان أبو نُوَاس من أوائل شعراء الغزل الماجن هذا -والمنحرف عن الفطرة -في العصر العبّاسيّ ، “لأسباب نفسيّة على الأكثر”، فقد اعتمده في مطالع قصائده، عوضًا عن الوقوف على الأطلال، ومخاطبة النّساء، وتابعه الكثير من الشّعراء. و لا نسوق مثالا له لإساءته.
ثم بشّار بن برد بن يرجوخ البصري وعُرف عن بشار أنّه كان زنديقًا يكره دين الإسلام عاش في بيئة تمتلئ بالجواري والقِيان، اللواتي لا يأبهن لدين ولا لعُرْف ويُتقنَّ فنّ الغواية، وساعد اختلاط بشار بن برد بهن على كثرة كتابته للغزل الحسي الذي يصف تلك الجواري، ويرجع ذلك لكونه وُلِد ضريرًا لا يرى الجمال بعينه، بل يلمسه ويحسه ويشمه، فصور في شعره أنفاس الجواري وأجسادهن وحديثهن، وأفصح في شعره عن الغريزة النوعية إفصاحًا يتضح فيه الفسق والفحش بشكل كبير. وقد هذا الجو في المجتمع العباسي على شعر مطيع بن إياس بن مسلم (توفي عام 169هـ)، اشتهر بكثرة الغزل بالقِيان الكوفيات، ويعد من أوائل من أشاعوا هذا الغزل الفاحش المزري في عصره، وقيل عنه إنّه لا توجد سَوْءَة من سَوْءات العصر إلّا أتاها، وله في كتاب الأغاني أشعار يدعو بها أصحابه إلى المجون واللهو وشرب الخمر، واستمرّ في الفجور والفسق والخلاعة حتى وفاته .
واذا تجاوزنا العصر الاندلسي لخصوصيته في قضية غزل شعرائه بطبيعة الحال كما هم في كل غرض و فن ، فلاشك انه خلا تقريبا من التشبيب لصالح الغزل و النسيب والتشوق ومواضيع اخرى لم تألفها الثقافة العربية في الجزيرة والعراق و مصر والشام والمشرق كله ، فأولئك استجد عليهم المناخ وهذبت كلماتهم الجداول الرقراقة وشذبتها الخضرة ورققتها الطبيعة الرقيقة حتى صار مدخلهم القصائدي غير مدخل اسلافهم و اعمامهم العرب المشرقيين وكذلك بناء قصائدهم و مواضيعهم بل وحتى بعض اوزانهم المستجدة وتقطيعهم وتنويعهم المختلف للقوافي ، حتى اثروا في العباسيين و لم يتأثروا بهم ، فصار شعرهم الغزلي من قبيل :

يا شقيق الروح من جسدي ،،،، أهوى بي منك أم ألم
أيها الظبي الذي شردا ،،،، تركتني مقلتاك سدى
زعموا أني أراك غدا ،،،،، وأظن الموت دون غد (ي )
أين مني اليوم ما زعموا
اُدن شيئا أيها القمر ،،،، كاد يمحو نورك الخفر
أدلال ذاك أم حذر ،،،،، يا نسيم الروح من بلدي
خبر الأحباب كيف همُ

و مثل هذا اللون الشعري غزلا عفيفا و تركيبا مختلفا لم يعجز عنه شاعرنا المعاصر مدار المقارنة ، يقول علي عمران في بعض من قصيدة له:

أينَ يا ساعِـي البريدِ
أينَ صَهـبَاءُ الوعُــودِ
أينَ كونشِرتُو الورُودِ
أينَ مِرسَالُ حبيبي
أينَ يا عَمُّ… الأمَلْ
أينَ موسيقا القُبَلْ
نبِّنِي باللهِ……. هَلْ
جِئتَ بالخَطِّ الحبيبِ
صِيغَ مِنْ حِبرِ السِّحابْ
آهِ…… منْ هذا الجَوَابْ
ذوَّبَ الدُّنيا…….. وذابْ
فوقَ كفٍّ مِنْ لهيبِ
نلاحظ بينةً الإنتقالات من صورة الى أخرى دون خرق النسيج المتحد للقصيدة ، وهذا مانجح فيه مجاراة لأسلافه ، فضلا عن تغيير التقفية الثلاثية للبناء الرباعي لها :

كُلُّ لفظٍ….. فيهِ غِنوةْ
مِن مَقامِ الوجدِ حُلوَةْ
ربوَةٌ…. في ذيلِ ربوَةْ
بينَ شُطآنِ المغيبِ
سوفَ يأتِي في غَـدِ
ثُمَّ أُعطيهِ……. يَدي
فوقَ جِسرِ الموعِــدِ
آهِ…. مِنْ لُقيَا القُلُوبِ
خمرتِي فوقَ الموائِد
وَردتِي بينَ الوَسائِـد
مَلبَنِي حـولَ القلائِد
سُكَّرِي مِلءَ الجُيُوبِ
يعشَقُ الشَّعـرَ المُـموَّج
فوقَ فُستاني البنَفْسَج
كُلُّ تُفَّاحِــي سَينضُــج
عندما يأتِي حبيبي

وكان قبله من شعراء العصر الحديث من نسج على منوال الاندلسيين ولعله الرحباني او أحد شعراء لبنان أواسط القرن الماضي ، يقول في مقطوعة لم أقف على صاحبها و كأنها اندلسية تماما :

درات الدنيا بمن اهوى وبي ،،،، وافترقنا كيف ياليل الرقاد
ساكن مابين جفني المتعب ،،،، و عيوني وجوارهما البعاد
ما اكتفينا بعد والدهر اكتفى ،،،، فاقطفي الاحزان مثلي و اسهري
آه يا عيني لو يشرى الغفا ،،،، من عيون ما لكنت المشتري

وتلك كانت فترة انتهاء العصر الحديث الذي كانت قد انطلقت فيه الرومانسية كمدرسة اتخذت اسما خاصا و شكلا ونقدا و فريقا من الشعراء و النقاد و المختصين والاتباع والمعجبين .مرورا ببشارة الخوري وعلي محمود طه المهندس والشابّي الشاب و آخرين.
وصولا الى شعراء عصرنا الحاضر منهم شاعرنا الذي بين ايدينا اعماله للمقارنة والاستشهاد. ولا ارى ان ناقدا او مؤرخا يهتم بالشعر الرومانسي يمكن له ان يغفل علي عمران ، الا اذا غاب عنه اسمه لبعد المسافات واختلاف الثقافات و ازدحام الشعراء في عصرنا او لنقل “من ينتسبون اليهم” ، او قصّر في تخصصه عن المتابعة والبحث في ميدانه الذي اختار او اخفق في اختيار دراسته ولم يوفق . انظر من قصائده :

البحرُ ألقَى للجميلةِ لُؤْلُؤَةْ
ومحارَةً تغزُو القِلاعَ المُطفَأَةْ
فتقدَّمَتْ للبحرِ، تكشِفُ ساقَهَا
وتضُمُّهُ ليَنامَ قُربَ المِدفَأَةْ
وأتاحَتِ النّهدينِ ظبيًا هاربًا
يا فوزَ مَنْ قنصَ الغزالَ وخبَّأَه،
وأحَاطَهُ خوفَ الذِّئابِ بكفِّهِ
وأنامَهُ بينَ الضُّلوعِ وأَدفَأَه
وأباحَتِ الشَّفتينِ كرزًا أحمَرًا
وضفيرَةً باليَاسمينِ مُعبَّأَةْ
فَكَّتْ ضفيرَتَها كتَابَ سَنابلٍ
الشّمسُ مالَتْ فوقَهُ كي تَقرَأَه
وتمدَّدَتْ فوقَ الرِّمالِ كَزَورقٍ
بعدَ انكسارِ الرِّيحِ عانَقَ مَرفَأَه
خَلعَتْ غُلالَتَها الحريرَ وأخرَجَتْ
نهدًا خُرافيًّا بِلَونِ اللُّؤلُؤة
وَضَعتْهُ في ثغرِ المرَاكِبِ فاهْتَدَتْ
وتحقَّقَتْ كلُّ الوعُودِ المُرجَأَة
وتوَقَّفَ الموجُ المُهاجِرُ، وارتمَى
في دفئِها الأخَّاذِ، والدِّفْءُ امرَأَةْ

فالشعر الرومانسي بمعناه الشامل وبتفصيله الكامل والذي يتحاشاه بعض النقاد والمهتمين وخواص المتذوقين – لاسباب عديدة منها التشدد الاخلاقي و المحافظة لا يتجشم مخاطر ركوبه كل شاعر ولا يتقنه كل من أنشد التحرر التعبيري شعرا، فهو لا قانون له فيحده ولا رادع له فيسده ،بل هو الشعر الرومانسي شئنا ام ابينا ، وما علينا ان نتابعه ونرصده ونحلله وننقده ونبين جماله ومواطن ضعفه .
و لابد من التمييز او السير على خطى المميزين من نقاد العرب الذين ذكرنا نماذج منهم وسيأتي في بحثنا المزيد ، لابد من التفريق فليس الغزل العُذري، واشتياق الروح للروح، كمثل الغزل الإباحي، أو الشعر عن الغزل الحسي، أو ما يسميه البعض الغزل الفاحش كما اسلفنا! وشوق الجسد إلى الجسد، إلا أنَّ القصيدة الواحدة قد تجمعهما معاً، لا سيما في الشِعر الحديث.
فاذا التزمت بمعايبر المحافظة والتشدد وتركت معايير الفن والابداع فسيفوتك من شعر الرومانسية كثير :
سيفوتك مثل ما اسوقه لك الان من رمزيات وصور رقيقة و تعابير عميقة لأمثال علي عمران الذي يقول في بعض من قصيدة له :

جاءَتْ تُوشْوِشُ بحرَهَا
والبحرُ يعرِفُ سِرَّهَا
نامَتْ جِوَارَ جُنيْنَةٍ
خلَعَتْ هُناكَ حريرَهَا
فتمدَّدَ النَّعناعُ فوقَ
السَّاقِ ينْشَقُ عِطرَهَا
وتسَلَّلَ العُصفورُ بينَ
النَّهدِ يلْثِمُ زهْرَهَا
وتقَدَّمَ العُنْقودُ يعصِرُ
للسَّكارَى خمْرَهَا
رجَعَتْ لِفتنتِهَا التي
كانتْ.. وَرَدَّتْ سِحرَهَا
وهُناكَ أطلَقَ موجَهُ
فَرِحًا.. وطَوَّقَ ظهْرَهَا

وأنامَهَا في حِضْنِهِ
أبَدًا….. وأغلَقَ سِرَّهَا

• الشعر الغزلي العذري والرومانسي
يقال :”غازل الكلب الظّبي، إذا عدا في أثره”، فلحقه، وظفر به، ثمّ عدل عنه، ومنه مغازلة النّساء، فالغزل غرض شعريّ قديم كما تبين لنا مما تقدم ، ويعدّ من أهمّ أغراض الشّعر، وراينا ان القدماء فرقوا بينه وبين النّسيب ، ثم التشبيب التي صرنا نسميها جميعا ” الرومانسية” وليس من ماخذ على شعراء الرومانسية فيما يعشقون او عندما يتحولون في بوحهم (الا مأخذ المحافظة والتدين) اللذان يمنعان ذلك ، -وذاك بحث آخر لا نخوض فيه الان- ، فهم ليسوا عذريين خلص ، وهذا الفارق لابد من الانتباه له ان كنت تريد ان تدرس الشعر الرومانسي وتنقده ، فالشاعر العذري هو قيس المجنون :
تَعَلَّقتُ لَيلى وَهيَ غِرٌّ صَغيرَةٌ ،،،، وَلَم يَبدُ لِلأَترابِ مِن ثَديِها حَجمُ
صَغيرَينِ نَرعى البَهمَ يا لَيتَ أَنَّنا ،،،، إِلى اليَومِ لَم نَكبَر وَلَم تَكبَرِ البَهمُ
فهذا لايريد ان يعبر طور الصبا و البراءة ليظل الى جوار حبيبته ، فما عساه يطمع منها وهو بهذا الوصف !

و قبله عنترة :
فَبَعَثتُ جارِيَتي فَقُلتُ لَها اِذهَبي ،،،،، فَتَجَسَّسي أَخبارَها لِيَ وَاِعلَمي
قالَت رَأَيتُ مِنَ الأَعادي غِرَّةً ،،،،، وَالشاةُ مُمكِنَةٌ لِمَن هُوَ مُرتَمِ
وَكَأَنَّما اِلتَفَتَت بِجيدِ جَدايَةٍ ،،،،،، رَشإٍ مِنَ الغِزلانِ حُرٍّ أَرثَمِ

و من سار على نهجهما ،اما الشاعر الرومانسي فهو عمرو بن أبي ربيعة :
سَلامٌ عَلَيها ما أَحَبَّت سَلامَنا ،،،، فَإِن كَرِهَتهُ فَالسَلامُ عَلى أُخرى

فالامر نفسه الذي يدعوك للوم الشاعر الرومانسي وهو تعدد مايحب ومن يحب ، هو نفسه الذي يبلغك منه فيمتعك بصوره ووصفه ونسيبه فهو هو يدافع عن كل امراة وعن كل جمال وليس عن حبيبته فقط ، وينفعنا منه انه يعشق الورد فيعبر ويعشق المطر فيصوغ لنا شعرا ، والشمس والطبيعة و كل شيء ، فيغنينا ويسحرنا ،اما العاشق العذري فلا يصلنا من موهبته الا وصف حبيبته وان كانت غير ذات جمال ، وهنا نحن كمتلقين لايسعدنا الشاعر العذري او العاشق قدر مايسعدنا الرومانسي :
انظر الى علي عمران من (الانتظار) يقول :

يَمُرُّ قِطَارٌ…. ويأتِي قِطَارْ
وأنتِ على حاجِزِ الإنتِظَارْ
أَياتِي حبيبي؟ نعَمْ سوفَ يأتِي
ويفتَحُ شُبَّاكَنا……. للنَّهارْ
كذلِكَ…. عرَّافةُ البحرِ قالتْ
وكانتْ تُقلِّبُ بعضَ المَحَارْ
فأشْرَقَ وَشْمٌ على ساعِدِي
وزغَرَدَ بينَ نُهُودِي النُّضَارْ
خُدُورٌ تُزَارُ…… شُمُوعٌ تُنَارُ
شِفَاهٌ تُثَارُ…… كُؤوسٌ تُدَارْ
أُضيئَتْ ثُريَّا، وصُبَّتْ حُميَّا
وأوْمَأَ هيَّا، وأرخَى السِّتارْ
وحَرَّرَ ذِئْبًا أليفًا…… فمَاسَتْ
هِضَابٌ مِنَ العاجِ تحتَ الإزَارْ
جنائِنٌ خَوْخٍ نَمَتْ فوقَ خصرِي
بسَاتينُ كَرزٍ……… حُقُولُ بُهَارْ
وألبَسْتُهُ مِنْ حريرِ حنَانِي
وأطعَمتُهُ الحُبَّ مثْل الصِّغَارْ

أنا ألْفُ أُنثَى وأُنْثَى تمُوتُ
ويبْقَى على ظُلْمِهِ شَهريَارْ

ولأن الرومانسية أو “الرومانتيكيّة” كمدرسة ادبية- تهتمّ بعواطف النفس الإنسانيّة وما تزخر به أخيلة ومشاعر أيًا كانت طبيعة صاحبها جادا او هازلا، او معتقده مؤمنًا كان أم ملحدًا، و لانها تفصل الأدب عن محددات الأخلاق والتربوية منها بالخصوص ، فقد اتّصف هذا المذهب بالسهولة في التعبير والتفكير، وإطلاق النفس على سجيّتها، بل والاستجابة لأهوائها، وهو مذهب متحرّر من قيد الواقعيّة الوصفية او العقل الملتزم بمعايير اجتماعية وبيئية واللذيْن يبرزان لدى المذهب الأدبي الكلاسيكي، وهذا استجابة لما قد زخرت به الحركة الأدبيّة من تيارات لا دينية وغيرمتشددة أخلاقيا ولا أقبل تسميتها غير”أخلاقية” كما يصفها النقاد الملتزمون لان الامر لايختصر بعبارة قاسية كهذه، لذلك فقد دخلت الرومانسية بمسماها الغربي إلى الأدب العربي على شكل مذهب نقدي نظري، وليس اتجاها شعريا بادئ الامر و لعل ذلك كان على يدي العظيم عباس العقاد وصديقيه المازني وشكري بدايات القرن الماضي في “الديوان” وتلاه ميخائيل نعيمة واصدقاؤه جبران في “الغربال”-فقد أعطت لمعتنقيها فرصة القول –تصريحا- لما لايقال الا رمزا،
يقول الشاعر االمعاصر علي عمران نحو ذلك في أبيات من قصيدته (الفردوس)

وفِي فِردَوْسِهَا جَلَسَتْ
تُمشِّطُ شَعرَهَا عَشْتَار
وتغْسِلُ سَاقَهَا بالخَمْرِ
بالحِنِّاءِ….. بالأزهَار
رغم التصوير الرقيق الذي هو من طبيعة شعره للمتتبع لنتاجه ، وملاحظته جليا لرقة حاشيته ، فإنه لا يتوانى من الاقتراب من المحظورات مما يتهيبه الشعراء ، لكن ما أوتيه من تحكم في اللفظ وترقيق له هيأ لعلي عمران ان لايقع في فخ التشبيب المنفر للمتحفظين ، رغم بوادر التصريح :

تَعُدُّ الوَشْمَ، والشَّامَاتِ
حولَ المنْبَعِ الجبَّار
وتعصِرُ بينَ نهدِيها
عناقيدًا مِنَ الأقمَار
وفوقَ سِيَاجِها العالِي
تسَلَّلَ هُدهُدٌ مَكَّار
ورَاحَ بِطَرفِ مِنْقَارٍ
يُزيحُ ستائِرَ الأسْرَار
رأَى الرُّمَّانَ كيفَ ينَامُ
بينَ قلائِدِ الأنْوَار
الترميز والكنايات في الأبيات لاتكاد تخفي شيئا من المراد من ورائها :

وكيفَ تشَكَّلَ العُنْقُودُ
كيفَ تفتَّحَ النُّوَّار
وكيف ترَاقَصَ التُّفَّاحُ
كيف تأوَّهَ القِيثَار
رأَى الأشْجارَ مُثْمِرَةً
فقامَ يُحَرِّكُ الأشْجَار
وينقُرُ شُرفَةً فُتِحَتْ
على ياقُوتَةٍ مِنْ نَار
فقامَتْ نحوَ شُبَّاكِ
الغَوايةِ تُغْلِقُ الأسْتَار
يتبع ج 2

أحدث المقالات