18 ديسمبر، 2024 8:10 م

الغزل القديم والرومانسية الحديثة ونموذج معاصر (ج2)

الغزل القديم والرومانسية الحديثة ونموذج معاصر (ج2)

ركائز الرومانسية الثلاث
لاتكتمل الرومانسية ولايطبخ في قدرها الا على اثافي ثلاث ، (الغزل و النسيب و التشبيب) وللنقاد العرب القدامى منهم والمحدثين في تفصيل ذلك آراء :
يقول عبد اللطيف البغدادي في شرحه ان الغزل: “هو فعل وحال وأقوال تجري بين المحب والمحبوبة نفسها، وهو العاطفة والحب وفيه تعبيرعن المشاكسة والمحاورة ويكون بين اثنين وتشترط فيه المواجهة، وفيه رقة وتوجع وحسرة، كقول جميل بن معمّر”:

أَبُثَينَ إِنَّكِ قَد مَلِكتِ فَأَسجِحي ،،،، وَخُذي بِحَظِّكِ مِن كَريمٍ واصِلِ
فَلَرُبَّ عارِضَةٍ عَلَينا وَصلَها ،،،، بِالجِدِّ تَخلِطُهُ بِقَولِ الهازِلِ
فَأَجَبتُها بِالرِفقِ بَعدَ تَسَتُّرٍ ،،،، حُبّي بُثَينَةَ عَن وِصالِكِ شاغِلي
وَيَقُلنَ إِنَّكَ قَد رَضيتَ بِباطِلٍ ،،،، مِنها فَهَل لَكَ في اِعتِزالِ الباطِلِ
والحق ان مثاله فيه نظر فلا يبدو ان الابيات في التغزل قدر التوجد والصبابة.
ويقول عن التشبيب: “هو أن يذكر الشاعر صفات المحبوب ذكرًا صريحًا ويُشهّر بذلك، وقد يكون ذكر لأيام الشباب ويكون عادةً في بداية القصيدة، وفي لسان العرب ورد معنى التشبيب، بأنه ترقيق الشعر بذكر النساء في أوله، ويُقال شبب بالمرأة يعني قال فيها الغزل، وقد أخذ اسمه من تشبيب النار بمعنى أنه يشبب جذوة القصيدة ثم ينطلق بعد ذلك إلى الغرض الرئيسي منها كالفخر أو الهجاء أو الرثاء، كقول قيس بن ذريح” :

قَد قُلتُ لِلقَلبِ لا لُبناكَ فَاِعتَرِفِ ،،،، وَاِقضِ اللُبانَةَ ما قَضَّيتَ وَاِنصَرِفِ
قَد كُنتُ أَحلِفُ جَهدًا لا أُفارِقُها ،،،، أُفٍّ لَكَثرَةِ ذاكَ القيلِ وَالحَلِفِ
هَتّى تَكَنَّفَني الواشونَ فَاِفتُلِتَت ،،،، لا تَأمَنَن رَبَدًا مِن غِشِّ مُكتَنِفِ
هَيهاتَ هَيهاتَ قَد أَمسَت مُجاوِرَةً ،،،، أَهلَ العَقيقِ وَأَمسَينا عَلى سَرِفِ

أما عن النسيب فيقول: “هو الذي يجمع بين الغزل والتشبيب فيكون بين المحب ومحبوبته والأمور الجارية بينهما وقيل إن العرب قديمًا كانت لا تمدح إلا بعد بدء القصيدة بالنسيب، وقد يعبّر عن ذكر الديار والأحبة فكأنما أُخذ اسمه من النسب، فيذكر الشاعر ديار أحبابه واشتياقه لوصلهم ولقائهم، ولا يشترط فيه المواجهة بين المحب ومحبوبته”، و ساق لهذا مثالا من معلقة امرىء القيس ، وقد سقناه قبل ذلك فلا داعي لتكراره ، ولكني سأورد مثالا معاصرا يحاكي ذلك لشاعرنا النموذج علي عمران وهو يقول :

إذا دَقَّتِ السَّاعَةُ العاشِرَةْ
فقُومِي إلى الرَّبوةِ الزَّاهرَةْ
هُنالِكَ في شاطِئٍ ساحِرٍ
يُطِلُّ على روضَةٍ ساحِرَةْ
هذا وجه من الغزل الشفيف، ثم انظر:

بَنينَا مِنَ الوردِ عُشًّا، ونهْرًا
وحقْلًا، وساقيَةً هادِرَةْ
فقُومِي.. أُريدُكِ ظِلًّا وريفًا
فإنِّي تَعبْتُ مِنَ الهَاجِرَةْ
إلى ضِفَّةِ الحُلْمِ يعبُرُ ظَبْيٌ
لِظَبيَتِهِ الحُلوَةِ النَّاظِرَةْ
وهذا كان النسيب بشكله المكنى ، ثم :

ويحمِلُها خلْفَ تلِّ الخُزَامَى
ويقضِمُ تُفَّاحةً ناضِرَةْ
ويفتَحُ عُروَةَ فُستَانِها
لِيُطعِمَ أديَاكَهَا الثَّائِرَةْ
فتقْفِزُ فوقَ السَّحَابِ.. وتجرِي،
وتهرُبُ في وَثْبَةٍ ماكِرَةْ
أما هذا فكان التشبيب او الغزل الصريح ، ويكمل إذ لا عودة للتلميح :

ويُدرِكُها في هِضَابِ الحنينِ
فتسْتَسْلِمُ الظَّبيَةُ النَّافِرَةْ
يُمرِّرُ كفًّا على صَدرِها
فتَنْفتِحُ الجَنَّةُ العاطِرَةْ
يُذْكِّرُها كيفَ كانَ الرَّحيلُ
وكيفَ تحَرَّكْتِ القاطِرَةْ
وَدَاعًا… تحطَّمَ قلبِي وداعًا
على حاجِزِ الضَّمّةِ العاصِرَةْ
ودارَ الزَّمانُ… وعادَ القِطارُ
وعادَ الرَّبيعُ معَ الصَّافِرَة
ففرَّتْ مِنَ العينِ أحزَانُها
وعانَقَتِ الأذْرُعُ الخاصِرَةْ

وغَابَا معًا في عِنَاقٍ طويلٍ
وفي قُبْلَةٍ تُنعِشُ الذَّاكِرَةْ

الغزل اذن من اهم أغراض الشعر، وقد اهتمَّ به الشعراء حتى لا يكاد شاعر يخلو شعره من شيء من الغزل، وفي القصائد الغزلية يُعنى الشاعر بالتغزل بالمحبوبة وذكر محاسنها وصفاتها، فيصف الشاعر محبوبته ويذكر مواطن الجمال فيها، كما يبث الشاعر شكواه في القصيدة نفسها من ألم الفراق، ويذكر شوقه وحنينه الدائم للمحبوبة
وقد ذكرنا أنواعه: ويقف النقاد دائما عند العذري، ويسمى “البدوي” ايضا وقد يطلق عليه الغزل العفيف، وفيه يذكر الشاعر أشواقه وحبه وألمه دون ايغال، وقيل ان قبيلة بني عذرة في العصر الأموي اشتهرت به وربما سمي باسمها وهناك خلاف، ويرجع سبب انتشار هذا النوع من الغزل إلى تأثير الإسلام في نفوسهم، فزكى قلوبهم، وطهر سرائرهم، و لكن الذي لمسناه انه لم يقتصر هذا النوع من الشعر على بني عذرة بل تعداهم إلى بني عامر، ووادي نجد والحجاز، ومن أشهر شعرائه: جميل بن معمر، وقيس بن الملوح، وكثيّر عزّة.
و لكن ما يلامس –مرة أخرى – غرضنا الرومانسي الحديث والمعاصر هو “الغزل الصريح”: ويطلق عليه الغزل “الحضري”، وهو الغزل الذي يتغنى فيه الشاعر بأكثر من امرأة، ويصف محاسنها الجسدية، وهو الذي اشتهر به في العصر الاموي اقران عمر بن أبي ربيعة حتى أصبح يطلق على هذا النوع من الشعر الغزل العمريّ. وقد اتسم شعر الغزل بنوعيه “العذري والصريح” برقة المشاعر وعذوبة الألفاظ وتصوير معاني الحب، والتعبير عن اللوعة والحسرة وما ينتج عن الفراق من ألم نفسي وجسدي يصيب الشاعر جرّاء حبه وعشقه، وتميز عمر بن أبي ربيعة انه اضاف شيئا اذ استطاع أن يعبّر في قصائده عن عواطف من أحببنه وليس فقط عمّا يشعر به، فذكر هيامهن به وشغفهن بحبه، وقد خالف بذلك الشعراء العذريين الذين تحدثوا في قصائدهم عن عفّة محبوباتهم وتحفظهّن، ولنبين ما شكل هذا الاسلوب نسوق مثالا من شاعرنا المعاصر علي عمران ، تخاطبه من تستحثه:

إنْ أعجَبَتْكَ ضَفيرَتِي…. فتَقَدَّمْ
فالبُعدُ مُرٌّ، والصَّبَابةُ عَلقَمْ
سَبِّح بِسِحرِ نوَاظِرِي واسْجُد لها
صَلَّى الجمالُ على العُيُونِ وسَلَّمْ
واصعد لِبُرجِي، واقتَلِع قُضبَانَهُ
وانْزِع شبَابيكَ الحِصارِ…. وحَطِّمْ
هذا إذن خطاب حبيبته أو ربما امرأة ممن يزاور او يقابل رومانسيا ، يصور حديثها وفعلها وشغفها ولايقتصر على وصف حال نفسه، ثم :

مَزِّقْ خُيُوطَ اللَّيلِ… فُكَ حمَامَهُ
إنَّ الحَمَامَ مقيَّدٌ……… يتَألَّمْ
وافْتَح حُصُونَ الشَّمسِ.. أَطلِقْ خيلَهَا
واركَبْ على صَهَواتِها…….. وتحَكَّمْ
لا لسْتَ مبعُوثَ الهَوَى إنْ لم ْتَعُد
لي فارِسًا يختَالُ فوقَ الأَدهَمْ
ولكن لهذا الشاعر قدرة تمرس عليها تنبع من حقيقية رومانسيته قد لايتوصل اليها كل شاعر هي التي هيات له ذلك الانسجام والقبول لما يقول:

لِيَطُوفَ حولَ حدائِقٍ تُفَّاحُها
كفوَاكِهِ الفِردَوسِ.. بلْ هُوَ أطعَمْ
هذِي الحدَائِقُ كُلُّهَا خُلِقَتْ لِمَنْ
دَخَلَ الفُؤادَ بِعُودِهِ……. وترَنَّمْ
تُفَّاحُهَا….. رُمَّانُهَا….. بَرقُوقُهَا
تُوتُ الشِّفَاهِ، وكَرزُهَا، والعَندَمْ
إنْ أعجَبَتْكَ حديقَتِي.. فاصعَد لها
بينِي وبينَكَ سُلَّمٌ…….. فَتَقدَّمْ

ونخلص من كلام الشارح السابق ان بعض الشعراء كان يمنعهم الحياء فيستعينون بالصبرعن بيان حبهم للمرأة المحبوبة او للمراة عموما، فيغلب على بوحهم الشعري الغموض وتلفه الرعاية الحسنة، فيكون كلامهم الرمانسي هذا “غزلا عذريا” ، يرى شعراء الرومانسية المعاصرون ان الحياء هذا ومراعاة اسماع المحافظين سوف يتعب عاطفتهم ويمنع ابداعهم كما يؤذي طبائع ووجدهم وهيامهم ، و الايحاء و الرمزية قد اثقلت قرائحهم ، انظر علي عمران ينتفض عن هذا و يقول من قصيدته (كرهت الحب بالايحاء) :

تَعَرَّيْ كالمصَابيحِ
وبُوحِي بالهَوَى بُوحِي
أزِيحِي الشَّالَ، وانتَفِضِي،
وبينَ جوَانِحِي نُوحِي
تعالي صَوبَ عصفِ الرِّيحِ
وامْتَثِلِي لِتلْوِيحِي
أُريدُكِ معبَدًا يَرضَى
بإلْحادِي وتَسْبيحِي
كرِهْتُ الغُرفَةَ الخَجْلَى
وَضَوْءًا نِصفَ مفتُوحِ
كرِهتُ عِبارَةً بالبابِ
تُعلِنُ: “غيرُ مسْمُوحِ”
كرِهْتُ الحُبَّ بالإيحَاءِ
في صَمْتٍ، وتلميحِ
أُريدُكِ فوقَ صَحرَائِي
حِصَانًا غيرَ مكبوحِ

أما الشعراء الذين اوتوا جرأة اكبر ويصارحون في العشق مع النساء ويجرؤون على وصف جمال أجسادهن ومفاتنهن الممنوعة دينا و عرفا فهم اصحاب “التشبيب” او الغزل الفاحش “المادي” و “النسيب” هو ماجمع بين الامرين ، هذا في القديم ، اما الرومانسية الحديثة فهي ماجمعت بين الثلاثة ، ويخرج منها –عندي- الغزل الماجن او غير السوي مثل التغزل بغير المرأة او التحدث عن الفعل الفاحش لغرض التباهي او المجون من غير اشتياق او وجد او هيام ، فانما بعض من تمكن من صنعة الشعر سخره للاساءة المجردة للقيم والاعراف و انتهاك الحرمات والاجساد امعانا في الرذيلة لا اكثر ، فلا يجوز لنا ان نعد هؤلاء مع الرومانسيين بل مع المتهتكين .
ويبدو للوهلة الاولى ان الغزل لابد ينتج عن عواطف الشاعر وحاجته الشديدة المباشرة له ، لكن لو تمعنا في الغزل منذ العصر الجاهلي فلن نجد كل شعرائه انتجوه تحت حاجة عواطفهم ووجدهم الحقيقي، بل بعضهم فعله لإدامة العرف الأدبي و الشعري آنذاك لا غير، فالغزل في اصله وليد العاطفة، بيد انه عند الجاهليين نشأ و درج كمطلع لاغراض أخرى قد لا تمت له بصلة ، والا كيف تفسر قول كعب بن زهير في مستهل مدح النبي الاعظم او استعطافه وهو يقول في حضرته :

بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ ،،،،، مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا ،،،، إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ
وبقي مسترسلا يصف متغزلا :
هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً ،،،، لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت ،،،، كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ
ويتعتب :
يا وَيحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقَت ،،،، ما وَعَدَت أَو لَو أَنَّ النُصحَ مَقبولُ
لَكِنَّها خُلَّةٌ قَد سيطَ مِن دَمِها ،،،،، فَجعٌ وَوَلعٌ وَإِخلافٌ وَتَبديلُ
فَما تَدومُ عَلى حالٍ تَكونُ بِها ،،،،، كَما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغولُ
و يتمثل :
كَانَت مَواعيدُ عُرقوبٍ لَها مَثَلاً ،،،، وَما مَواعيدُها إِلّا الأَباطيلُ
أَرجو وَآمُلُ أَن يَعجَلنَ في أَبَدٍ ،،،، وَما لَهُنَّ طِوالَ الدَهرِ تَعجيلُ
و يتنسب :
فَلا يَغُرَّنَكَ ما مَنَّت وَما وَعَدَت ،،،، إنَّ الأَمانِيَ وَالأَحلامَ تَضليلُ
أَمسَت سُعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُها ،،،، إِلّا العِتاقُ النَجيباتُ المَراسيلُ
ويتوصف :
ضَخمٌ مُقَلَّدُها فَعَمٌ مُقَيَّدُها ،،،، في خَلقِها عَن بَناتِ الفَحلِ تَفضيلُ
حَرفٌ أَخوها أَبوها مِن مُهَجَّنَةٍ ،،،، وَعَمُّها خَالُها قَوداءُ شِمليلُ
و ابيات أخرى كثيرة قبل ان يمهد لدخوله غرضه الاصلي من القصيدة :
وَقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنتُ آمُلُهُ ،،،، لا أُلفِيَنَّكَ إِنّي عَنكَ مَشغولُ
فَقُلتُ خَلّوا طَريقي لا أَبا لَكُمُ ،،،،، فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَحمَنُ مَفعولُ
فيهذب قوله بالحكمة والنظر ليصل الى حضرة النبي المأمول :
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ ،،،،، يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
فيقول أخيرا:
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني ،،،، وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ ال ،،،،، قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ
ليسترسل بعد ذلك في اصل مراده ، ولم يستغرب النبي عليه الصلاة والسلام منه ذل بل قبله و اكرمه بردته “ان صحت الرواية”.

لذلك يدعي ابن قتيبة أن “غزل الشعر الجاهلي لا يمثل عواطف الشاعر الحقه”، ولا يقرض الشاعر هذه القصائد إلا لاليلفت السامعين، إلى كلامه اللاحق في غرض القصيدة الاصلي ، فيجذبهم له بعنوان العشق او الحنين الرقيق او الوجد..
ولايخالف ابن رشيق هذا الرأي من أن الأشعار الغزلية للقصيدة جزء لا ينفك منها، ولكن لا يحتم أن يكون تعبيرا عن لسان حال لما طرأ للشاعر من الأحاسيس والعواطف، اما ابتدارالقصيدة بذكر ديار الأحبة او المحبوب فله ثوابت في العرف الأدبي الحسن من غرض النسيب احيانا و يفتتح به الشاعر انشاده فيمزوجه بما بعده من مدح أو فخر او وصف او ما أشبه.
ومع ذلك فإن ابن قدامة وابن قتيبة وغيرهما من النقاد يجزمون الاعتقاد ان هذه الأشعار الغزلية الافتتاحية كانت تقرض في أصلها لجلب النقاد والمتلقين، ويظنون أن الشاعر لا ينجح في استمالة سامعيه وقرائه بدونها ومن غير ابرازالعواطف والاحاسيس والعناوين المؤثرة كالحب والوداع والحنين و لاشك اللقاء وجمال النساء، و من قولهم “فما شكا شاعر من شدة الشوق والوجد وفرط الصبابة الا ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويسترعي به انتباه المتحلقين وإصغاء الأسماع إليه لأن النسيب قريب من النفوس”.
والحقيقة ان تشابه القصائد الجاهلية على الاقل في مبتدى الطلل والغزل والنسيب والحنين الى ديار الحبيب هو الذي أثار قضية الانتحال التي أثارها بعض النقاد في عصر النهضة و تزعمها الدكتور طه حسين حتى وصل الى التصادم مع بعض الثوابت في كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي لم يكتب لنظريته التوفيق بعدما دحضت من كثير من نقاد عصره وكتابه ومؤرخيه من اهل الاختصاص ، كما اتسّم شعر التشبيب “الرومانسي القديم” بأسلوب الحكاية ، فكان الشاعر منهم يتحدث عن قصته مع محبوبته ويصف مواقف حصلت بينهما: “قالت صف” لعلي عمران :

وقالت: صِفْ عُيُوني… قُلتُ: حُلوَة ،،، فقالتْ: صِفْ شِفَاهي، قُلتُ: جَذوَة
وشَعرِي؟ قُلتُ: بحرٌ ليسَ بينِي ،،،، وبينَ الغوصِ فيهِ غيرُ خُطوَة
وثغْرِي؟ قُلتُ: عُصفورٌ جميلٌ ،،،، يُواصِلُ في سماءِ العُمْرِ شَدوَه
ونهدِي؟ قُلتُ: بطٌّ ساحليٌّ ،،،،، وسهْلٌ أن أصيدَ البطَّ عَنوَة
ورِدفِي؟ قُلتُ حِصنٌ من لُجَينٍ ،،،، ولا يحتاجُ منِّي غيرَ غزوَة
فقالتْ: هل نسِيتَ اليومَ شيئًا ،،،، ولم تُلْقِ السَّلامَ؟فقُلتُ: “أيوَه”

و منها ابيات
حدائِقَ مِلْؤها عِنَبٌ، ولوزٌ ،،،، وفي أوساطِها نبعٌ، وربْوَة،
وذِئبٌ يخْتبِي منِّي، ويَعوِي ،،،، إذا نَتَفَتْ يدِي في الليلِ فَروَه
أنا شَادٍ، وهذا الحُسْنُ نايٌ ،،،،، وأنتِ على سريرِ الليلِ غِنْوَة

و هذا اسلوب “المحاورة المتخيلة” كان قد استخدمه الجواهري أعظم شعراء القرنين الفائتين “في رأي جمهرة من نقاد العرب”، يقول واصفا حواره مع مضيفة طيران -كما أشيع- فالقصيدة اسمها (غزل في الجو):

وقالت: اِنظِمِ الشعر ،،، فقلت: وها أنا الشعر
خذيني بين كفيك ،،،، فداك ” العجز ” والصدر
وصوغيني كما تَهْوين ،،،، سطراً حذوهُ سطر
وشطرين سويين ،،،، وايّ شئته شطر
ألا يا حلوةَ العينين ،،،، يا من حلوُها مر
و فيه من قبيل المصادفة يذكر واحدة من اشتقاقات كلمة “التشبيب” في سياق مختلف :
ويا مشبوبة الخدين ،،، عندي منهما جمر
عبدتُ الحبّ .. والشعرَ ،،، وكلّ منهما .. كفر

فحظيت المرأة دون شك بعناية الشعراء العرب في عصورهم جميعها من الجاهلي الى العصر الحديث، فلا تكاد قصيدة وجدانية تخلو من ذكر جمالها ومحاسنها، بالإضافة إلى الأشعار الكثيرة بين الشعراء ومحبوباتهم والتي تصف العواطف الصادقة، وبخاصة أشعار الغزل العذري كما بينا، والفرق بين صورة المرأة في الشعر بالعصور القديمة عن صورتها في الشعر بالعصر الحديث، هو وصف الشعراء محاسنها قديما سواءً الجسدية أو الروحية، فكان شعر الوصف غالبا على الغزل و اخذ مساحة واسعة من القريض، بل كانت معظم القصائد تبتدئ بذكر صفات المرأة و ماتفعل ،
هذا هو السيد محمد سعيد الحبوبي من شعراء القرن الماضي المبرزين في الغزل يقول في قصيدته الشهيرة المطلع التشبيهي:

لح كـوكـباً وامش غصناً والتفت ريما ،،،، فـإن عـداك اسـمـها لم تعدك السيما
وجـــه أغـــر وجـــيـــد زانـــه جـــيــدٌ ،،،، وقــامــة تــخــجــل الخـطـي تـقـويـمـا
منها :
يـا مـن تـجـل عـن التـمـثـيـل صـورته ،،،، أأنـت مـثـلت روح الحـسـن تـجـسـيـمـا
نـطـقـت بـالشـعـر سحراً فيك حين بدا ،،،، هـاروت طـرفـك يـنـشـي السحر تعليما
فـلو رأتـك النـصـارى فـي كـنـائسـها ،،،، مــصــوراً ربــعــت فـيـك الأقـانـيـمـا

فيدخل رويدا الى التشبيب او الرومانسية:
ألقــى الوشــاح عــلى خــصـر تـوهـمـه ،،،، فــكــيــف وشــح بــالمــرئى مــوهـومـا
ورج أحــــقـــاف رمـــل فـــي غـــلائله ،،،، يـكـاد يـنـقـد عـنـهـا الكشح مهضوما
الردف والســاق ردا مــشــيــه بـهـراً ،،،، والدرع مــنـقـدة والحـجـل مـفـصـومـا
فــي وجــهــه رســمــت آيــات مـصـحـفـه ،،،، تـتـلى ولم يـخـش قـاريـهـن تـأثـيـما
و انظر كيف تأخذه موجة العاطفة فيتجرأ على امور لم تكن متوقعة منه :
ذي نــون حــاجــبـه لو حـاؤه اتـصـلت ،،،، فـي مـيـم مـبـسـمـه لم تـعـد حـاميما
ولحــن مــعــبــد يــجــري فـي تـكـلمـه ،،،، إن أدمـج اللفـظ تـرقـيـقـاً وترخيما
أشــيــم بــرق ثــنــايـاه فـيـوهـمـنـي ،،،، تــألق البــرق نــجــديـاً إذا شـيـمـا
و لايخفى على المختص ان السيد محمد سعيد الحبوبي كان رجل علم شرعي و دين! :
يـا نـازلي الرمـل مـن نـجـد أحـبـكم ،،،، وإن هـجـرتـم فـفـيـم هـجـركـم فـيـمـا

ففي العصر الحديث اتجه الشعراء ومن خلال الرمزية في الشعر الى ان جعلوا من المراة احيانا دلالة للثقافة أو الحرية أو ربما الوطن
ومن الشعر المعاصر في هذا يقول علي عمران في قصيدته “شهرزاد”:

سَأقرَأُ شِعرَ الحنينِ عليها
إذا ما التَقينَا قُبَيلَ المسَاءْ
وأحمِلُها في ضُلوعي، ونمضِي
إلى مَخدَعِ الشَّمسِ نُزجِي الغِناءْ
أسُوقُ نسيمَ الرَّبيعِ إليها
وأمنَعُ عنها رِياحَ الشِّتاء
انظر (مخدع الشمس و اسوق الربيع الحمل بين الضلوع) فالتصوير هنا لايشبه مانعهده عند شعراء الوصف او الغزل ، هو اقرب الى الحكايا الخيالية او قصص السحرة والغابات:

كرَاعٍ يَسُوقُ الموَايلَ ليلًا
إلى خيمَةٍ فوقَ تلِّ الضِّيَاءْ
على هَودَجٍ مِنْ عبيرِ الخُزامَى
تهادَتْ بفُسْتانِها الكَسْتَناءْ
بِنفحَةِ مِنديلِها القُرمُزيِّ
بِرنَّةِ خلخالِها……. والحِذاءْ
يُزغرِدُ عُشبٌ، ويضحَكُ نَبعٌ،
ويرقُصُ نهرٌ، ويختَالُ ماءْ
ولا اجد احدا بحدود اطلاعي على الشعراء المعاصرين من وصف المراة بجنسها كوصفه :
فأدرَكْتُ أنَّ الرَّبيعَ يُطِلُّ
على الأرضِ حينَ تُطِلُّ النِّسَاءْ
الصورة المتخيلة المستوحاة من قصص السحر والخيال :
تُلوِّحُ مثلَ الأميرَاتِ تِيهًا
فتسْجُدُ بينَ يديها الظِّباءْ
وميزة الرومانسيين انهم لايتاخرون في منافسة الشعراء الوصافين فممارسة الغزل وتتبع مواطن جمال المراة يدربهم على ذلك ، فتجد لوصفهم وقع قوي:

ومرَّ الزَّمانُ بطيئًا كَشَيخٍ
يُجرجِرُ أقدَامَهُ في عنَاءْ
والبيت السابق لصورته سابق في شعر العرب كثيرا لكن شاعرنا أطرها باسلوبه وحركها بادواته فقد قال الشاعر

فَفرَّ السَّحابُ فِرارَ الخِرَافِ
وأغْلَقَتِ الرَّيحُ بابَ السَّماءْ
والرومانسيون المعاصرون لايترددون في تضمين اشعارهم العربية الخالصة بعض مصطلحات او مسميات من ثقافات اخرى ولو كانوا من ارباب اللغة العالية يدفعهم الى ذلك حاجة صورة العشق او توصيل حالاته ولحظاته التي لايفتؤون يطاردونها في كل مكان ،
يقول عمران بعد بيته:

وقامَ الظَّلامُ يلُمُّ النُّجُومَ
ويجمَعُها في جُيُوبِ الرِّداءْ

واصفا الوصال والرقص :

ونحنُ معًا بينَ ضَمٍّ، ورقصٍ
على نغَمِ (الفَالسِ) دُونَ انتهاءْ
فيُطفَأُ جَمرُ الحكَايَا… ونحنُ
على جمرَةِ الحُبِّ دُونَ انطِفَاء

. ينقص بعض قصائد هذا الشاعر ان يسبك تضافره الاسلوبي ، فلا يقفز من فكرة او موصوف الى اخر دون ذكر او تمهيد او حتى تنبيه،
انظر الى “ضَفيرتُها”

ضَفيرَةُ شَعرِها يا بحرُ
أمْ سَيلٌ مِنَ الطُّوفَانْ
محَارَاتٌ…….. مُسَافرِةٌ
ولم يُعرَفْ لها عُنوَانْ
ف”قيمة النص الحقيقية هي التي تنبع من العناصرالمتضافرة جميعا بحيث تتشابك الدلالات وفق نظام التراكب و التداخل فيمتد جزء من مستوى معين داخل جزء من المستوى الذي يليه ليمده بالاداة التي تحقق الحفاظ على الامتداد الدلالي وصحيح انها “خصائص تتفاعل وان كانت غير متجاورة او ليس شرطا ان تكون متجاورة” كما يرى عدنان حسين قاسم في كتابه (الاتجاه البنيوي في نقد الشعر) ، فشاعرنا وان كان متمكنا من ذلك و لكني أحبذ ان يتسلسل المتلقي في فهم تلك الاجزاء او التراكيب المتداخلة ليعيد كل صفة الى موصوفها وكل مشبه به الى مشبهه وكل استعارة الى مغزاها وكل كناية الى اصلها ، ليصل الينا البناء العام للقصيدة وتتحقق وحدة القصيدة ووحدة الموضوع ، وهذا الذي يميز لدينا كبار الشعراء عن غيرهم في كل حال.
فهل مازال علي عمران يتحدث عن الظفيرة ام انتقل؟ و مالذي انتقل اليه ! لاندري ، ففي الاصل لايمكن ان يكون وصفه مستمرا للضفيرة بينما يثني الوصف و موصوفه مفرد فالقاعدة في الوصف مطابقته للموصوف في الافراد و التثنية والجمع الا في استثناءات المسميات التي على لغة التغليب او مايحمل معنى الجمع وهو مفرد ، فيقول:

وشَلَّالانِ….. مِنْ كُحلٍ
سَديمِيٍّ كخيطِ دُخَانْ
و اذا قبلنا البيت السابق وصفا للظفيرة كونها سوداء فناسبها الكحل كمشبه به في التشبيه الناقص او البلاغي الذي اورده دون اداة ، فكيف نقبل بحيرات من الاقمار على مافيه من جمال الصورة ان يكون وصفا للجديلة ، فهي سوداء مظلمة و الاقمار بيضاء مشرقة :
بُحيرَاتٌ مِنَ الأقمَارِ
تركُضُ نحوَها الغِزْلانْ
فلعله اراد الخدين ، و كيف تكون شبابيك في البيت التالي، فلعله اراد العينين :

شَبابيكٌ مِنَ الأَبَنُوسِ
مُشْرَعةٌ على البُسْتَانْ

مرَاكِبُ فوقَ موجِ اللَّيلِ
سَابِحَةٌ……… بلا رُبَّانْ
و من عنى بالمصابيح ؟
مصَابيحٌ…… مِنَ البِلَّورِ
ينْقُرُ بابَها الكَرَوانْ
زُمُرُّدةٌ……… مِنَ الكَنزِ
المُخَبَّأِ في حَكَايَا الجان
هذه الصور المترعة خيالا وجمالا كان ينقصها ان يعرف المتلقي موجهة لمن او لاي موصوف من اوصاف محبوبته ليكتمل جمال التلذذ بالصور ولا تكون عبثية التوجيه فتدخلنا في متاهات الحداثة او المعنى المخبأ في قلب الشاعر.
وختاما فعندي ان الشاعر الرومانسي الحق الذي يشار اليه هو الذي لايجد عن قصائد الرومانسية محيصا فتراه كلما ابعد قليلا الى غرض آخر عاد الى اصل غرضه ، حتى انه يجد نفسه لايبدع الا فيه و ان رأيناه مبدعا او مجيدا في غيره ، انما هو الذي لايجد لنفسه متنفسا و لا لقريحته منفذا و لا لابداعه صورة الا بأشعار الرومانسية و غزلها و نسيبها و تشبيبها على حد سواء ، وعمرو بن ابي ربيعة و علي عمران دونما ريب من هؤلاء.
وبعد فانه و ان كان من شعراء الرومانسية فان لعلي عمران القدرة على اغراض اخرى من الشعر لاتقل عن قدرته على الرومانسية الا مايختلف ان وجدانه ونفسه وطبعه رومانسي بالفطرة فيسهل عليه نظم هذا الشعر والبراعة فيه ، و لكنه يعرف قيمته الشعرية بعد فيقول مفتخرا معاتبا الزمان :

عجَيبٌ أنْ أعيشَ بِغيرِ مَجدٍ
وأنْ تحيَا على المجدِ الكِلَابُ
و انظر البيت الآتي تجد التشبيه ايضا يمت الى الفن الذي يتقنه بصلة و ان كان المراد الاستنكار و ليس التشبيب ، ولكن مازال للمراة حضور:

طَريدٌ كالتِي حَمَلَتْ سِفَاحًا
يُطَارِدُها… وما بَرِحَ العِقَابُ
أَتَيتُ وفي يدِي غابٌ طَرُوبٌ
وعُدتُ مُشرَّدًا والأرضُ غَابُ
والشباب حاضر ايضا :
شَبابُ العُمْرِ ساقيَةٌ وَجَفَّتْ
ولنْ يرتَدَّ للعُمْرِ……. الشَّبَابُ،
قِطَارٌ مَرَّ، أرصِفَةٌ تلاشَتْ،
حقائِبُ بُعثِرَتْ، مُدُنٌ خرَابُ
القطار و الارصفة و الحقائب و المدن التي كانت صورا ومحطات لجمال رومانسياته وغزله وذكرياته ، استخدمت هنا حزنا و لوما و حسرة :

وما الدُّنيا سِوى حَاوِ كَذُوبِ
يُمَنِّينَا….. وقد فَرَغَ الجِرَابُ
سَألتُ الدَّهرَ خُلْدًا… لم يُثْرثِرْ
وكان جوَابُهُ نِعمَ الجوَابُ:
و انظر بيته الأخير من تلك القصيدة ، فكأنه لزاهد من الشعراء و ليس لشاعر رومانسي شهدت له قصائده بالبراعة:

سيَفْنَى القصرُ قبْلَ الكُوخِ، واسْألْ
عنِ الدَّارَينِ…. يُنْبِيكَ التُّرَابُ