23 ديسمبر، 2024 11:26 ص

-1-
ليس الغرور من الصفات الحميدة يقينا ،

ومن هنا تجد العقلاء على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ومشاربهم – يتسالمون على ذَمِّهِ والتحذير منه ….

وعواقب الغرور وخيمة للغاية …

انها قد تدفع بأصحابه الى ان يذوقوا مرارة القتل والتعذيب ،مع ما ينتظرهم من شماته الأعداء … ولسعة الناقدين …

-2-

ومن أبرز أسباب الغرور، الاستحواذ على المناصب العليا ، وحيازة الدرجات الرفيعة .

-3-

إنَّ الغرور يُنسي أصحابه ما كانوا عليه قبل وصولهم الى المراكز الحسّاسة، ويدفعهم الى التصرف باستعلاء وفوقية مع غيرهم، كما يدفعهم الى سوء التصرف حتى مع أولياء نعمتهم أحياناً .

وبهذا يفتحون على أنفسهم باب النقمة والعذاب، وفقدان ما حازوا عليه من مواقع ومنافع …

-4-

وسنورد ، باختصار شديد مثاليْن فيهما الكثير الكثير من العِبرة لمن أراد الاعتبار …

الأول :

يتعلق بالفضل بن مروان ” الذي قال عنه ابن مسكويه في تاريخه –تجارب الامم وتعاقب الهمم ج4 ص12-13 انه :

” صار صاحب الخلافة ، والدوائر كلها تحت يديه ، فتضاعفت كنوزُه ” حين ولي المعتصم العباسي الخلافة بعد أخيه المأمون .

لقد كان الفضل بن مروان حسن الخطّ ، فاتصل بكاتب المعتصم (يحيى الجرمقاني)، فلّما مات يحيى حلّ الفضل محلّه ، وذلك قبل ان يلي المعتصم الحكم .

ثم خرج الفضل الى عسكر (المأمون) وسار معه الى مصر ، (فاحتوى على أموال مصر ، وكثرت ذخائره وكنوزه) – على حدّ ما قاله ابن مسكويه في تاريخه .

والمهم :

إنّ غرور الفضل دفعه الى الإبطاء في تنفيذ ما يأمره به المعتصم – أحيانا – ، حتى قيل :

(كان يخالفه ويمنعه بعض أمره ، وبعض المال الذي يصرفه في مهامه)..!!

وكان ذلك سببا لزوال نعمته ..!!

لقد قيل للمعتصم :

(انما لك من الخلافة الاسم …

وانما الخليفة الفضل بن مروان …)

مما جعل المعتصم يصدر قراره بنفيّ الفضل الى قرية في طريق الموصل تعرف بالسن ، بعد تصيفة أعماله وأمواله .

لقد كان الفضل بن مروان (شَرسَ الاخلاق ، وضيق العطن كريه اللقاء ، بخيلا ، مستطيلا ) ،

فلما نُكب شمت به الناس حتى قال بعضهم فيه :

لِتَبْكِ على (الفضل بن مروان) نَفْسُهُ

فليس له باكٍ من الناس يُعْرَفُ

لقد صَحِب الدنيا مَنوعاً لخيرها

وفارقَها وهو الظلومُ المُعَنَّفُ

الى النار فَلَيذْهَبْ ومَنْ كان مثله

على أيّ شيءٍ فاتَنا منه نأسفُ ؟

وهذه هي عقبى المغرورين…!!

الثاني :

يتعلق ( بمحمد بن عبد الملك الزيات الذي حلّ محله بعد عزله .

لقد استوزر (الواثق) الذي ولي الخلافة بعد (المعتصم) محمد بن عبد الملك الزيات ، وفوّض الأمور اليه .

ايّ أنّ (الزيات) أصبح شبيها ب(الفضل بن مروان) أيام المعتصم .

وكان (المعتصم) قد غضب على أخيه جعفر (المتوكل) ، فاراد (جعفر) ان يكون ابن (الزيات) سبباً في إزاحة غضبِ أخيه عليه ،

فقصد ابن الزيّات ، وسأله أنْ يكلم أخاه (الواثق) ليرضى عنه .

يقول ابن مسكويه :

(فلما دخل عليه مكث واقفا بين يديه)

لم يكّلمْه ابن الزيات ..!!

ثم أشار اليه ان يقعد ،

” فلما فرَغ من نظره في الكُتب ، التفَتَ اليه ، كالمتهدد، فقال له :

ما جاء بك ؟

قال :

جئتُ لتسأل أمير المؤمنين ليرضى عني

فقال لمن حَوْله :

انظروا الى هذا ، يُغضب أخاه ، ويسألني استرضيه له ،

اذهب فانّك اذا صلحت رضيّ عنك،

فقام جعفر كئيباً لما لقيه به من قُبح اللقاء والتقصير به “

لم يحسب ابن (الزيات) المغرور بمكانته عند (الواثق) حساب المستقبل..!!

وفاته أنّ (المتوكل) لايحجبه عن الملك الاّ موتُ أخيه (الواثق) ، وماذا سيكون حاله حئنيذ اذا ولي (المتوكل) الحكم ؟!

ولم يكتف ابن الزيات بما صنعه مع (جعفر) ، فقد كتب الى (الواثق) يخبره :

” ان جعفر أتاه في زي المخنثين ،

له شعر بقفاه ، …

يسألني ان أسأل امير المؤمنين الرضا عنه “

فكتب الواثق اليه :

( ابعث اليه فأحضِرْهُ )

ومُر بجزّ شَعْر قفاه ،

ويضرب به وجهه ،

واصرفه الى منزله “

ونفّذ (ابن الزيات) ما أمره به الواثق …

ولما آل الملك الى (المتوكل) انتقم من (ابن الزيات) شرّ انتقام :

” كان مُنع من النوم ،

وكان ينخس بمسلة لئلا ينام “

وصودرت أمواله وضياعُه ، وعُذّب حتى مات …

لقد كان (ابن الزيات) قاسي القلب وشديد التنكر للأصحاب …

جاء في ترجمته انه سُمع قبل موته يقول لنفسه :

” يامحمد

لم تُقنعك النعمة ، والدواب، والدور النظيفة، والكسوة، وأنت في عافية ، حتى طلبتَ الوزارة .

ذُقْ ما عملتَ بنفسك …”

وقيل :

ان (ابن الزيات) كان صديقا (لابراهيم الصُولي) ، فلما ولي الوزارة ، صادره بألف ألف وخمسمائة ألف درهم ، فقال الصولي :

وكنتَ أخي باخاء الزمان فلما نَبا صرتَ حَرْبا عَوانا

وكنتُ أذمُّ اليك الزمان فأصبحتُ منكَ أذمُّ الزمانا

وكنتُ أعدّك للنائبات فها أنا أطلب منك الأمانا

وقصة التنور الذي اخترعه للتعذيب معروفة ، وقد أُلقِيَ فيه هو ، وعذّب

حتى مات …. فارتد كيدُه عليه ….

وهنا تكمن العبرة .

-5-

اكتفينا من التاريخ بمثاليْن ، أما من الواقع الراهن، فان الأمثلة لاتُحصى ولا حول ولا قوة الاّ بالله العليّ العظيم .

*[email protected]