يقول الشاعر أدونيس: “لا بد لهذا العالم من قصيدة النثر كتمرد أعلى في نطاق الشكل الشعري.”هذا يعني أن قصيدة النثر ليست هروباً من الصعوبة إلى السهولة كما يهيئ للبعض. فالموضوعات والأفكار التي يقدمها النثر قد تفوق بشعريتها وأثرها الوزن والقافية.
ومن جمال اللغة الشعرية أنها وسيلة للنقل والإكتشاف، فهي ثورة على المألوف تهز الأعماق. والشاعرهنا في نصه جعل من لغته وسيلة لجذب القارئ ليعيش تجربته الخاصة في الغربة. الغربة التي يتردد صداها عند الكثير من الشعراء قديماً وحديثاً، عند العرب وعند الغرب. فنرى العربي والمسلم خاصة، كلما وقعت واقعة وشعر بالوحشة والغربة عزف على أوتار شعره مصوراً حاله أو حال أمته كالبغدادي والتميمي والحمداني والبحتري والمتنبي والمعري وغيرهم الكثيرين من المعاصرين ،والذين كتبوا في الغربة سواء على المستوى الفردي من غربة المكان والزمان اللتان تشكلان الهم والحزن ، أو على المستوى الجماعي والذي هو أشد وقعاً على النفس. فكثر هم غرباء في أوطانهم ، ولعل الغريب عن الوطن يبدو “مثل بقعة من الأرض منقولة بترابها ومائها وأشجارها إلى عالم لا تجد فيه ذاتها”.
عبر الشاعرعبد الرزاق الربيعي في نصه عن غربته بصوره الشعرية الظاهرة والعميقة ، البسيطة والغنية. أوليس الشعر هو الملاذ الوحيد لنشر صور العذاب المرير؟ فتجربة الشاعر في معاني الغربة تظهر من خلال شكواه وهمومه، تلك الهموم التي تجد طريقها إليه دون بحث مسبق. فالإنسان هو جزء من مجتمعه، يتألم مع المتألمين ويحس بشقائهم،وهذا ما دل عليه القول الذي سبق النص (حتى حين نعود،نحن لا نعود، شيء منا يذهب للأبد-إدواردو جاليانو) فقد بين الشاعر فيه أن في العودة من الغربة شيء ما يذهب للأبد، فالغربة هي الموت المحيط بصاحبه.
ويقول الكاتب عبيدة الشبلي أن الأديب لا عدة له غير الإحساس المرهف والدليل الصادق والتعبير الجميل،وهذه رسالته الكبرى. ويزداد هذا الشعور والتأثير والتأثر عندما يحسن المبدع توظيف مقومات الشعر وتسخيرها لخدمة المعنى والكشف عن حدة الموقف. وهذا ما قام به الشاعر في نصه(بماذا يعود الغريب؟). فكان التساؤل أحد أهم مقومات الشعر التي عملت على إشراك المتلقي في النص.فقد استطاع بأسئلته أن يضرب في أعماق الحس الإنساني .هذه التساؤلات أعطتنا كماً هائلاً من الإحساس بالغربة التي يعانيها الشاعر.ففكرة النص الظاهرة في عنوانه تنسجم مع اختيار الأسئلة المتتابعة في إبراز معنى الغربة وتجلياتها الدلالية معتمداً على السؤال كسبيل موصل للحقيقة وأداة للتنفيس عن المشاعر.
السؤال يتربع عنوان النص(بماذا يعود الغريب). والتصدر بالسؤال قد فجر طاقة كبيرة مارست فاعليتها في المتلقي في استنفاره للإجابة أو التوحد مع الفكرة الخبرية التي اختارت أن ترتدي قالب السؤال . ويكمل الشاعر لنرى السؤال يستحوذ على القسم الأكبر من النص متخذا صيغة (بماذا) أداة التساؤل قاصداً بها معرفة السبب والوسيلة، حتى إذا ما حذفنا هذه الآداة ظهر لنا معنى الحقيقة المرة التي ينطلق منها النص.ويبنى عليها موضوعها اللاحق المتخفي بالأسئلة لهدف بلاغي بحت هو المعنى الخاص الذي انطلق منه النص في البدء.فالشاعر لا يجد إلا السؤال ليجسد مشاعره ، فيتبعها بأسئلة متتابعة هي في ذاتها إجابات متخبطة يحاول فيها الإجابة عن السؤال الأول (بماذا يعود الغريب؟بمقبرة في الضمير؟ بتذكرة العبور إلى الآخرة؟ بجرح فسيح؟ بغبار؟ بريح؟ بكسرة موت؟)
كما استطاع الشاعر أن يمازج بين السؤال والإخبار، فنما النص واستكمل قوامه.والكاتب في رده ينقل الحقيقة المريرة بثوب السؤال مجسماً ألمه وحزنه بشيء من الخوف والجوع وبحلم كثير القروح ،ببيت من الشعر بحزن الوجود.فلطالما كان الحزن ملاذاً لكل غريب أحس بمرارة الغربة وعذابها.أوليست تأتي الصورة الشعرية من رحم المعاناة فتعطي الشاعر القدرة العالية على نقل المشهد ؟ “ففي العذاب تتلون الصور وتنبري الأقلام”(بماذا يعود الغريب؟ بنهر دموع؟بنحيب؟ بليل شديد السواد وطويل؟)
أسئلة كثيرة تظهر شكوى الشاعر أكثر من كونها انتظاراً لإجابات،جاءت بلا فاصل ،فيبدو كل سؤال مفصولاً عن المسؤول عنه،مكرراً السؤال ذاته ليصعد نبرة الحسرة والألم.هذه الكثافة الأسلوبية في التساؤل تجعلنا نتساءل عن العلة الدلالية لهذا الحضور اللافت.فنتبين أن هدف السؤال منصباًعلى ترسيخ المعنى، مجسماً صرخة كبتت طويلاً حتى بات السؤال سوطاً يجلد الروح ،فيمتد ليشكل رؤية كاملة يملؤها التخبط والرفض والحزن.
هذا الحزن الذي صوره الشاعر في العودة ل “أوروك” إثر إحساسه بالوحدة وهو في ظل غربته. “أوروك ” أول مدينة متحضرة في تاريخ البشرية ،والتي لازمها الحزن منذ القدم، منذ موت جلجامش مروض الأسود ولا يزال مستأصلاً في بلاد الرافدين. هذا الرمز الأسطوري الذي أسقطه الشاعر يعد منبعاً ثريا للإبداع الأدبي ودليلا على ثقافة الشاعر وقدرته الشعرية في بناء نصه .
بماذا يعود الغريب؟ بطيف عتيق يبل الفؤاد بعد أن ضاع في الدرب الكثير؟بجرح حسين جديد؟ هكذا يختم الشاعر عبد الرزاق الربيعي نصه بتشبيه عودته بجرح حسين جديد ، مشيراً إلى الفكر الديني الإسلامي المتمثل بالعدل مقابل الظلم وبالجهاد من أجل الأرض والعرض.هذا الغريب الذي عانى ما عاناه في سبيل نصرة الأرض ونشرالحق فاق حزنه جرح الحسين.
* د.رنه يحيى (مسؤولة الدراسات النقدية في منتدى وتريات قصيدة النثر)
النص: بماذا يعود الغريب؟
عبد الرزاق الربيعي
“حتَّى حين نَعود، نحْن لا نعُود، شيءٌ منَّـا يذهبُ للأبَد”
(إدواردو جاليانو)
من وراءِ النهارِ
من الغيبِ
من شرفةِ المنتهى
وأعالي القفار
بماذا يعود الغريبُ
إذا عادَ من ليلهِ السرمديِّ ؟
بمقبرةٍ في الضميرِ ؟
بتذكرةٍ للعبورِ
الى الآخرة ؟
بأفقٍ صغيرٍ يعلِّقُه
قرب دمعة جدّتهِ
في جدار الخرافات؟
بماذا يعود؟
” بشيء من الخوف والجوع ونقص من الثمراتِ “؟
بحلم كثير القروح؟
بجرحٍ فسيحِ؟
بقبض غبارٍ
وريحِ ؟
بماذا يعود الغريب لأوروك ؟
بكسرة موت؟
وقد ضاع ما ضاع في الدرب
من زهرةٍ للمكوث
بماذا يعود؟
بمكر التراب ؟
بسرِّ؟
ببيتّ من الشعر
بحزن الوجود ؟
بدرعٍ من الضوءِ
عند ضجيج مرايا السراب ؟
بطيفٍ عتيقٍ
يبلّ الفؤاد؟
بنهر دموعٍ يضاف لما في البلاد؟
بماذا يعود الغريب ؟
بحشرجة ونحيب؟
بليلكةٍ لاتنامُ
إذا نام في الطرقات الصهيل؟
بليل شديد السواد طويل ؟
بماذا ؟
بجثته بعد حين؟
بماذا يعود؟
بجرح حسين جديد؟