عبد الله الغذّامي من أهمّ النقاد والمنظرين العرب المعاصرين، فمنذ صدور كتابه النقدي الأوّل (الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية – جدة 1995)، إلى اللحظة الآنية لم يتوقف عن أثارة الجدل في الأوساط الأدبية والثقافية والأكاديمية في الوطن العربي, وذلك بسبب الجرأة والرؤيا النقدية المتقدمتان اللتان أثراهما سواء عن طريق محاضراته كأستاذ (النقد والنظرية ) في كلية الآداب/ قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود بالرياض أو عن طريق مؤلفاته التي بدأت بالخطيئة والتكفير إلى إشكالات النقد الثقافي: أسئلة في النظرية والتطبيق صدر عن المركز الثقافي العربي 2023 . مرورا بسلسلة مهمة من المؤلفات منها على سبيل المثال لا الحصر:
تشريح النص، مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة. دار الطليعة، بيروت 1987–
– الموقف من الحداثة. دار البلاد، جدة 1987
ــ ثقافة الأسئلة، مقالات في النقد والنظرية، النادي الأدبي الثقافي. جدة 1992
ــ المشاكلة والاختلاف، قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في الشبيه المختلف. المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء 1994
ــ النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية . المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت 2000
– نقد ثقافي أم نقد أدبي. (بالاشتراك مع عبد النبي اصطيف) دار الفكر، دمشق (حوارات لقرن جديد) 2004
ـــ ما بعد الصحوة: تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد. صدر عن المركز الثقافي العربي 2015
مآلات الفلسفة: من الفلسفة إلى النظرية. صدر عام 2021–
وأخيرا وليس أخرا
– إشكالات النقد الثقافي: أسئلة في النظرية والتطبيق.صدر عن المركز الثقافي العربي 2023
إذ يعد الدكتور عبد الله الغذامي ثرّ العطاء متجدد النظرة ينظر إلى الحداثة والنقد الأدبي من عدّة زوايا، يضع أمام عينيه التجديد في جميع أطروحاته سواء النقدية أو الأدبية أو الفلسفية ، إذ قادته صراحته وجرأته إلى الصدام مع عدّة أسماء كبيرة في ساحة ألأدب العربي أمثال : (سعد البازعي في السعودية) أو على الصعيد العربي (أدونيس وعوض القرني).
إذ يتحلى كتابه (النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية) ، الذي نشر في المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت 2000 ، أهم كتبه النقدية والتنظيريةوأكثرها شهرة و جدلا في الأوساط الأدبية العربية على الإطلاق لما به من رؤيا تنظيرية جديدة تبشر بمشروع نقدي عربي جديد، وذلك لامتلاكه ثقافة واسعة وخبرة كبيرة خاصة في مجال النقد والأدب ولاسيما يعد من المجددين في الثقافة العربية.
إذ يقوم مشروعه على رؤيا معاصرة تتلخص بـ رؤيا و قراءة مغايرتين للخطاب الشعري العربي القديم والحديث في محاولة للكشف عن مضمراته أنساقه الثقافية، مسلما بعجز النقد الأدبي بمفهومه الجمالي عن كشف العناصر النسقية المضمرة ، ومن يتأمل في مشروعه أو رؤياه النقدية يدرك أنها ليست مجرد تأويلات أو تخريجات معزولة عن سياقاتها بل أنّه الخوض في مفهوم النقد الثقافي وجذوره وأصوله المعرفية وما يقابله من مرتكزات ورؤى في النقد الغربي.
يتمثل هذا الكتاب اقصد ـــ كتاب النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية ــ ، في طرح مجموعة من المقاربات في قراءة النص قراءة ثقافية، ومن يستعرض هذه القراءة يجد أن الغذامي بدا وكأنّه في بحث عن العيوب النسقية في البناء الجمالي للنص .
ولا ننسى ما أولاه الناقد من دور للمرأة خاصة بعد صدور كتابه (المرأة واللغة) عام 1996، حيث تحولت المرأة من خلاله إلى قضية دافع عنها حتى بدت وكأنها مركز يدور حوله الخطاب النقدي فيمجمله بعد التحولات التي حدثت وبروز مقولات ما بعد البنيوية من جانب، ومنجزات ما بعد الحداثة من جهة ثانية و ظهور دعوات التغيير التي أطلقها كل من (رولان بارت و ميشال فوكو وجاك دريدا) وصولا إلى عام 1968 حيث الثورة الطلابية الكبرى، التي قادت إلى تغييرات جذرية متعددة منها صعود التيارات التي تقوّض كل السلطات بما في ذلك سلطة الناقد الأكاديمي، وهنا نعى (رونانماك دونالد) الناقد أو دوره بكتابه الموسوم (موت الناقد)، فبرزت الحاجة إلى وجود رؤيا جديدة تحاول انتشال العملية النقدية وتأطرها بأطر تجديدية واقعية ، فقد طرح لنا الناقد المتجدد في رؤياه المثير للجدل أين ما حلّ، نتيجة لأفكاره الجريئة وكتبه المثيرة للجدل ابتداء من كتابه الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية عام 1985 ، إذ طرح د عبد الله الغذامي حزمة من الآراء والمقاربات في قراءة النصوص الأدبية قراءة ثقافية في محاولة لفرز العيوب في الأنساق التي تهدد البناء الجمالي للنصوص، فجاء بمفهومه الجديد بـ ( النقد الثقافي) قراءة في الأنساق الثقافية العربية.
إذ ترتكز فلسفة أو رؤيا النقد الثقافي بانتزاع اللغة والبلاغة من النصوص والنظر أليهما كمنظومة من العلاقات التي تتجاوز حدود مفهوميّ اللغة والبلاغة وكأنّ الدكتور يأخذ على عاتقه قراءة عيوب الخطاب الشعري العربي قديمه و حديثه وهذا واضح من خلال مقولته الشهيرة ( لقد آن الآوان لكي نبحث عن العيوب النسقيةللشخصية العربية المتشعرنة، التي يحملها ديوان العرب، وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة، لقد أدى النقد الأدبي دورا هاما في الوقوف على جماليات النصوص ، وفي تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي ، ولكن النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أو سببه ، أوقع نفسه في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي). (1)
دعوة الناقد هنا إلى البحث عن عيوب الخطاب الشعري العربي جاءت بعد عجز النقد الأدبي بمفهوم المهني من تشخيص هذهالعيوب، والسبب هو أن البلاغي والجمالي غطّيا على عيوب النسقيةللخطاب الشعري العربي ولأن الزاوية التي ينظر منها النقد الأدبي تماما غير الزاوية التي ينظر منها النقد الثقافي ولذلك قال الناقد:
( لنأخذ أمثلة من أبي تمام والمتنبي و أدونيس و نزار قباني، وهي أمثلة على الجمالي الشعري وهي أيضا أمثلة عن الخلل النسقي،وما يثرى لنا جماليا و حداثيا في مفهوم الدرس الأدبي هو رجعي ونسقي في مقياس النقد الثقافي) (2) . بمعادلة بسيطة أن النقد الأدبي ينظر إلى بلاغة النص وجماليته بينما النقد الثقافية ينظر إلى نسقية خطابه أن كان متجدد أو مكرر ويتمّ تقييم النصوص حسب هذا الرؤيا في فلسفة النقد الثقافي.
وفي ظل هذه الرؤيا هل يمكننا من الاستعاضة عن النقد الأدبي بالنقد الثقافي ؟ وكي نجيب على هذا السؤال يجب أن نعرف أولا ما مرتكزات الرؤيا الجديدة فكريا و معرفيا التي تراوحت بين ( الأوربي / الأمريكي ) و ( العربي قديمه وحديثه ).
لنقف عند كتاب ( النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية)
بعد المقدمة المهمة التي وضعها الباحث في التمهيد لمفهومه النظري،وللأسباب التي دعته إلى انتقاد المنجز الأدبي وفق رؤياه البلاغية ( الجمالية )، كونها تخفي الكثير من العيوب ولا سبيل إلى الكشف عنها إلا من خلال قراءة السطور وما بين السطور، وذلك من خلال كشف الأنساق وتعرية الخطابات المؤسساتية ولا يتمّ هذا حسب الباحث إلا بوجود ( نظرية جديدة) وهذه النظرية سمّاها بـ ( النقد الثقافي).
حيث يبدأ في الفصل الثاني بعرض للنظرية والمنهج بالتمهيد مستشهدا ب (هايدجر) عن تفسيره كلمة ( حدّ) الإغريقية معللا هذا بأنّها لا تعني نهاية شيء بل بداية شيء أخر.
إذ ان هنالك حداثة وما بعد الحداثة وهنالك بنيوية وما بعد البنيوية وما يريد قوله الناقد: أنّ هنالك جمالي وما بعد الجمالي وهنالك بلاغي وما بعد البلاغي حتى يتسنى له الدخول في مفهومه (النقد الثقافي)، الذي ينظر إلى الأنساق الخطابية وليس إلى الجمالية في تقييم الأعمال الأدبية و الفنية.
فالنظرة القديمة أو التقليدية إلى الأدب قد انتهت بموت المؤلف عند (بارت) و موت الناقد عند (دونالد) و موت النقد الأدبي عند (الدكتور الغذّامي )، فلا بد من الاستعانة بالنقد الثقافي كآلية جديدة في عملية تقييم الأعمال الفنية والنصوص الأدبية من خلال متابعة أنساق الخطاب وكشف الإدراك اللاشعورية ورؤية المضمر الأيديولوجي وعلاقته بالذات المقنعة ( حسب تعبير أنتونو أيسثوب).
رغم أن الدراسات الثقافية قد بدأت مبكرا منذ عام 1964 على يد جماعة برمنجهام غير أنها بمرور الوقت تطورت إلى مفهوم النقد الثقافي خصوصا بعد سلسلة من تحولات ما بعد البنيوية كلها تنصب إلى نقد الخطاب، وفي محاولته للدخول إلى مفهومه النظري يمهّد الناقد إلى ذلك بأن فلسفة جماعة برمنجهام عندما حددت مصادرها الثلاث سلّمت بوضوح أنّ أحد مصادرها ( أدبية نقدية) . (3)
و قبل أن ندخل في مفهوم – أدبية النقد الثقافي – حسب مفهوم الناقد عبد الله الغذامي علينا أن نعرف السبب الذي يقف وراء دعوته هذه حيث يقول : (لقد أدى النقد الأدبي دورا مهما في الوقوف على جماليات النصوص، وفي تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي، ولكن النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي). (4).
حسب تشخيص الناقد إذ أن هنالك عيوبا نسقية غطا عليها النقد الأدبي، لذلك كان لابدّ من وسيلة ما للكشف عنها ومحاولة أصلاح هذه العيوب، لكن ما هو السبب الذي يقف وراء دعوة الناقد لإصلاح هذه العيوب يقول: ( و ظلت العيوب النسقية تتنامى متوسلة بالجمالي، الشعري و البلاغي ، حتى صارت نموذجا سلوكيا يتحكم فينا ذهنيا وعمليا). (5)
وعلى وفق رؤية الناقد فأنّ العيوب النسقية الموجودة في النصوصشعرية و بلاغية، هي السبب لدعوته الإصلاحية هذه مستشهدا بأشعار( أبو تمام و المتنبي و أدونيس و نزار قباني) (6). فإذا كان النقد الأدبي يظهر لنا جمالية النصوص وبلاغتها فأنّ النقد الثقافي يكشف لنا عيوبها النسقية والرجعية مستشهدا بدعوى أدونيس في الحداثة. فيقول: ( كل دعاوى أدونيس في الحداثة سيتضح لنا أنّها خطاب لفظي لا يؤدي إلا إلى مزيد من النسقية والرجعية) (7).
و هكذا يعلن الناقد رسميا موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي مكانه في محاضرته الشهيرة في 22/9/ 1997.. لكن ما هو الهدف أو الغاية التي يرمي إليها الناقد، وهل دعوته هذه هدفها تقويض النقد الأدبي و أحلال النقد الثقافي محله ؟
أنّ الناقد له تبرير أخر حيث يقول: ( ليس القصد هو إلغاء المنجز النقدي الأدبي وإنما الهدف هو في تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي الخالص وتبريره وتسويقه بغض النظر عن عيوبه النسقية إلى أداة في نقد الخطاب وكشف أنساقه، وهذا يقتضي أجراء تحويل في المنظومة المصطلحية) (8).
وعلى وفق ما طرحة الناقد فنحن أمام رؤيا نقدية عربية جديدة، وعندما أقول ــ رؤيا نقدية عربية جديدة ــ هذا لا يعني سبقا عالميا لكن يعني سبقا عربيا ، فلم تشهد الساحة الأدبية العربية دعوة إلى أحلال النقد الثقافي محل النقد الأدبي إلا من خلال الناقد عبد الله الغذامي ، وهذا يحسب له .
ولاسيما في كتابه هذا اقصد ــ النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية ــ أعطى شرحا مفصلا حول الجانب التنظيري أو ما أسماه رسميا بــ ( نظريتنا) (9) ، و يقصد نظرية النقد الثقافي وهو أول من نادَ بها وأسقطها على النصوص التي أختارها بعناية ودقة وليس بعفوية أو صدفة عربيا .
إذ يقسم الكتاب إلى سبعة فصول قسمّت إلى :
– الفصل الأول: أستعرض به الناقد الجهود النظرية التي تشكل الخلفية العلمية لنظريته.
– أما الفصل الثاني فتضمن: أجراء تحويل في المنظومة المصطلحية .
– ثم أفرد خمسة فصول على التطبيق العملي أو ما سمّاه بـ ( ألأجرائي ) .
و قبل أن ننهي العرض التنظيري للكتاب لا بد لنا من مدخل إلى الجانب التطبيقي، ولا يمكن أن يتم هذا إلا عبر بوابتين:
أولا- المشروع الذي وضعه (فنسيت ليتش) وسمّاه بـ النقد الثقافي ، الذي جعله رديفا لما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ووضعه في ثلاث خصائص له :
أ- عدم تأطر النقد الثقافي تحت أطار التصنيف المؤسساتي للنص الجمالي.
ب – الاستفادة من تحليل النصوص وخلفيتها التاريخية.
ج – تركيزه على أنظمة الخطاب و أنظمة الإفصاح النصوصي . (10)
ثانياً – التأريخانية الجديدة: فقد طور مصطلح التاريخانيةالجديدة عام 1982، أو الجماليات الثقافية، التي (تخلت عن عدد من المفهومات النقدية المركزية من مثل المحاكاة و الوهم و التخييل و فعل الترميز هذه المفهومات التي تعتمد تصورا يجعل العلاقة بين الأدب و التاريخ علاقة خليفة وأمامية) (11). و حسب الناقد أن هذه النظرة ( تعيد تقييم العلاقة فيما بين النصوص من جهة وما بين الأنظمة الدلالية من جهة أخرى) (12).
وهنا نأتي إلى نهاية عرض الجانب التنظيري والتقديم لهذا الكتاب المهم جدا جدا الذي رفد المكتبة الأدبية والنقدية والإبداعية العربية بمفاهيم في غاية الأهمية حول الرؤيا النقدية الجديدة و تشخيصه للعيوب النسقية التي تلبس بها النقد الأدبي العربي، التي ظلت ملازمة للشعر العربي القديم إلى عصر الحداثة وما بعد الحداثة العربية، التي جرّد بها أهم أعمدة هذه الحداثة إبداعا و تنظيرا وهو(أدونيس)، حيث كشف عن عيوب نسقية في خطابه الشعري والتنظيري والحداثوي وما جرّ هذا الخطاب الأدونيسي إبداعا وتنظيرا المحّمل و الملبس بالعيوب النسقية من عدوى على خطابات الحداثة والتجديد في الثقافة والأدب العربي، وكان لابد من محاولة لإيقاف هذه العدوى من الانتقال من جيل إلى أخر، فكان هذا الكتاب بمثابة الأداة أو الخلطة السحرية أو الوصفة الطبية التي يمكن استخدامها أو الرجوع إليها في وقف انتشار هذه العدوى إلى مفاصل الأدب العربي.
ولا يمكن لنا أن نحكم على نجاح أو فشل نظرية النقد الثقافي العربية التي نادَ بها الناقد عبد الله الغذامي حتى نحتكم إلى التطبيقات العملية التي مارسها، التي أسقط بها ما نظّره له في الفصلين الأول والثاني من كتابه (النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية) .
ليكن حكمنا دقيقا يجب ان ُنقيم التطبيق العملي أو الإجرائي الذي قام به الناقد على نماذج من النصوص الشعرية والنثرية وحسب مفهومه أو رؤياه في النقد الثقافي لكي يتسنى لنا الحكم حول نجاح أو فشل المشروع النقدي العربي الجديد، ولا نستطيع أن نعطي له السبق العالمي لأنّ النقد الثقافي انبثق من الدراسات الثقافية التي بدأت مبكرا منذ عام 1964 على يد جماعة برمنجهام ، لكننا نعطي الناقد السبق العربي في هذا المضمار لأنّه أوّل من نادَ به وطبّقه عمليا على نصوص شعرية و نثرية و بالتالي يمكن لنا أن نعطيه عصا السبق عربيا
كي نعرف ونتعرف على الآلية التي حددها الناقد في تحويل الفعل النقدي من الأدبي إلى الثقافي فقد حدد أربعة عمليات إجرائية :
1- نقلة في المصطلح النقدي ذاته.
2- نقله في المفهوم ( النسق).
3- نقلة في الوظيفة.
4- نقلة في التطبيق . ( 13)
و سوف أتخذ هذه العمليات الإجرائية الأربعة مدخلا عمليا للتطبيق :
التطبيق النظري الإجرائي على النصوص/ من الفصل الثالث إلى الفصل السابع
سأختار فقط نموذجين للتطبيق الإجرائي لإسقاط مفهوم النقد الثقافي تطبيقا واحدا من الشعر القديم الأخر من الشعر الحديث كي أعطي مقاربة للفكرة بالتطبيق العملي التي عمد إليهما الناقد .
يقول الشاعر جرير: (14)
أنا الدهر يُفنى الموت و الدهر خالد فجئني بمثل الدهر شيئا يطاوله
أعتمد الشاعر على (الأنا) في خطابه وهو جملة ثقافية، وحسب الناقد هي أنا نسقية مغروسة في ذهن جرير، فما الذي دعا جرير إلى اللجوء إلى ( الأنا ) في خطابه النسقي هذا؟ الإجابة في أكمال الحدث الثقافي حيث كان هنالك تحدّي من قبل خصمه الشاعرالفرزدق الذي بدأ هذا السجال . بقوله:
فأني أنا الموت الذي هو ذاهبُ بنفسك فأنظر كيف أنت محاوله
ولأنّ الفعل كان تحديا بين شاعرين على قدرة الردّ ثقافيا و شعريا ، جاءت نسقية الخطاب و حسب ما ذكر صاحب كتاب العمدة عن الحادثة : أنّ جريرا ذهب إلى الرمضاء يتمرغ بالتراب، وهو يقول: ( أنا أبو حزرة ) . (15). ويستحثّ نفسه ويستعين بتضخم أناه للردّ ، التي تشظت إلى اثنتين :
1- أنا أبو حزرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ واقعية حقيقية.
2- أنا الدهر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثقافية نسقية.
على وفق رؤية الناقد وضع جملة جرير في سياقها الثقافي، نلحظ الكيفية التي فكك بها الحدث وقطعه ومن ثمّ أوّله من واقعي كونه لقب حقيقي لجرير إلى أنا الدهر تمّ وضعها كمرادف في نسقية البيت مقابل نسقية بيت خصمه الفرزدق أنا الموت.. هذه الأنا التي تضخمت متحدية نفي الآخر.
– فماذا يعني مجرد الاستعانة بالضمير المنفصل ( أنا ) ؟
الحقيقة ليس فقط الأستعانة بالضمير أنا، ما يقرأه الناقد و إنما خطاب الشاعر ، فهو أولا يعتدّ بنفسه وثانيا تفخيم أناه و ثالثا التذكير بأنّه: ( أبو حزرة و هي كنِية جرير)، الشاعر المخضرم الذي صرع عشرات الشعراء ، كل هذا جاء من باب التعالي والتذكير بقدرته على الرد فهو من هو بين العرب و مكانته بين الشعراء.. وبالتالي أصبح خطاب الشاعرين بـ ( أنا) التفخيمية المتحدية المتعالية.
فأنا الفرزدق ـــــــــــ ( أنا الموت )
تقابلها أنا جريرــــــــــ ( أنا الدهر ) يفنى الموت … الخ.
هنا ينظر الناقد من زاوية النقد الثقافي أن خطاب الشاعرين خطابا نسقي مكرور في الشعر العربي لا جديد فيه، أي أن نظرة النقد الثقافي تختلف عن نظرة النقد الأدبي، تقيّم البيتين من حيث البلاغة و الفصاحة وجمالية الصورة والاستعارات والكنايات، لكن المسألة مختلفة تماما في النقد الثقافي من خلال تتبع نسقي الدلالة يقيّم البيتان بأنهما ليس فيهما أي جديد مطلقا فالاثنان يتفاخران ويتباهيان و يعظمان ذاتهما ويقدمان شاعرتهما على الآخر وهنا تبرز ( الأنا المتضخمة )، وهذه موضوعات مكررة ومطروقة مئات المرات قبلهما فلم يأتيان بجديد .. هذه هي الزاوية التي ينظر منها النقد الثقافي.
و في مثال آخر يتخار الناقد نصا من معلقة عمرو بن كلثوم و منها :
لنا الدنيا و ما أمسى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا
بغاة ظالمين و ما ظلمنا و لكنّا سنبدأ ضالمينا
ملأ البرّ حتى ضاق عنا وماء البحر نملؤه سفينا
أذا بلغ الرضيع لنا فطاناً يخرّ له الجبابرة ساجدينا
ونشرب أن وردنا الماء صفوا و يشرب غيرنا كدرا و طينا
ترانا بارزين وكلّ حيّ قد اتخذوا مخافتنا قرينا
و نحن الحاكمون إذا أطعنا و نحن العازمون إذاعصينا
وفق رؤية الناقد تعتبر هذه مكونات لعناصر النسق حيث تحوّل القبلي إلى ثقافي (16)، بمعنى أنّ المفهوم المتعارف عليه قبليا حسب العرف الجاهلي قد تحوّل إلى خطابي نسقي حسب رؤيا الناقد استنادا إلى مفهوم النقد الثقافي ، حتى يصل إلى الجملة الولود ـــ كما سمّها ــ و منها أنسلت أو توالدت بقية الجمل النسقية الأخرى :
ألاَ لاَ يجهلنَ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وبذات المفهوم الدلالي لتضخيم الذات (الأنا) يتمّ إقصاء أو إلغاء الآخر، كما حدث مع إقصاء لأعداء القبيلة (تغلب) بتضخيم المركزية النسقية التي تحتويها طاقة الفخر وتتبناها (الأنا المتضخمة) ، بذات الآلية النسقية تحوّل المفهوم الدلالي النسقي عند جرير من تضخم (الأنا) المركزية النسقية إلى إقصاء بل إلغاء الآخر متحديه (الفرزدق)، هنا تبرز رؤيا الخطاب الثقافي من خلال تتبع نسقية الدلالة وهذه هي اهمّميزات النقد الثقافي عندما يتمّ تطبيقها، تتعدد زوايا النظر إلى مركزية الخطاب.
ننتقل إلى تطبيق أجرائي آخر على الشعر
ـــــ ما هو مفهوم النسق أو النسقية حسب رؤيا الغذامي ؟
ما توصلتُ إليه أن مفهوم النسقية يعني : هي النتيجة المتوقعة كتحصيل حاصل من القول. لكن الناقد يأخذ منها الجانب السلبي الذي تم توظيفه في نسقية الخطاب، وأن تحوّلت إلى ثقافة سلبية حسب رأي الناقد مثلا: عندما يتحدث أبن المقفع عن الأوائل فيصفهم بالآتي : ( أنّ الأوائل أكبر أجساما و أرجح عقولا ) والنتيجة المتوقعة من نسق كلامه هي : أنّهم أقوياء و حكماء وهذا ما يسميه الغذامي بالضروية النسقية ( 17).
وذات الأمثال في أماكن أخرى من كتابه نستعرض بعضها : جاء وصف المتنبي في بعض كتب الأدب بأنّه ( كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهرا وعنوة) (18)، وواضح من نسق الكلام أنّ المتنبي –كشاعر- متمكن وواثق من نفسه و يستطيع أن يأخذ من الشعر ما يريده دون عناء. وفي بيت مشهور آخر- لم يذكره الدكتور الغذاميّ– يقول المتنبي:
أنا ملء جفوني عن شواردها و يسهر الخلق جرّاها و يختصم
وهو يصبّ بذات المعنى و ذات الخطاب النسقي فمن بيت المتنبي نفهم أن بقية الناس يسهرون ويتخصمون في مطاردة الشعر وصوره، بينما هو ينام قرير العين لأنّ الشعر طوع بنانه ولا يحتاج إلى أن يسهر كما يفعل الآخرون ولا يحتاج أن يختصم مع أحد وهذا قمة الاعتداد بالنفس والثقة بها، هذا يفهم من نسق خطابه أي خطاب المتنبي ، وما لم يقله الغذاميأن مفهوم النسقية في الخطاب هي النتيجة المستنبطة من القول أو تحصيل حاصل للقول أي ما يصفه الناقد بـ ( مركزية الذات و تعاليها المطلق و إلغاء الأخر والتعالي عليه) (19).
– و في بيت أخر للمتنبي حيث تصل به ( تضخم الأنا ) إلى درجة لم يسبقه بها أحد و لم يفكر مجرد تفكير بها أحد قبله ولا بعده إذ يقول في رثائه لجدته في ميميته المشهورة :
وأنّي لمن قومٍ كأنّ نفوسهم بها أنٌف أن تسكنَ اللحمَوالعظما
ففي هذا البيت حصرا رفعا المتنبي نفسه فوق البشر فوق الطريقة التي خلق الله بها الإنسان من لحم و عظم، إذ يقول الله في محكم التنزيل من سورة المؤمنين، قال تعالى: ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) آية 14.
لكن المتنبي يأنف أن ينتمي لهذا الخلق من اللحم و العظم ، إذ اننسقية خطاب المتنبي ليس فقط إقصاء للأخر بل إقصاء لآلية الخلق الإنساني بأكملها ، ومن خلال تتبع نسقية الخطاب منذ العصر الجاهلي إلى الأموي والعباسي إلى العصر الحديث نجد أن ذات الآلية النسقية في الخطاب المتبع عربيا سواء عند المتنبي أو أدونيسأو جرير والفرزدق ذات الخط وذات النسق .
فكيف يتسنى لنا قبول خطاب الحداثة عند أدونيس مثلا وهو يسير على منوال القديم ؟ لذلك يقول الناقد عبد الله الغذامي ( هذه المقولة أنشأت فصيلة بشرية متعالية عن الواقع والعقل والحق).
ـــــ و في مثال أخر نسبه القرطاجني في منهاج البلغاء إلى الخليل بن أحمد الفراهدي قول مأثور: ( الشعراء أمراء الكلام يصرّفونه أنى شاؤوا و يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، ويحتج بهم ولا يحتج عليهم، ويصورون الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل) (20).
وفي ضوء هذا التفسير الذي وضعته أنا ما هي النتيجة المتوقعة أو التحصيل الحاصل من قول الفراهيدي هذا ؟ أن الشعراء لهم مكانة في القول لا يدانهم بها أحد و يجارهم بها أحد و لهم القدرة على التحكم بمجريات الكلام وقلبه أو جرّ إلى المنطقة التي يردونها هم ، ــــ هذا التفسير حسب رأيي أناــــ
أما رأي الدكتور عبد الله الغذامي وهو ليس ببعيد عن رأيي فيقول : ( هذه المقولة أنشأت فصيلة بشرية متعالية عن الوقع و العقل و الحق) (21). ثم ينتقد هذا بأن هذا التعالي له أثار سلبية فيقول: ( وهذا أمر له أثره السلبي الخطير الذي لا يقف عند حدود الشعراء بل أن تحول مع الزمن إلى نسق ثقافي) (22). فالنتيجة التي اكتشفناها من الخطاب النسقي في كل الأمثلة التي استعرضناها هي المحصلة التي ستتحول في النهاية إلى خطاب ثقافي أو جزء من المفهوم العالم للذاكرة العربية خاصة في الجانب السلبي منه أي أعطاء مفاهيم السيادة و التعالي و التجبر والتميز المطلق والأنا المتعالية، وهذه وفق رؤية الناقد ذا مفاهيم خطابية سلبية قادت لها الأنساق في القول شعرا ونثرا.
هناك مثل آخر يورده الناقد فيما يخصّ أدونيس فيقول : عندما وضعت مؤسسة البابطين لوضع موسوعة الشعراء العرب ففاتحت أدونيس بهذا الأمر لكنّه أشترط عليهم أن يختار هو اللقب الذي يضعه في هذه الموسوعة الأمر الذي رفضته مؤسسة البابطين . وهذا يصب بذات المعنى من مفهوم الخطاب النسقي عندما نتحدث عن شخصية أدونيس من تضخم الأنا أو بــ ( مركزية الذات و تعاليها المطلق وإلغاء الأخر والتعالي عليه) (23). من جانب ومن جانب أخر وفق رؤية الدكتور الغذامي: (هذه المقولة أنشأت فصيلة بشرية متعالية عن الوقع و العقل و الحق) (24).
الخاتمة : من ( ص 286-295 ) حول مفهوم نسقية الخطاب عند أدونيس
يقول الناقد انّه أستخلص من النماذج الشعرية التي أفضت إليه مقولات ادونيس تحددت بالسمات التي رصدها الناقد بدقة وعمق حول تنظيره وإسقاطه على أشعاره فوجد آلاتي :
– مضاد للمنطقي والعقلي.
– مضاد للمعنى وتغيير في الشكل و يعتمد على اللفظ.
– نخبوي وغير شعبي.
– لا تاريخي.
فردي ومتعالي و مناوئ للأخر. –
– خلاصة كونية متعالية وذاتية.
– يعتمد على أحلال فحل محل فحل سلطة محل سلطة.
– سحري و الأنا فيه هي المركز.
و حسب رؤية الناقد هذه هي السمات الشعرية لشعرية أدونيس، وهي لا تضيف شيئا جديدا للثقافة العربية و يعلل الناقد ذلك بقوله ( أن الشعر منذ معرفة الإنسان به يقوم على هذه الأسس وهي أسس خالصة الشعرية وقد تشبعت الذات العربية بها منذ الأزل) (25) ، و بما أنّ أدونيس قد سلك ذات المسلك القديم في ( الأنا المتضخمة ) ( السيادة و التعالي و التجبر و التميز المطلق و الأنا المتعالية )، فهذا يعني أنّه لم يأت بجديد مطلقا فقد سار على ذات النسق الخطابي الذي سار عليه الأولون و لم يجدد شيء ولهذا يؤكد الناقد (و بما أنّ ما أطروحة أدونيس تدور حول هذا النموذج النسقي و تصدر عنه فأنها لا يمكن أن تكون أساسا للتحديث الفكري و الاجتماعي) (26) .
أخيرا..
عندما يكون الحديث عن أحد أهل الإحسان في النقدالأدبي، برؤيته المتقدمة التي قدمها طوال ثلاثعقود من عمره المديد، الذي أثرى المكتبة العربية بكتبأصبحت مرجعا لطلبة الأدب والنقد في كل أنحاءالوطن العربي ، فلا يحسن بنا أن نضع الدكتور عبدالله الغذامي وإنجازه المهم بمكانة مساوية مع غيرهممن امتهن النقد أو التنظير. بل يجب أن نضعه معرموز النقد العربي لأنّه صاحب مشروع وصاحب نظريةقدمت ورفدت الأدب العربي برؤية متقدمة في مفهومالنقد الثقافي، وعلينا أن نضعه مع أهل الإحسانالذين قدموا أفكارا متقدمة خدمت الأدب العربيلتميّزه عن غيره ممن أمتهن النقد حرفة أو موهبة، وكماتفتخر الأمة الفرنسية بأعلامها من النقاد والمنظرينأمثال (جاك دريدا ، رولان بارت)، فإننا كأمة عربيةومن حقنا أن نفاخر بأعلامنا من النقاد والمنظرينأمثال (أحمد أمين، ميخائيل نعيمة، الدكتور عبد اللهالغذامي).
الفهرست
(1): النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت .7،2000
(2) المصدر نفسه:8.
(3) المصدر نفسه:20
(4) المصدر نفسه:8.
(5) المصدر نفسه:9
(6) المصدر نفسه:9
(7) المصدر نفسه:9
(8) المصدر نفسه:9
(9) المصدر نفسه:10
(10) المصدر نفسه:32.
(11) المصدر نفسه:45
(12) المصدر نفسه:45
(13) المصدر نفسه:62.
(14) المصدر نفسه:119.
(15) المصدر نفسه:120
(16) المصدر نفسه:122.
(17) المصدر نفسه:133
(18) المصدر نفسه:131
(19) المصدر نفسه:129
(20) المصدر نفسه:130
(21) المصدر نفسه:130
(22) المصدر نفسه:130
(23) المصدر نفسه: 129
(24) المصدر نفسه:130
(25) المصدر نفسه:294
(26) المصدر نفسه:294