19 ديسمبر، 2024 12:20 ص

الغابون والمرأة الحديدية

الغابون والمرأة الحديدية

إنْ لم تخني الذاكرة كان لقب المرأة الحديديَّة قد أُطلق على رئيسة وزراء المملكة المتحدة ( 1979—1990م ) ماركريت تاجر والتي توفيت في العام 2013م واظنُّ أنَّ هذا اللقب اطلق عليها بسبب مواقفها الشديدة والمتصلبة مع الأرجنتين خلال صراعهما على جزر (الفوكلاند) وسأعود الى هذا اللقب لاحقا ليعرف القارئ الكريم سبب ذكري له 0

اعتماداً على آراء جاءت من قبل الذين يعرفون بواطن الأمور وظواهرها في الغابون كانت هناك عوامل سلبية كثيرة تراكمت عبر مسار السلطة السياسية والأدارية في حكم آل بونغو للغابون من العام 1967م الى اليوم الذي اطيح به وهو العام الحالي 2023م وهذا الحكم يكاد يكون او هو كذلك حكما وراثيا ، فعلي بونغو حكم الغابون خلفا لوالده عمر بونغو الذي حكم البلاد من العام 1967م حتى وفاته في العام 2009م

وكان علي بونغو هو وزوجته سيلفيا الفرنسية يعدَّان العدة لتنصيب ابنهما نور الدين خلفاَ له في حكم الغابون غير أنَّ الرياح جرت بما لا تشتهي  (السَّفَنُ – بفتح السين والفاء ) أي البحارة أو (السُّفُنُ—بضم السين والفاء) أي المراكب 0

وفي هذا السياق يمكن القول أنَّ اسباب انقلاب الغابون كثيرة ومن بين اهمها :-

*** تزوير الانتخابات (او انتخابات شكلية) :-

منذ صعوده للحكم في 2009، أدرك الغابونيون أنَّهم علقوا في شراء شبكة عائلية تتوارث السلطة وأنَّ الأنتخابات أفرغت من معناها الحقيقي في صناديق الأقترع حيث التلاعب بالنتيجة النهائية لصالح آل بونغو هي السمة الغالبة للنتائج لدرجة أنَّ الانتخابات أصبحت شكلية وبات المرّشَّحون من غير حزب بونغو واجهة لا معنى لها او شريك مملوك لا يملك لنفسه شيئاً 0

 إلاّ في اطار اضفاء مسحة من الديمقراطية على العملية الأنتخابية تصب في مجرى مصلحة علي بونغو في الأشارة الى أنَّ هناك تعددية وشراكة انتخابية وأنَّها جرت في اجواء شفافة ونزيهة وفي اطار قانوني صرف0

لذا تولدت شكوك داخلية وخارجية في نتائج الأنتخابات التي فاز بها الرئيس علي بونغو بفترة ثالثة ، ومن الشكوك الدولية ما جاء على لسان مسؤول السياسة الخارجية في الأتحاد الأوربي جوزيب بوريل من طليطلة الأسبانية على هامش اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي الـ27 الذي قال:- الأنقلابات العسكرية ليست الحل، لكن يجب ألاّ ننسى أنَّه في الغابون جرت انتخابات مليئة بالمخالفات0

وأضاف :- ( أنَّ تصويتا مزوَّراً يمكن اعتباره بمثابة انقلاب مؤسساتي مدني ) وفي كلام هذا المسؤول الأوربي تحريض واضح وصريح للجيش الغابوني على تنفيذ انقلاب عسكري ضد الحكومة 0  

*** مصادرة حصَّة المواطن الغابوني في خيرات بلاده –

تُقيَّمُ دولة الغابون وهي من دول أفريقيا الغنية، على أنَّها تعد خامس أكبر دولة منتجة للنفط في أفريقيا منذ اكتشاف النفط بها عام 1931م؛ لذا يلقبها البعض بعملاق النفط، كما تنتج القهوة والسكر والكاكاو، بالإضافة لتصدير الأخشاب كما أنها من الدول الغنية باليورانيوم والمنغنيز.

ونظرا لوفرة وكثرة الموارد الطبيعية على ارض الغابون يقال انه لا يوجد شيء ثمين فيها لم تصل إليه يد عائلة بونغو، وأنهم كانوا يستخدمون الغابون كأنَّها مزرعة خاصة بهم وليس دولة فيها الشعب وله حقوق 0

 وقد كان هذا من العوامل الأساس في تململ الشعب الغابوني ومناهضته تجاه آل بونغو فهم عائلة حاكمة كما تبين تنهب ثروات البلاد لصالحها وتترك الشعب يعيش بفقر وعوز 0

ومنه يتبدَّى ان الشعب الغابوني بمعظمه كان يتمنى زوال حكومة عائلة آل بونغو ولذلك أيَّدت هذه الغالبية العظمى من الشعب الغابوني الأنقلاب العسكري الأخير في29/8/2023م 0

فضلا عن أنَّ هناك عوامل  كانت في نظر المهتمين بالشؤون الأفريقية من العوامل الجذرية والمهمة والتي عجَّلت في ناهية حكم آل بونغو في الغابون والتي لم ترض عنهم حتى الأصدقاء الخارجيين لآل بونغو والداعمين لحكمهم وفي الصدارة منهم تأتي فرنسا 0

 وهي سوء الأوضاع العامة التي يشوبها الأضطراب الدائم  فيها دليل عن عدم رضا المجتمع الدولي عن حكومة علي بونغو فمع أنَّ الغابون تعد رابع دولة من ناحية الناتج المحلي العام بالنسبة للفرد في دول الساحل والصحراء،  وهي عضو في منظمة تصدير النفط (أوبك ) وفيها اضافة الى النفط ثروات طبيعية مثل الذهب والكوبالت والمنغنيز0

  .وقد أكد عليها البنك الدولي الذي يرى أنَّ ثلث سكان البلد يعتبرون فقراء. وفي العام الماضي، أصدرت محكمة فرنسية أحكاما ضد خمسة من أولاد بونغو بتهم إساءة استخدام أموال الدولة وجرائم مزعومة أخرى  0

وقد اتهمهم قادة الأنقلاب بالخيانة العظمى وفي المقدمة منهم نورالدين المرشح الرئاسي خلفاً لأبيه 0

*** سليفيا

في العام 2018 بعد إصابته بجلطة دماغية في السعودية  توارى بونغو حينها عشرة أشهر في الخارج خضع خلالها إلى علاج مكثّف0

وقال خبراء مختصون بالشؤون الأفريقية من أنَّ هذا كان من اهم العوامل التي أضعفت سلطته في غيابه 0

وبسبب هذه الحالة المرضية شكّك معارضوه مذاك في قدراته العقلية والبدنية على قيادة البلاد بمختلف انشطة الحكم العامة ، حتى أن البعض ادَّعى أنّ هناك شبيهٌ له اخذ مكانه في ادارة الحكم من خلف الكواليس ، ولم يكن له شبيه ولا نظير وإنما كانت امراة اسمها سليفيا0

وسليفيا:- هي زوجة الرئيس علي بونغو ويتكهَّن البعض من المهتمين بشأن الغابون أنَّ الجلطة التي اصابت علي بونغو هي السبب ببروز زوجته الفرنسية الأصل من خلف الكواليس لتقود البلاد وقد بسطت نفوذها على جميع مفاصل السلطة وكانت أوامرها ورغباتها تنفذ دون تأخير أو تلكؤ0

هذه المرأة التي فرضت نفسها كحاكمة للغابون، يطلق عليها الغابونيون لقب ( الملكة) ساخرين منها ومستهزئين بها لتدخلها السافر بشؤون الحكم أمَّا أنا فسوف اطلق عليها لقب المرأة الحديدية لأنها استطاعت انْ تفرض نفسها كإمرأة قوية وأنْ تثبِّتْ حضورها كحاكمة للبلاد بقبضة حديدية وعزيمة حديدية 0

وذلك استنادا الى ما يقوله عنها الغابونيون من أنَّها كانت امرأة ذات شخصية صعبة المراس، قويَّة الشكيمة لا تلين ، وكانت متكِّبرة لدرجة أنها لم تكن تتوانى عن إهانة الضباط وكبارالقادة بالدولة 0

قال احد المهتمين بشأن الغابون السياسي على مستوى الحاكمية والشعبي على مستوى الشارع :- ولئن يمكن للشعب أن يتغاضى عن تلك الشخصية التي لم تكن يوما محبوبة، لكن الجيش قد لا تروقه تصرفات خارجة عن النطاق صادرة عن سيدة لا صلاحيات لها غير صفتها البروتوكولية كسيدة أولى للبلاد.

لم يكن استياء الحرس الجمهوري على وجه الخصوص منها جديدا، خصوصا أن قادته كانوا الأكثر تعاملاً مع سيلفيا بحكم مهامهم بتأمين الرئيس ومقر إقامته، وحتى حراسها الشخصيين كانوا يشتكون بشكل مستمر ويتذمرون من استعلائها وإهانتها لهم على الملأ 0  

*** قول مأثور

 ومما يتعلق بطريقة حكم سيلفيا للغابون مستغلة مرضة زوجها التي اعاقته عن اداء مهامه في سياسة البلاد وادارة شؤون السلطة فيها من الأقول المأثورة والحِكَمِ الجوهرية الفريدة هي قول الأمام علي (عليه السلام) :- تذلُّ الأمورُ للمقادير حتى يكونُ الهلاكُ في التدبير )0

 ومعنى كلام الأمام باختصار أنَّ المقدَّر على الأنسان هو الذي يتحكم بمصيره وليست التدابير والأجراءات التي يلجأ إليها لحماية نفسه وامواله واسرته واحاطة نفسه بخطوط من الحماية مدججة بمختلف انواع الأسلحة واكثرها حداثة واجودها نوعية واكفأها اداءً0

وقد فعلها من قبلُ ادولف هتلر والرئيس العراقي صدام حسين والرئيس الليبي معمر القذافي وغيرهم فلم تغنِ عنهم شيئا من المصير المقدرعليهم وقد قال سبحانه :- ( وإذا جاء اجلُهُم لا يستقدمون ساعةً ولا يستأخرون ) 0

فكل مظاهرالقوة والتحصينات المعزَّزة تنهارامام قوة زلزال المقادير وتتلاشى وكأنَّها لم تكنْ ولا تغني صاحبها شيئا وتخلي الطريق بينه وبين المصير المحتوم عليه0

وربما هذه التدابير والأجراءات التي قام بها للتحرز بها هي التي تكون سبباً في فتح باب يلج إليه منه المقدَّرعليه من خلال ظاهرة اجتماعية على يد الناس او من خلال ظاهرة طبيعية لا قبل لتدابيره بصدها عنه رغم قوتها ومناعتها0

لقد ساهمت هذه المرأة مساهمة فاعلة في سقوط حكم زوجها لتبنيها سلوكاَ جعل القدر ياخذ طريقه في تحديد مسار الحكم ، وذلك بعد تعرض علي بونغو للسكتة الدماغية التي كادت أن تودي بحياته في العام 2018م كما ذكرنا ذلك اعلاه  0

انتهزت سيلفيا فرصة غياب زوجها واستبعدت 18 من أهمِّ أعمدة نظام الحكم ، كما أقصت أخا زوجها غير الشقيق فريديريك وأطاحت به من على رأس استخبارات الحرس الجمهوري ولم تكتف بذلك، بل أرسلته إلى “المنفى” كملحق عسكري في سفارة الغابون بجنوب أفريقيا0

 هذا الرجل الذي كان يشكلُّ سندا قويَّا لزوجها وكان حريصا بشدة على توفير الدعم لأخيه والوقوف الى جانبه بحزم ، وبمجرد وفاة والدهم عمر بونغو في عام 2009، وضع فريديريك بونغو، الأخ غير الشقيق لعلي بونغو، نفسه في خدمة الرئيس، وكان متفانيا في ذلك، وبذل قصارى جهده من أجل الحفاظ على العرش وجلوس اخيه عليه 0

غير أنَّ هذا الصنيع لم يرق لزوجة اخيه سليفيا الناكرة للجميل والمعروف والخيرالنساني ، لشكَّها فيه بأنَّه يتآمرعلى زوجها فأبعدته عن مكانه كما قلت اعلاه وقامت بتعيين قائد جديد للحرس الجمهوري، لكنَّها لم تكن لتتخيل أو لتتوقع أنَّ القائد الجديد هو نفسه من تخبئه المقادير لها لكي ينهي حكمها وهو الجنرال بريس كلوتير أوليغي نغويما 0

ومن يومها برأي محللين ومتابعين لشؤون الغابون :- أنَّه قد تحول الحرس الجمهوري إلى قنبلة موقوتة مدفونة تحت القصر الرئاسي تنتظر ساعة الصفر للانفجار وهو ما حدث بالفعل مؤخرًّا تحت قيادة الجنرال بريس كولتير اوليغي نغويما 0

الذي وضعت سليفيا ثقتها به واولته صيانة الأمانة الخاصة بحكم زوجها للبلاد انقلب عليهم هي وزوجها وحكومتهما وقاد انقلابا ضدهم ، وأعلن نفسه رئيسا للبلاد0

وهنا لا بد من الأشارة الى عامل آخر وهو العامل العائلي والعرقي الذي تدخل مع العوامل الأخرى كواحد من اسباب الأنقلاب في الغابون وفق ما جاء في تحليل  لمسارهذا الأنقلاب على راي :- الخبير الموريتاني المختص في الشؤون الأفريقية، محفوظ ولد السالك، رصد في حديث خاص لـ”العين الإخبارية”، العامل العائلي والعرقي كمحفز في حدوث انقلاب الغابون،0

ويقول ولد السالك ، إن انقلاب الغابون يدخل في جانب كبير ضمن “الانقلاب العائلي”، إذ أن والدة قائد ومنفذ الانقلاب الجنرال بريس أوليغي نغويما، تعد ابنة عم الرئيس علي بونغو أونديما، الذي جرت الإطاحة به 0

وهذا هو من المجسدات واقعا من الأحداث التي ينطبق عليها قول الأمام علي عليه السلام :- (تذلُّ الأمور للمقادير حتى يكون الهلاك في التدبير )0