18 ديسمبر، 2024 9:52 م

تُعد الأبحاث والدراسات التاريخية التي تتناول سيّر الأشخاص والإعلام من الدراسات التي يمكن أن نطلق عليها بانها من (السهل الممتنع) وذلك لوضوح الموضوع ووحدته ومحدوديته، وهذا ما يجعل الباحث يركز جهوده على الزمان والمكان المحددين وهما فترة حياة الشخصية المبحوثة من ولادته وحتى وفاته والمكان الذي يعيش فيه . وهذا الجانب السهل في الموضوع .. أما الصعب فأن هنالك بعض الشخصيات المتميزة رغم أهميتها لم تتناولها المصادر التاريخية بالشكل الذي يتوازن مع الاهمية والمنجز الذي قدمته تلك الشخصيات. وذلك لأسباب عدة أهمها السياسية.. أو الطائفية.. فكتابة التاريخ خضعت إلى معايير سلبية شوهت كثيرا من الحقائق.. وها نحن اليوم نقف حيارى أمام كثير من تلكم الشخصيات المهمة التي قدمت الكثير لكن ما كتب عنها قليل جداً.. وهنا تكمن الصعوبات أمام الباحثين والدارسين.. هذا جانب من القضية، اما الجانب الآخر فأن دراسة هذه الشخصيات هي جزء من الواجب والعرفان لما قدموا في المجالات المختلفة، ولعل مهمة الدراسات التأريخية هي إنصاف هؤلاء.. فلولاها لبقيت تلك الشخصيات مغمورة لا يعرف عنها المعاصرون شيئاً، وهذا يسبب إنقطاعاً وإنفصالاً عن الماضي الذي يسعى علم التاريخ الى أن يقربه ويوصل بينه وبين الحاضر، وهنا تكمن أهمية التاريخ كونه علماً من العلوم النبيلة.. لأنه ينصف من لم ينصفه زمانه ويعيد إليه المكانة المرموقة التي يستحقها. فبعض الوزراء والكتاب والاداريين الكبار لم يذكرهم المؤرخون إلا نادراً بسبب مواقفهم السياسية، ومعتقداتهم الاثنية، وهذا ما يعقد عملية التقصي والبحث.. فكل ما كتب عن حياتهم شيء قليل ، ونزر يسير عن مهامهم وادوارهم، وهذا نجده غالبا مكرراً في كل المصادر والمراجع التي اتت على ذكرها، وهذا أيضاً ما يقع الباحثون فيه أثناء بحثهم. فلم تسعفهم المصادر ولا المراجع بما يسعون إليه.. وتكاد المراجع أن تكرر ما ذكرته السابقة لها.. ورغم السعي الحثيث للعثور على مادة جديدة لإغناء البحث، إلا أن الباحث يجد نفسه يدور في حلقة مفرغة حول نفس المعلومات التي ذكرتها المصادر الاولى عند بدء تدوين التاريخ العربي الاسلامي، كابن اسحاق في الطبقات الكبرى،وابي عبيدة في ايام العرب والفتوح، وسيرة ابن هشام، وطبقات ابن سعد ، وابي محنف، فضلا عن مؤلفات الرواد، كتاريخ الامم والملوك لإبن جرير الطبري ومروج الذهب للمسعودي، واليعقوبي في تأريخه، وأبي الفرج الاصفهاني في كتابه مقاتل الطالبيين وغيرها، حتى أن المتأخرين إعتمدوا على ما كُتب في تلك التواريخ وغيرها ولم يأتوا بجديد.. ومن أين يأتون بالجديد وقد عجز عنه المتقدمون. فالماوردي في أحكامه السلطانية ، وإبن الأثير في الكامل، والجهشياري في كتابه الوزراء والكتاب، وكذلك إبن خلدون في تأريخه ومقدمته، وحتى أصحاب كتب الوفيات كأبن خلكان في كتابه الاعيان، واليافعي في كتابه مرآة الجنان، أما الكتب الحديثة فلم تسعف احدا، لانها اعتمدت اساسا على المصادر والمراجع التي تحدثنا عنها.

واخيرا فان ما يميز علم التاريخ بين العلوم الاخرى انه يعمل لغيره لا لنفسه، وبنكران ذات، اي انه صاحب ايثار وتضحية، فهو يقدم الاخرين على نفسه، ويسعى لحفظ كل ما يتعلق بالشعوب والبلدان والامم، ويعطي كل ذي حق حقه، الا ان العبث بالتاريخ شوه كثيرا من حقائقه، فتعرض الى تزوير المزورين، وفساد الفاسدين، وخزعبلات الرواة والمحدثين، وكذب الكذابين، وكيد السلطات والطغات والمتأترخين. ورغم ذلك كله بقي التاريخ العِلم الذي يمكن ان نسميه نبيلا، لنبل نفسه وكرم اخلاقه، وعدم تدخله في سيّر الاولين والاخرين، بل نقلها كما حدثت في غابر الايام والسنين.