وأنا أمشي على قارِعَةِ الطريقْ، سَرحَ الخيالُ في رحابِ الفكرِ العَمِيقْ، مُعَلِلاً سِرَّ الزَمانِ فَما لهُ صَديقْ، حَاربَ شَواهِقَ الرِجَالِ عَمَالِيقْ، وسَالَمَ صَعالِيكَ الرِجَالِ وصار لهم وفيق. وكَمْ شريفٍ وعَفيفٍ أَمْسى بضِيقْ، وكَمْ دَعيّ بالأعالِي جَلاّه رَفِيقْ، ومِنَ الدُّنْيا أذاقَهُ طَعْمَ الرَحِيقْ. وأنا أقَلِبُ الأفكارَ بمرارَةِ الرِّيقْ، وإذا بسياراتٍ فُجأةً تُغلِقُ الطَريقْ.
قلتُ في نفسي: واللهِ ذا مِنَ الإرهابيينَ فَريقْ، سَيَقتُلُونَنِي أو يخطِفُوننِي فذا أمرٌ حَقِيقْ، ومِنَ الخَوفِ إرتَعَدَتْ ساقي إرتِعَادَ صَعِيقْ، وجَفَّ دَمِي و بقلبي شَبَّ حَرِيقْ، و مِنْ صَعْقَتي هَرَبْتُ كالمَجْنونِ لا أُفِيقْ. وإذا بواحِدٍ مِنْهُم يُنادِي: (مَكانَكَ لأمْرِنا لا تُعِيقْ، وإلاّ أصْبَحْتَ بدِمَاكَ غَرِيقْ).
قلتُ في نفسي: الآنَ حَصّحَصَ الحَقُّ وبَاتَ لَصِيقْ، الآن يَسْلِبونَنِي أو يَخْطِفونَني أو يَقْتِلونَني قَتْلةً لا تَليقْ.
فتَرَجَّلَ مِنْ سيارةٍ شخصٌ إليّ اتّجَهْ، يُمعِنُ الأنظارَ بِيْ بِشَرَهْ، تَسَمَّرْتُ في مَكانيْ والبالُ مِني انشَدَهْ، وأخَذْتُ أضْفي على حالي البَلَهْ. ولما دقّقْتُ بوجْهِهِ المَكشُوفْ، شَعَرْتُ أنّ شَكلَهُ عِنديْ مألوفْ. فنظرَ إليّ نظرةَ المَلهُوفْ، وقالَ: (أتذكُرُني يا مَنْ بالكِتاباتِ مَشْغُوفْ، فَعِندَكَ الخَبَرُ بالتَحليلِ مردوفْ، عاشقٌ للسِياسَةِ وعَنْ غَيرِها مَصْروفْ، أنْتَ ابنُ (سُنْـبَهْ) المُشاكِسُ المَنْتُوفْ).
قلتُ ياهذا: مِنْ أينَ تَعْرِفُ عَني السِرَّ و المَكشوفْ؟.
قَالَ: (سَيديْ ألا نَمِيزُ بَيْنَ الليفِ والصوفْ)؟.
فتذكرتُ أنّهُ كانَ عندي، في الجيش عَريفْ، خبيرٌ برفعِ التقاريرِ والتَزييفْ، كَتبَ عَنيْ للحزبِ الفَ تقريرٍ ويَنيفْ، يُجِيدُ الانْتِهازَ وبالتلوّنِ حَصِيفْ.
قلتُ: مَنْ ذا ….. العَريفُ عَبّاسْ؟.
قالَ: (نَعمّ يا بنَ سَيّدَ الناسْ، وجَدِّكَ الأكْـرَمِ، أنْتَ مَعي كالأنْفاسْ، لأنّكَ مُرهَفٌ صادِقُ الإحْسَاسْ. قلتُ أما زِلْتَ عَريفاً يا عَبّاسْ؟).
قالَ: (لا … فالعِراقُ الجَديدُ أعْطانِي فُرْصَةً لا تُقَاسْ، فأنا اليْومَ خَبيرٌ مِنَ السِيّاسْ، أُدِيرُ البِلادَ كَما يُدارُ التِربَاسْ، أوظّفُ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الناسْ، وأَسْتَعْفِي مَنْ أشَاءُ مِنَ الأحْلاسْ(1). أَرصِدَتي في عمانَ في السُويّدِ في مِدراسْ، عندي الشَرِكاتُ عندي العِماراتُ، عندي الذَهَبَ أكْداسْ).
قلتُ: ألا لعنةُ الله على الإفْلاسْ، حِذائي ثُقُوبُهُ شَبابيكُ دِراسْ (2)، والحصى يؤلمُ أقدامي حينَ يُداسْ.
قالَ: (اخرسْ؛ فأنتَ والفَقْرُ مَعْجونٌ جِناسْ . أنا … مَنْ يسيرُ خَلفي الآنَ عِشّرونَ مِنَ الحُراسْ، غيرُ الكاتِبينَ ومَنْ في المَكاتبِ جُلاّسْ، أركَبُ بالطائراتِ ولا ابنُ فِرنَاسْ، أجُوبُ عواصمَ البلدانِ مِنَ الصينِ إلى تكساس).
قلتُ: إذنْ قَامَتْ القَيامَةُ لا مَنَاصْ، فيَا عبّاسْ أيْنَ الطيّانَ مِنَ الدّبَاسْ ؟؟!!.
قالَ: (كذلكَ فَهو ظَرفٌ خاصْ).
قلتُ: كَيْفَ يا عبّاسْ؟، أخْبرني مِنَ الراسْ.
قالَ: (الأمرُ بَسِيطٌ يابنَ (سُنْـبَهْ) الطيّبينْ، إنّها صِدْفةُ المختلسينْ، خَطبْتُ في بغدادَ خِطبتِينْ، كانَتا في بَعْضِ المُحتشِدينْ. سَقَّطْتُ هذا وشَتَمْتُ ذاكَ، دُونَ عِلمٍ و يَقينْ، فصَفّقَ ليّ جَميعُ الحاضِرينْ، وحَمَلَتْني أكْتافُ المُتَظاهِرينْ، وجالوا بيَ الشَوارعَ هاتِفينْ: عَاشَ العِراقُ، ويَسقطُ كلّ المُستَعمرينْ، وأجلَسُوني أمامَ الصُحُفيينْ، تُصوِّرُني عَدساتُ المُراقبينْ. وأخَذْتُ أُجيبُ عَنْ أَسئِلَةِ المُستفْسِرينْ. عَنْ ذاتِ اليمينِ وذاتِ الشمالِ عِضينْ، فصفَّقَ لي جَميعُ الحاضِرينْ، وقالوا أنْتَ الزَعيمُ أنْتَ الأَمِينْ، أنْتَ للحُريةِ للديمُقراطيةِ رَاعٍ مُبينْ، أنْتَ بحُقوقِ الإنْسانِ عليمٌ فَطِينْ، وللفُقراءِ عِنْدَك إحترامٌ مَكينْ
قلتُ: إتّقِ اللهَ يا شَبيهَ جالوتْ، كُنتَ فـي الجَيـشِ تَعمَلُ بالحَانوتْ، وكُنتَ تَبِلُّ رِيقَكَ مِنْ أكلِ السُحوتْ، كُنْت َ مُشَعوِذاً كَعُبّادِ هاروتْ.
قالَ سَيدي: (دَعكَ مِنْ تاريخِ هَاروتَ ومَاروتْ، وانظُرْ إليّ اليـَومَ فـَأنا حُوتْ، بالدُولارِ أقبضُ راتبيْ، عدا المُخَصصاتِ فحِسابُها مَثْبوتْ، وبِحُزَمِ الدَنانِيرِ أُشْعِلُ سَكائِرَ (الجُرُوتْ)، وأَنْثُرُ الأموالَ بالملاهي وفي اليُخُوتْ، على غانِياتِ عَمّانَ … و دِمَشْقَ و بَيّروتْ، أَنا لا أُبالي بِمَنْ يَعيشُ و بمَنْ يَمُوتْ).
قلتُ: يا عبّاسَ وكَيّفَ أصبَحْتَ مِنَ القادهْ؟.
قالَ: (الأمرُ سَهلٌ لا يحتاجُ إلى شَهادَهْ، بَدلةٌ زَرقاءُ وقَميصٌ، وبالعُنْقِ رِباطٌ كالقِلادهْ، وصُراخٌ في الفَضائِياتِ أنَّ للشعبِ إرادهْ، أنّ للعراقِ سِيادهْ، أنَّ للفقراءِ حُقوقاً مُسْتبادهْ. أخَالفُ جَميعَ الآراءِ وبعضُ الزِيادهْ، إفعل ذا وسَتَكونُ بينَ الناسِ مِنْ أصحابِ السَعادهْ. (فخالفْ تُعرفْ) قولٌ مشهورُ الإشادهْ، فلا عِلمٌ ولا ثَقافَهْ، ولا إتّزانُ سَادهْ. بِكَلِماتِ الزَيّفِ بالرِصَاصِ بالمَالِ يُصْنَعُ القَادَهْ).
ثُمَّ قالَ: (هيا مَعَنا اعْمَلْ بالصَحافَهْ، بَعْدَ شُهورٍ سَتُصْبِحُ أحوالُكَ خُرافَـهْ.
قُلتُ: شُكراً لهذهِ الظَرافَهْ، لا أُريدُ أنْ أكُونَ جُزْءاً مِنْ سَخافهْ، لا أريدُ أنْ أكُونَ مَهزلةً ولا دُعابَهْ، فالحَلالُ أعطانِي شَرَفَهُ وعَفَافَهْ ، والحَرامُ أعطاكُم ذُلَّهُ و نُكافَهْ(4).
**********
لمّا سَمعتُ ذاكَ الكَلامْ، جَلَسْتُ على قارِعَةِ الطَريقِ باحْتِشَامْ. وأخَذتُ مِنْ تُرابِ الوَطنْ قَبْضَةً بالتَمامْ، قَذَفْتُها على رأسي قَذْفَ السِهامْ، ولطَمْتُ وجهي أشَدَّ اللِطامْ، وشَقَقْتُ ثَوبي مَعَ الأكْمَامْ، وسَالَتْ دموعي فغدتْ رُكامْ.
وقلتُ: ضاعَ حقي، أكلوهُ اللئامْ، ألا إنصافٌ ألا مروءةٌ ألا ذِمامْ؟. هلّ سيرفلونَ بالسعادةِ قيامْ؟. ونحنُ لنا الجوعُ و الموتُ الزُئامْ؟. أيَحسَبُ المفسدونَ هذا دوامْ؟.
كلا فعِنْدَنا ربٌّ يُحامي بالتمامْ، وهل الدخولُ كالخروجِ مِنَ الحَمّامْ؟. فلتبكيكَ البواكي يابنَ (سُنْـبَهْ) المقدامْ، كما كنتَ عاثِرَ الحظ عِندَ (صَدّامْ)، كذاك عاثِرَ الحظ عندَ (هُمَامْ)، فاقرأ على نَفْسِكَ الفَ سلامْ، فحظُكَ لا كحظِ عبّاسَ ولا دَحّـامْ.
********
وإذا بحَبيبَتي (سُهَيـّرَةَ) تراءَتْ داخلَ نفسي، قالتْ: لو كنتَ تَعشقُ الكرسيّ، لوضَعتَ ضميرَكَ في رمسِ(5)، ومَحوتَ حُبَّ العراقِ قبلَ أمسِ.
قُلتُ: (سُهَـيّرةَ) ضَاقَ صَدري، وعِيلَ صبري، واسْوّدَ يومُ عُرسِي، ومِنْ كُثرِ الصـياحِ بُـحَّ حِـسّي.
قالتْ (سُهَـيّرَةُ): لا تثريبَ عليكَ، إنَّ الامورَ أفضلُ بينَ يديكْ، فحنانيكَ اليومَ و سعديكْ، فلا حقٌّ لأحدٍ بهِ يرديكْ، ولا أحدُ الناسِ هضمتَهُ فيُقليكْ، وأنْتَ لم تغشَّ الناسْ، ولمْ تَصنعْ مثلَ عبّاسْ، وبقيتَ وفياً للمبادئ وذا ليسَ إفلاسْ. إنّما الإفلاسُ مَنْ لا يراعي ذمَّةً ولا إحساسْ.
ثمَّ أردَفتْ … والرحيقُ مِنَ مَبْسَمِها يُذاقْ، وعِطرُ شَذاها مِنَ الأنفاسِ يُسْتراقْ، إنهضْ يابنَ (سُنْـبَهْ) وأنظرْ بوجهي كلَّ العِراقْ. سيبقى لنا وطنْ، رَغمَ أهلِ الفِتَنْ، رَغمَ أهلِ النِفاقْ، وسنعَمِّرُ ما دَمّرَ الفُسّاقْ، ونَمْحو آثارَ الظلامِ مِنَ الآفاقْ.
بالحُبِ وبالوئامِ، بالكَلامِ المُستذاقْ، بالعِلمِ بالفَنِ بثقافةِ الأعراقْ، وهُمْ سيَصبحونَ هملاً لا يُطاقْ، وسَتَلعنُهُمْ أجيالنُا والتاريخُ في السياقْ، سنَصْمِدُ وإنّ التفتّ الساقُ بالساقْ.
********
قلتُ نَعمْ (سُهيّرَةَ): فسَنا وجهُكِ مِنْ نُورِ الحَضاراتْ، ورضابُـكِ مِنْ حُلوِ دِجلَةَ والفُراتْ، وورْدُ العراقِ صارَ فيكِ وجناتْ، وقَدُّكِ المَمْشوقِ كباسقاتِ النخيلاتْ، وبريقُ عيّنَيكِ مِنْ سِحرِ الجِبالِ، ومِنْ صَفاءِ الفلواتْ. أخَذْتِ جمالَكِ مِنَ العربِ والكردِ والتركمانِ وباقي الأقليّاتْ، فكلُ أجزاءِ بلادي، تجسّدَتْ فيكِ سماتْ، فأنْتِ العراقْ، والعراقُ عشقي في الحياةِ والمَماتْ.
___________________________
(1)(الرجل الشجاع). (2)(مُداسة او قديمة). (3)( داء يأخذ الابل في حلوقها فيقتلها قتلا ذريعا). (5)(قبر).
[email protected]