23 ديسمبر، 2024 5:35 ص

العين تتذكر ..ترصد ..تجف ../ الروائي اللبناني حسن داوود..

العين تتذكر ..ترصد ..تجف ../ الروائي اللبناني حسن داوود..

من بناية (بناية ماتيلدا ) إلى ..(غناء البطريق ) ..
رواية (غناء البطريق ) تعيدنى إلى الرواية الأولى للمؤلف حسن داوود (بناية ماتيلدا) .ط1/ 1983 بين الروايتين مسافة زمنية بسعة ثلث قرن ..الروايتان مهمومتان بالمتغير العمراني ، تنتقل شخصوص الروايتين من بيوت الإلفة ، إلى الشقق الموصدة .المختلف روائيا.. في (غناء البطريق ) يلتقط المؤلف عينة إجتماعية صغرى تتكون من زوجين وولدهما المعاق والعمارة لاتسكنها سوى عائلة أخرى تتكون من أم وأبنتها في الطابق الثاني ، في روايته الأولى (بناية ماتيلدا) هناك عائلة أرمنية وأخرى روسية وعائلة نبيهة الشيباني وآل جادجيان وبيت الكيلاني ..والأتصالية المجتمعية الوحيدة بين سكان العمارة هو التموضع العمودي والإتصال السالب بين الجميع هو الإكتفاء / الإنكفاء الذاتي وهناك شقة ماتيلدا المرأة التي هي بعنوانين عنوان العمارة / الرواية ، وهي امرأة منفتحة على مجموعة رجال تلعب معهم القمار ،وتنتهي نهاية مأساوية في شقتها ، كما أن قصر يدي الولد/ البطريق ..تعيدني إلى أحد سكان العمارة ، أعني سليمان بائع الحليب ، المتصف بسماجة سلوكية والذي (لايزرر بنطلونه إلاّ على الشرفة ….وبجهد حتى تتمكن يداه القصيرتان من بلوغ الزنار ..)…المتغير العمراني ، لم يشل الجهد المهني لبراهم زوج لورا في رواية (بناية ماتيلدا) كما سيشل جهد الوالد في (غناء البطريق)..الذي لايتذكر سوى دكانه الذي أمحى أسوة بالمحلات والبيوت في المنطقة، ويحاول ببصر حسير ، أن يومىء إلى مكانه وهو في الطابق الأخير من بناية على مبعدة من الحي والسوق وبشهادة ولده..(أين صاروا ؟ يسألني لكي أصف له ما أراه من شغلهم هناك …وفيما أنا أصف له ،هو يرسم خططا لمايجب أن يفعلوه في شغلهم../ 59) والوالد لايطيق (الدكاكين الصغيرة التي أقامها أصحابها في مداخل الأبنية أو تراجعت عن الطريق .كما أنه، وهو في جولاته الأخيرة بينها ، صار يراها كما لو أنها، مع البيوت التي حولها وفوقها ،ملأت الفراغ كله ولم تترك لأحد مساحة صغيرة خالية ../ 66)…لكن كل ماجرى من
بعد كل هذا التهديم فأن رجال الحكومة (برغم انقضاء كل هذه السنوات ،التي بلغت ثلاث عشرة حتى الآن، لم يفعلوا شيئا للمدينة القديمة التي أخرجوا أهلها منها .لم يرفعوا مبنى واحدا في أي ّ من أنحائها ولم يشقوا طريقاً …وبدأوا العمل بما سيكون مرئيا ظاهراً.أقصد الطرق التي إن شُقت إحداها يُستدل منها على صورة على صورة المدينة كيف ستكون…/ 159) هكذا يشهر الفساد الإداري العربي قوسه من الماء إلى الماء …(برغم انقضاء كل هذه السنوات لم يرفعوا شيئا أستطيع أن أشاهده من بيتنا لأقول لأبي : لقد بدأوا ، إنهم يبنون شيئا هناك في أوقات الصباح ../174)
(*)
ندخل الفضاء النصي من خلال عينيّ هذا الولد ،الذي من عوقه إنبجست ثريا الرواية (غناء البطريق )..(ماشيا …متقافزا معلياً صدري مثل واحد من طيور الشاطىء، التي تتقافز على أقدامها إذ يحول صِغر ُ أجنحتها بينها وبين الطيران ../41) ..وهذا الولد هو ضمير المتكلم المتسيّد على سيرورة السرد
(*)
من السطر الأول توجهنا عين السارد المشارك بالحدث ،وهي تنظر من أعلى المكان إلى أسفل المدينة ..(من بيتنا في الطابق الأخير بالبناية ذات الطوابق الثلاثة ، من شرفته وشبابيكه ، أستطيع أن أشاهد المدينة كلّها في الأسفل ../ص 5).. نلاحظ ان فاعلية التبئير غير مستقرة على حال واحدة ، بل تمتلك قوسا واسعا : شرفة البيت – شبابيكه و مركز الرؤية من الأعلى ضمن فضاء سكني ، ..واللحظة المبأرة مبتورة أحيانا..(الأزدحام الذي نستطيع، من بنايتنا ، أن نشاهده أيضا ً ناظرين من شبابيك غرفة المنامة ، لكن من دون أن تصلنا جلبته وأصواته ..).. يعود السارد لتأكيد أمتيازه المبأر: (وحدها بنايتنا إذن، بطوابقها الثلاثة ، ترتفع على الهضبة مثل برج سمين . من شبّاك المطبخ وشبّاك إحدى غرف المنامة كما من شرفة الصالون الواسعة ، أستطيع أن أرى المدينة كلّها ، مجموعة كأنها في سهل مطوّق ../6)..ثمة رؤية داخلية عكس ذلك تماما وهي رؤية ذاتية من العين إلى صاحبها عبر تراسل مرآوي ..(المرآة القديمة التي حُملت لي من بيتنا القديم ، لماذا لايعلقونها إلاّ هكذا عالية مرتفعة .في الغرفة هناك ، كنت أبتعد عنها متراجعا إلى الخلف لكي أستطيع أن أرى وجهي فيها . لا لوقت طويل فقد كان يكفيني، وأنا واقف في ذلك البعد، أن أعيّن مفرقي بالمشط ثم أخطه به مزيحاً الشعر من طريقه ../28)..عبر الذاكرة التذكارية للسارد ، تنتقل فاعلية التبئير ضمن مخطط الصورة
، إلى رؤية أفقية ضمن فضاء إقتصادي عام ، والإنتقالة تكون بإيماءة من إصبع الأب وهما في شقتهما العالية (مع إصبعه المصوّب إلى هدفه ،يقول لي : أنظر أليس
هذا محلنا أنت تعرفه…/ 6) ..هناك رؤية أفقية مبأرة من واجهة محل الأب ..(كان أبي يجلسني على كرسيّه في المساحة الخالية الضيّقة، وجهي إلى الطريق ووراء ظهري الشوالات المفتوحة المطوية..كان يتصور أنني أتسلى بالنظر إلى الماشين متمهلين على الطريق الضيقة ..، وأنا أرى أنهم كانوا يتسلّون بي، كما لايظن أبي، إذا يجعلون، هم أيضا، ينظرون إلى داخل المحل فيجدونني مواجها بابه ..) هناك تتقاطع رؤية الأب / الأبن ، فالأب يتصور أن الواحد / الإبن سيتسلى برؤية الكثرة المارة في السوق . في حين يرى الأبن عكس ذلك ،سيكون هو الواحد محض تسلية عابرة لتلك الكثرة..
(*)
تستعيد / تستعين عين السارد بذاكرتها لحيز محل الأب ..(في أوقات قعودي فيه ،على الكرسي بين الأكياس ،كنت أتطلّع في ما حولي وأفكّر في ما يمكن أن يظن واحد غيري، في عمري لكن صحيح الجسم ،بالجلوس هناك على الكرسي فأجد أن لاشيء يعجب في ما أنا فيه ، لا أبي ولا الشوالات المفتوحة في أعلاها ولا الأرضية التي امتزج الوسخ بلونها ثم غطاها بطبقة سميكة أظل أتخيل ، وأنا قاعد ، أنني أزيلها بالأسياخ /8)…حيز الرزق الوحيد للأب حين ، تحاول العين وهي تستعيذه بالتذكر ، تحتاج من يعينها عائليا على ذلك ، وبشهادة الإبن ..(إذ يصرّ ُ علينا بأن نرى محله من ذلك البعد، أن هناك من يشاركه في التذكر الذي لايُريحه قيامه به بمفرده…/9) وهو يطالب عين سواه أيضا ان تقتسم الرؤية نفسها :(يريدنا أنا وأمي ، أن نرى مايشير إليه إصبعه فهو يظن أن ما يمنعه من رؤية محله بصره الضعيف فقط …ثم يبدأ بتحريك إصبعه كأنما ليعيده إلى النقطة التي أضاعها قبل قليل ،، إنه هناك ، أنظر ، أنظر، أنت تستطيع أن ترى ../10)..عينٌ تمارس فعلا عاطلاً، مستعينة باليد التي تكتفي بإصبع تقسّم المدينة ..(يقسّم المدينة دوائر أو قطعا ليصل في آخر ذلك إلى محله الذي لايمكن لأحد أن يراه إلاّ إن وقف أمام بابه / 11)!! وبشهادة الأم ..(لايعرف أين يريدنا أن ننظر ) وعين الأب تحرس البيت من الداخل ، وتحدد قوس الرؤية إلى الخارج وبشهادة الأم وهي تخاطب ولدها .. (حين يقوم من بيننا على الشرفة ليقفل الأبواب وشبابيكه /21) ..فتعلق الأم ساخرة
(أنظر لقد صرنا في آخر الليل ) نلاحظ ان الأم كان من الممكن أن تكتفي بالقول التالي ( صرنا في آخر الليل) لكنها خاطبت ولدها بمقياس العين (أنظر….)
(*)
عين الابن تتوسل النوم ، من خلال إنتاج / تكرار إنتاج تصاوير تنعش غفلة الذاكرة لتغطس في مياه النوم ..(منتظراً غفلة أخرى ربما تكون حقيقية فتضعني على طريق النوم وهذه حين تأتي، تكون سريعة وقليلة أيضا حيث أنتبه ، إلى أن التصاوير المائعة التي عبرت في رأسي قد أنقضت ، لكنني أعيدها، قبل أن تضمحل وتتلاشى ، وأنتظر أن تتولّد منها تصاوير أخرى. كما أنني ، إذ أعيدها، أثبتها نقطة في انتصاري على اليقظة ../ 26) ..
(*)
ونظرة السارد ، لها وحدة قياس مشتقة من مكين المكان ، فهو يصف العلاقة بين الفتاة والشاب بالطريقة التالية ..(نظرت إليه تلك النظرة التي رأيتها من بُعد سبعة تلاميذ بيننا أوثمانية .النظرة التي لم تنقض سريعا، والتي أوقفتها على مهل بإطباق جفنيها ../40)..ثم يقوم السارد بفتح إنطباق شفرة الجفنين ..(هكذا كما لو أنها قوبلت بصد فقررت أن ترد في وقت يجيء ، بصد مثله ..) ثم يعود لقياس الزمن بالوحدة القياسية ذاتها..(هناك ،أمام باب صفّها، ربما تعدى وقت إغماض عينيها مرور تلميذين أو ثلاثة ..) يقوم بعدها بتقشير صمت الفتاة ..(وهي في صمتها ذاك، كأنها ابتعدت عما يكون عليه التلاميذ عادة ، انفصلت عنهم، أو أنها ارتفعت عن أعمارهم فبدت كما لو أنها أدخلت إلى المدرسة شيئا يجري بين الكبار في خارجها ../40) ثم يستعيد السارد نظرة الفتاة ، ليستعيد من خلال عينيها : وقتهما (هي / هو) (النظرة التي تلقت بها صدّا وقرّرت أن ترد بصد مثله .في الوقت الفاصل بين انتهاء الرحلة ووقوفها ذاك أمام باب صفها ) وبهذا التوقيت يبدأ الظن : (لابدّ أن أشياء كثيرة حدثت بينهما حيث لم يبدوا، من تلك النظرة ذاتها ، أنهما يكملان ماكانا قد بدآه في النزهة . لقد سبق لهما أن أكملاه ، في ذلك الوقت القليل ثم ارتدّا عنه بعد ذلك ، أو أرتد ّ عنه أحدهما ،ثم عاوده من جديد ليكملاه مرة أخرى أشياء كثيرة حدثت بينهما ../41)..
(*)
العين القارئة : أجنحة السارد إلى زمن آفل ، إلى مجاورة حيادية لأشباح الماضي (أن ماحبسني مع كتبي هو أخذها لي إلى زمنها القديم، ذلك الذي أستطيع أن أقرأه وأعرفه ،بل أبدو لنفسي كأنني أعيش إلى جوار أهله ، هكذا من دون أن يجري لي شيء من أحداثه ../48) لكن هذه الحيادية مع الماضي ، تتراسل مرآوياً مع حياديته الراهنة وتنوب العين عن إذن القارىء أي نكون مع عين تقرأ وتسمع ..(أكون في حالة المستمع حين أرى أن ما أقرأه كلام وإنيّ في حال المتفرّج المشاهد إن كان وقائع جارية بين البشر القديمين ../ 48) ..وفعل العين في تحريك سكونية السرد وتصعيده إلى الذاكرة ، تجترح إتصالية ً بين المقروء والمعيش وهي اتصالية مؤطرة بالحيادية نفسها ..(أكون مستمعاً أو مشاهدا مثلما كنت في المدرسة أو الرحلة ،واقفاً أو قاعدا ً لكن بين ما أشاهد وبيني مسافة خيالية ، مسافة إضافية أتركها للأحتياط ، إذ ربما أفاضوا في مشهدهم وتوسعوا.مسافة خالية أبقيها بينهم وبيني وهذا لكي لاتصطدم ذراع أحدهم بي ..) نرى ان السارد موجود في الوجود بالتحاشي ، يتحاشى ضرر الآخر ، ومن خلال سلبية التحاشي ، يعطل فاعلية العين لديهم..(لأبقى بعيداً عن سرورهم الذي لاأحتمل قوّته أو لأتدبر أمري في الاختفاء من أمامهم إن تبيّن لي أنه أجدى لي ألا أُ ُرى ../49) ..
(*)
لعينيّ السارد : وحدة قياس خاصة في معرفة إستقواء الضعف في عيني ّ الأب ..
(من عيني أبي ،حين أنظر إليهما ، أقدر أن أعيّن درجة الضعف التي بلغها بصره .من الغلالة التي تنتشر على حدقتيهما ،والتي كانت في بدايتهما أشبه بغلاف رقيق من النايلون الشفاف النظيف ..كنت أخمّن أنه يرى الأشياء كما لو أنها مغطاة بحاجز مائي غير سميك ../ 58) ..ثم سيرّكز على إيماءة يد الأب .. ( بعد وقت من انتقالنا إلى بيتنا هذا صار أبي يوّسع الدائرة التي يقول إن فيها محلّه ثم يسقط إصبعه إلى ما يقدّر أنه وسط الدائرة ،،هل هو هناك محلّنا ؟ ،، يقول سائلاً مستفهما وإن كان لايبدو عليه أن مكترث بما يقال له ../59)..وهناك وحدة قياس ثالثة ، خارج جسد
الأب المتهادم ..(أما كتلة الغبار الضخمة التي تطلع من بناية أسقطت فلا يراها إلاّ حين ترتفع إلى الأعلى وتظهر له مثل غيمة وسخة وسط لون السماء الأزرق ..)..
وفي ص90 من الرواية ثمة تركيز مفصلة لمؤثرية إنحسار البصر على حركية جسد الأب كله..
(*)
عين الأب ينضب ماؤها..كلما ما تبقى ..(في رأسه بؤرة حامية مستعرة ، صغيرة ، في حجم إصبع لكنها حمراء مشتعلة في وسط الرماد المنطفىء الذي يحيط بها../ 189).. وبهذا التوقيت يكتفي الأب بثلاث ملعقات من الطعام وسيأخذ الأب نفسه الكمية القليلة من الاوكسجين (لايحتاج جسمه إلى أكثر من ذلك …حتى إنني أراه يتنفس هواء قليلا أيضا للطعام القليل الذي يكتفي به عائدا ،من فور انتهائه منه ، إلى غفوته وإلى ذلك الشيء النشط الحامي الذي يؤلمه في غفوته ../ 191)
(*)
جماليات هذه الرواية غزيرة ، أدخرت مقالة أخرى تتناول آليات سردها ..منتظرا حصولي على بقية روايات المبدع المميز الروائي اللبناني حسن داوود ، لأفتح قوسا واسعاً لقراءتي المنتجة ..
*حسن داوود / غناء البطريق / دار الساقي / بيروت / ط3/ 2012