19 ديسمبر، 2024 1:48 ص

العين الإبداعية ميزان بكفته مترجم وفكرة , وبالأخرى قارئ وناقد !

العين الإبداعية ميزان بكفته مترجم وفكرة , وبالأخرى قارئ وناقد !

قبل البدء في عملية الترجمة ونقد العمل المُتَرجم هناك قواعد خاصة ينبغي تحريكها . القاعدة الأولى: ضرورة تمتع المترجم والناقد على حد سواء بالثقافة العامة والمهارة اللغوية سواء في لغة النص الأصلي ( source language )SL أو في لغة النص المنقول ( target language )TL التي هي بالتالي لغته الأم.
القاعدة الثانية: قراءة النص بعين ثاقبة وبشكل دقيق لاستيعاب مضمونه. القاعدة الثالثة: تحليل النص SL المقترح ترجمته أو نقده للكشف المبكر عن الأخطاء اللغوية بشكل عام, أي يتعين على المترجم وناقد العمل دراسة النص بدقة من ناحية اللغة وسياقاتها النحوية وانتظام المفردات collocation داخل النص.
القاعدة الرابعة : ضرورة توافق المترجم harmony والناقد مع الجمهور , إذ تتباين النصوص في نوع الجمهور الذي يخاطبه النص , فمن غير المعقول ترجمة نص طبي , مثلا , من قبل مترجم لم يمارس الترجمة في هذا المضمار سابقا, أو غير مختص بهذا العلم . وهذا ينطبق على ترجمة القرآن الكريم والعلوم والآداب الأخرى. هذه القواعد تدعم العمل وتكسبه الرصانة من ناحية الفكرة وتكسب ثقة القارئ في اعتماده كمرجع في دراسته.
البعض يتسرع فيعمد إلى ترجمة نص لا يقع ضمن اختصاصه, لا من الناحية العلمية ولا من الناحية الأدبية, ما ينجم عن ذلك نصا يثير الشكوك في كافة نواحيه وبالتالي يصبح فريسة للنقد اللاذع وسلاطة اللسان.
ففي الشعر , مثلا , يختار المترجم نصا لشاعر مثل ت.س اليوت T.S.Eliot أو عزرا باوند Ezra Pound لم يألف قراءة نصوص مشابهة لهما في لغته الأم لكي يتبيّن الأسماء والأماكن والعبارات والتراكيب اللغوية الإنكليزية وغير الإنكليزية التي يدخلها الشاعر في قصيدته في تعزيز ثيمتها theme التي يراها ضرورية بحكم تعدد ثقافته الأدبية فتكون النتيجة عندئذ بعيدة عن الدقة المطلوبة .
والأمر ينطبق على النثر كذلك , إذ يعتمد الناقد هنا على المترجِم في درجة فهمه للنص من ناحية العناصر المتمثلة بالأسلوب, الإحساس, العاطفة, الجمال ومزاج الشاعر طالما أن الشعر يكشف عن المشاعر الداخلية للشاعر innermost feelings ليشرع بعد ذلك بالنقد.
لذلك يتعين على المترجم أو الناقد أن يتمتع بالحس والذائقة الشعرية كخطوة أولى ولا ضير للمترجم أن يطلب لوحده العون من شاعر ليوضح له أفق الصورة الشعرية المطلوب ترجمتها.
ففي الشعر يختبأ المعنى العميق بعيدا عن بريق الكلمات الظاهر , إذ في ظاهر النص الشعري ضياء وفي باطنه ظلمة إن لم تكن متاهة. لذلك يتعين على المترجم أن يستخلص المعنى الظاهر وذلك بتفكيك النص بحسب خبرته اللغوية ومهارته في التحليل , ثم يستخلص المعنى الباطن بحسب مخيلته الشعرية المرتبطة بمهارته الفلسفية وتحليل العلامات semiotic وقراءة التجارب الشعرية السابقة للإطلاع على التراكيب اللغوية المشابهة للنص الذي يروم ترجمته للوصول إلى جنس التراكيب اللفظية لإيصال كنه المعنى core الذي يطرحه الشاعر ولو بدرجة نسبية من دون الإخلال بالنص.
وهكذا فإن عمل المترجم translator والناقد critic يرتبطان بمهارة إطلاعهما على نصوص عديدة في الشعر والفلسفة والفقه والتصّوف واللاهوت Theology. وللمترجم دور في ترويج الكتاب أو القصيدة أو النشرة العلمية التي يترجمها في الأسواق, بل أن القيمة الأدبية أو العلمية الجديدة التي يصنعها هي التي تجذب انتباه الجمهور الأدبي أو العلمي إلى اقتناء أعماله من السوق. وللناقد المعروف دور في الكشف عن تلك القيمة وتأييده على خلو العمل من الأخطاء.
البعض من المترجمين لا يولي اهتماما بما أورد ناه آنفا , فنراه يقحم نفسه بشكل متسرع في نص أدبي , مثلا , يحتاج إلى مهارة أدبية وخلفية ثقافية وقراءات في علم اللاهوت أحيانا قبل البدء بترجمته .
ففي كتاب مترجم وجدنا ترجمة Book of Job إلى ” كتاب العمل ” بدلا من ترجمته إلى “جزء أيوب” وهو الجزء المخصص للنبي أيوب في الإنجيل ( العهد القديم) وقد ذكر في هذا الجزء شخصيات مؤلفة من زوجة وأصدقاء النبي أيوب Job الثلاثة وأسم آخر هو ” إلاي هُو ” أو ” أَلا هُو ” Elihu وتعني ” الله ” باللغة العبرية, إلا أنه يترجمها كما قلنا إلى ” كتاب العمل ” وهذا أمر مرعب ومقلق ويزعزع ثقة القارئ به فلا يقرأ له بعد ذلك , بل ويفسد عمل دار النشر.
الأمثلة كثيرة لهذا النموذج من الترجمة , ففي الجانب العربي , يترجم بشكل خاطئ مقطعا من قصيدة ” امرأة عجوز ” ” an old womanللشاعرة الإنكليزية إديث ستويل Edith Sitwell كما يلي :
I, an old woman in The light of the sun
أنا امرأة مسنّة قلبها يشبه الشمس
الجدير بالذكر أن العلاقة بين المترجم والناقد للترجمة هي علاقة حميمية , أي تضامنية تكافلية , حيث يضمنان ويتكفلان النص من ناحية الدقة في تحويله إلى لغة TL بكافة نواحيه الفنية . فيبدأ ناقد الترجمة إستراتيجيته في النقد بالتركيز على مساوئ ومحاسن الترجمة على حد سواء, إذ في الترجمة توجد أساليب عديدة ينبغي معرفتها مع المترجم لتصنيف العمل المترجم أثناء الحكم عليه كنص بديل عن النص الأصلي بلغتة الأخرى .
في هذا الصدد يقول ت.س اليوت : We need an eye which can see the past in its place with its definite differences from the present, and yet so lively that it shall be as present to us as the present. This is the creative eye. نحتاج إلى عين تقدر, من الحاضر, أن ترى الماضي في مكانه مع اختلافاته المحددة , مفعما إلى الآن بالحياة ما يتعين أن يكون حاضرا لنا كما هو الحاضر . هذه هي العين الإبداعية.
في غمرة ما تقدم تقف الفكرة والقارئ على خط تماس واحد مع المترجم والناقد. فالقارئ والناقد في فهمهما للفكرة assimilation concept المنقولة من SL إلى TL يمثل دور المصادق approverعلى النص , إذ يتبنى القارئ والناقد هنا ما يعرضه النص حرفيا verbatim لأركان الفكرة التي يرغب في دراستها بعد أن يطابق السياق النحوي مع ما يعادله بلغته الأم بقراءات عديدة من ناحية , ومطابقة الفكرة مع ثقافته الأصلية ليستخلص الدروس منها والعِبَرْ ليضيفها إليها من ناحية أخرى .
أما الفكرة فيخضع فهمها للمترجم أولا من خلال فهمه للسياقات النحوية والمعنى الدلالي denotative meaning والمعنى الضمني connotation المستخدمة بالنص المترابط في وحدة موضوع واحدة واللذان يحتملان التأويل المتعدد, وهنا تكمن كفاءة المترجم بحسب تجاربه السابقة في القراءة والتأويل لترجمة النص بشكل صحيح من عدمه إذ هذان العاملان يشكلان حجر الزاوية له .
إذن فقراءة أي نص لعدة مرات وتأويله بكل ما يحيط به من دلالات من قبل المترجم بالاعتماد على تجاربه السابقة وتحويله إلى لغة أخرى , ثم يأتي دور الناقد ليضع النص المترجم في ميزانه ليؤيد ما ذهب إليه المترجم ثم يأتي دور القارئ الذي يمثل المتلقي ليقرأه بلغته الأم من دون أخطاء فوضى التأويل الاعتباطي يعتبر بحد ذاته ترويج لثقافة الآخر ودعم لثقافة القارئ (= المتلقي) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات