23 ديسمبر، 2024 10:21 ص

العيد وزيارة القبور

العيد وزيارة القبور

ثمة غرابة تنبعث من سلوكنا الاجتماعي في العيد, فنحن عند دخول هذه الايام التي تسمى ايام “الفرح”, سرعان مانهرع الى “السيارات” للذهاب الى النجف . يتساءل الدكتور سلمان كيوش, في احدى مقالاته, عن ارتباط العيد بالموتى, فيقول : <كيف تسللت الى ثقافتنا, القناعة المفضية الى ان العيد الكبير هو للموتى ؟ >. دار هذا السؤال في ذهني وانا اسير في النجف, فعادتي أن اذهب بالاعياد الى مقبرة وادي السلام, لالقاء تحية العيد على اهلي واحبتي الراقدين تحت الثرى, ولا اعرف ماهو تبرير هذا السلوك, الا انه موروث اجتماعي راسخ في اذهاننا منذ القدم, ادخل في العيد واجوب في المقبرة باحثاً بين ثناياها عن الرجال والنساء الذين ينحبون على موتاهم, فسرعان ما اذكر موتاي فتنسكب الدمعة في سرعة البرق, لاشتراك الحزن بين العراقيين واختلافهم في الاشياء الكثيرة!. مقبرة وادي السلام تلك التي تشعرك بالرهبة والخوف الشديد لضمها آلاف العراقيين, منذ قرون قديمة, والعراقيين لاتصلح لهم مقبرة الا وادي السلام الكبيرة! لكثرة القتل فيهم, وغياب الاستقرار, واشاعة الفوضى دوماً . وانتَ تسير في الجبّانة, سيما في العيد ترى الزوار تتوافد من كل انحاء العراق, وخصوصا من أبناء المناطق المنكوبة التي انهكتها القوى الظلامية, فتفصح لك هذه القضية عن عمق الحزن العراقي وتجذره في نفوسهم التي لم يستقر الفرح بها ولو لبرهة من الزمن, ولا اخفيك أخي القارئ, انني كلما ذهبت الى هذا المكان المذهل, لايداعب مشاعري أي شيء بسهولة, بقدر ماتداعبه اصوات النساء الجنوبيات الكبار, ولا أخال هذه القضية خالية من مؤثرات فأنا ابنً لهذه الطبقة, واعرف التعبير عن الحزن عند ابنائها, الذي طالما يأتي من تراكم الفجائع المضنية التي قلما يتحملها انسان . مايميز المرأة الجنوبية في وادي السلام,  هو النواح والنعي, الذي “يكَعد” الموتى كما يعبر عنه البعض, فتأتي هذه المرأة بعصابتها السوداء التي تحمل هموم الدنيا بين طياتها, باحثة من بين القبور عن ابنها الذي لاتفارقه في كل عيد, على الرغم من التعب والنكد الذي يعارضها في الوصول اليه, فتصل اليه تسأله: لما تركها وحيدة وذهب؟! كنت اسير في هذا العيد وداهم اذني صوت شجي يعبر عن المكنون المرير في داخل هذه المرأة التي وقفت امام قبر ولدها مخاطبة : “يمه وداعتك بليل مكَدر , ومروا علي لباسة الورور, يمه وداعتكَـ بليل مانام , واسمع لملمة ومزامط عمام “. ثم تستهل : يمه منين اجيبنك ياعزيز , انا والفاركَاكَم دوم حزنانة.. فهذا الصوت الهادر من رحم المعاناة العراقية, التي تتجلى فيه حرقة الامومة, وسنين التعب التي كانت تروم لولدها اعلى مكانة اجتماعية محترمة , تجدها تتبدد وتذهب من امامها بسبب حماقة مسؤول او صراع سياسي هدفه السلطة والاموال, دفع ثمنه ابنها المسكين الذي يسعى لقوت يومه, وربما لايجده!. اعزو سبب ذهاب العراقيين لموتاتهم بكثرة, هو الطابع الفطري المتغلب عليهم, وكذلك طيبتهم التي تجعلهم لاينسون حتى موتاهم, وعندما يذهبون ترى النياح امام القبر وكأنه توفي قبل ساعة . وكذلك موت الشباب بعمر الورود بسبب هذه الفوضى العارمة التي تمر بالعراق, فالمقبرة “تغص وتبلع” باجسادنا فتراهم يذهبون امام اولادهم يبثون الحسرة ممتزجة بالدموع التي لاتنطفئ جراء مظلومية اولادهم الذين ذهبوا من دون رجعة . واعود الى دخولي في المقال هنا, وهو لماذا تغلب هذا الموروث الاجتماعي واصبح سلوكاً مقدس عندنا, فالذي لايذهب في العيد الى المقبرة يشعر بنقص, وكذلك اللوم الذي ياتي من قبل الاهل لانه لم يعايد موتاه: “ولك جا رحتلك ساعة ” . هل يكمن هذا السلوك في رغبتنا لتبديل الفرح باجواء الحزن ؟! اجد هذا السؤال مهم جداً, والاجابة عليه مهمة, لانك تجد احد الناس وتسأله: هل خرجت في العيد الى مكان للنزهة او ماشابه , يرد عليك: “مارحت غير النجف!” .