19 ديسمبر، 2024 12:11 ص

العودة الى دويلات المدن

العودة الى دويلات المدن

الماضي لم يصبح بعيدا عند توثيقه, وأزمات وصراعات الممالك والمدن في العصور القديمة والوسطى لم تختلف كثيرا عنها في تاريخنا المعاصر بل قد تختلف في اسلوب اداراتها ونوع قياداتها. ورغم امتلاك هذه الممالك والمدن سيادة كياناتها, فقد اتحدت بعضها وشكلت إمبراطوريات وتحالفات سياسية وعسكرية. وأقامت بعضها بما يعرف (دويلات المدن), أي أن كل مدينة كانت تمثل دويلة وهي تصغير لكلمة دولة, بأن يكون لها حاكمها وجيشها وأرضها, وفي كثير من الاحيان كانت هذه المدن او الدويلاتتتقاتل فيما بينها لأسباب عديدة مختلفة. وعندنا, في بلاد الرافدين ظهرت حضارات مدن او دويلات في الالف الثالث قبل الميلاد في عصرمايسمى فجر السلالات,  بدأً بسلالة أور السومرية الأولى 2650 ق.م,وقد شهدت هذه ( دويلات المدن) العديد من الصراعات, وكان في اغلبها اقتصادية, بالسيطرة علىحصص المياه الزراعية كونها عماد اقتصادها وسيادتها. وأنتجت هذه الصـراعات بشكل أو باّخرتوجها نحو وحدة سياسية لانهاء معاناتها ونزاعاتها. وذلك عندما تبنى الملك أوما لوكال زاكيزيالدعوة لتوحيد دويلات بلاد سومر وانتهاج حكم مركزي لضمان وتقوية الوحدة الداخلية التي تعتبر الركيزة الأساسية لفرض السيادة ولمنع الأطماع والتدخلات الخارجية. وجاء النهوض الكبير على يد القائد سرجون الأكدي 2371-2316 ق.م الذي انتزع السلطة من السومريين في عاصمتها كيش ووحد كامل دويلات المدن السومرية, لتضم دولته جغرافيا الخليج العربي والأراضي العربية حتى البحر المتوسط وامتدت هذه الصراعات الى تاريخنا المعاصر, وان ألأكثر غرابة فيه التوافق الغيرمتجانس ايدولوجيا بين دول الغرب الاستعماري والدول الاقليمية المحيطة ببلاد الرافدين و بعض دويلات الأعراب، من هاجس القلق المتأتي من مستقبل استتباب الاستقرار الحتمي لبلاد الرافدين. وجعلت هذه الصراعات المواطن مفتوناً بهاجس الانتماء المناطقي والقبلي والطائفي والأثني والحزبي على حساب الانتماء الوطني، وتغذيه نوازع شيطانية مؤطرة بتبريرات ساذجه بأننا مجتمعات متعددة الأطياف والأعراق والمذاهب لا يمكن أن نبني منها وطنا موحداً. مع العلم, ان كل الطوائف والاثنيات والأعراق والمذاهب مجتمعة في بلاد الرافدين لا تعادل جزأ ما في دولة تنوع واحدة كالهند، والهند وطن موحد كبيررغم تنوعه الكبير. ان أجمل وحدة وأمتنها هي وحدة التنوع ضمن الوطن الواحد. إن الامة العراقية حتى لوكانت عرقاً واحداً، ودينا واحداً، وطائفة واحدة، فان ثمة من يجد وسيلة لتفرقها واحترابها اذا لم تكن تتمتع بحصانة ذاتية. هل كان التناحر مذهبيا ام عرقيا بعد الرابع عشر من تموز عام 1958؟, أولم تسيل الدماء أنهاراً؟. لايمكن انهاء الاختلاف، ولكن يمكن تنظيم الاختلاف، وهو ما تفعله الأمم الحيّة، فهل نطمح أن نكون من ضمن الأمم الحية، أم أن هذا أصبح أمراً متعذراً، وأننا نغذي السير صوب دويلات المدن والطوائف؟.  ليس الهدف من هذا السرد هو التحدث عن تاريخ العراق القديم, بل عن تاريخ العراق المعاصر, فدويلات المدن عادت من جديد وبمسميات جديدة اقاليم, فيدرالية الجنوب, فيدرالية الوسط والجنوب, وتنوعت المسميات وكلها تحمل بذورالانفصال. الامة العراقية ليست ضد وضع ديموقراطي يحقق لشعبها المساواة وتكافؤ الفرص, ولكنها ضد تقسيم وطنها وانتماءها. ان ماجمعه العراقيون قبل 3000 سنة, يحاول البعض الان تفتيته بمحاولات وضع الحواجز أو الاسوار بين مدن العراق , أو حتى بين مناطق المدينة الواحدة, ولم يدركوا حجم المخاطر التي سوف تترتب على مجتمعنا الواحد من جراء ذلك.كلها تؤكد أنها مشروع مؤامرة دولية لتقسيم العراق للوصول إلى هدف تمزيق العراق وتقاسم ثرواته, من خلال مشاريع مدروسة بدقة تبدأ بفصل مصالح المحافظات عن بعضها البعض، وجعل العلاقة فيما بينها علاقة تنافس تناحري, وتحطيم المشاريع المشتركة التي تمثل العراق لإفراغ محتواه واضعافه تدريجياً لأنهاء وجوده ومحوه من الخارطة. وبالرغم من وضوح مواد الدستور العراقي في الباب الرابع (صلاحيات الحكومة الاتحادية), تم تقديم مشروع “الحرس الوطني” الذي يمثل “جويشات” محافظات ليكون مثالاً مصغرا لجيش محاصصة طائفي غير واضح الاهداف ويناقض وجوده مع المادة 109 من الدستور العراقي.  واندلعت ايضا أزمات المياه بين المحافظات الجنوبية وصلت إلى إشهار السلاح وإعلان حرب العشائر على مجالس المحافظات، وتهديد مزارعي المحافظات الواقعة على نهريْ دجلة والفرات بأسبقية جغرافية لتجاوزها على حصص المحافظات التالية لها، مما استدعى الدعوة الى رئيس الوزراء لإرسال قوة عسكرية لحل الأزمة في محافظة المثنى. واخرى تمت فيه مهاجمة بيت المحافظ في الناصرية، ومحافظة ميسان في حالة نزاع مع الكوت، ومحافظة المثنى مع القادسية وكذلك الحال مع محافظة بابل، والبصرة على حالها ترقد في العطش بغياب المياه العذبة، وإيران مستمرة بقطع دابر أنهارها وتمنعها من عبور الحدود الإيرانية إلى داخل مسارها الطبيعي رغم أنهم يسمحون لمياه البزل المالحة بغزو أراضيه. وباتت المحافظات تتصرف  كدول في نزاعات المياه للاستخدامات الزراعية أو للاستخدامات المنزلية. ولا فرق بين حالة العراق في محافظاته الفيدرالية وبين أزمة مياه نهر النيل بعد بناء سد النهضة الإثيوبي وما يسفر عنه من تصعيد بين دول المنبع ودولة المصب مصر وكذلك السودان. إن احد اسباب شحة المياه وعدم تنظيم حصصها في المحافظات الوسطى والجنوبية هي التجاوزات على حصص مياه الأنهار من قبل مسؤولين وشخصيات متنفذة في الدولة التي تقوم بالاستحواذ على كميات المياه دون رادع أو حرص، حتى تفاقمت هذه الظاهرة وأصبحت الان تهدد آلاف العوائل بالتهجير وانتشار الأمراض بين سكان المحافظات. اما السبب الرئيسي في نقص ايرادات حوضي دجلة والفرات وهذا ما استعرضته بالتفصيل في احدى مقالاتي المتخصصة في سياسات الطاقة والتي نشرت في موقع كتابات وشبكة الاقتصاديين العراقيين, هو ضعف التنسيق المؤسسي مع الجانب التركي كونها دولة المنبع, حيث لم تعملالدبلوماسية العراقية من خلال نوافذها الدولية والاقتصادية  بالضغطعلى الجانب التركي لتأمين حصته المائية للعراق ببرنامج طويل وباشراف المؤسسات الدولية الممثلة للامانة العامة  للامم المتحدة لضمان الحصص المائية للدول المتشاطئة لنهري دجلة والفرات, وليسمن خلال حلول ترقيعية استجدائية مرهونة بسياسة عسكرة المياه. وغابت حالة الانسجام بين المؤسسات الحكومية ومجالس المحافظاتوتجاوزت المحافظات عن الالتزام بالمادتين الدستوريتين 111 و 112 وبرزت الخلافات والصراعات وبشكل مؤلم عندما دعت محافظة المثنىالحكومة المحلية في محافظة ذي قار إلى الكف عن التحركات التي تهدف للسيطرة على الرقعة النفطية المشتركة بين المحافظتين التي تشهد عملية تطوير من قبل شركة لوك اويل الروسية والمحددة حصصهما اساسا من قبل وزارة النفط. واوقفت محافظة القادسيةتشغيل اجهزة السيطرة عن بعد في محطات نقل الطاقة الكهربائية في المحافظة والتي تجهزالطاقة الكهربائية  لعدد من محافظات الفرات الاوسط للاستحواذ على حصصهم من الطاقة الكهربائية. وانتقل مرض (دويلات المدن) الى وزارات ومنها قطاع الطاقة واصبحت وزارة النفط منفردة بسياستها التي تتركزبتطوير قطاع الاستخراج النفطي على حساب تطوير الصناعة النفطية التكريرية واستثمار الغلز الطبيعي وبنوعيه الحر والمصاحب الذي لايزال يحرق معظمه بكميات تصل الى 1700 مليون قدم مكعب يوميا وعدم ايفاء وزارة النفط بالتزامها بالخطة الوقودية لتشغيل محطات الكهرباء مما اضطرت وزارة الكهرباء باستيراد كميات من زيت الغاز الكازويل بمعدل 3 مليون لتر يوميا, والتفاوض والتوقيع مع الجانب الايراني بتجهيز غاز طبيعي بمعدل 1800مليون قدم مكعب في اليوم من خلال انبوبين الى المنطقتين الوسطى والجنوبية في العراق لتشغيل المحطات انتاج الطاقة الكهربائية وهذه الكميات المستوردة يوميا تعادل  كميات الغازالطبيعي المصاحب التي تحرق يوميا والتي تعادل انتاج طاقة كهربائية بمقدار 5500 ميكاواط ممكن ان تضاف الى زيادة القدرة الانتاجية للكهرباء وانهاء ازمته التي تطرقنا الى تفاصيلها في مقالنا الذي نشر في صفحتي في موقع كتابات بتاريخ 21 اذار 2018 ومواقع وصحف اخرى. بعد استعراض هذه الفصول, هل هو توجه الى تفعيل مشروع بايدن, وهل سيقسم العراق إلى اجزاء بقدرعدد محافظاته عدا كردستان, لتعود (دويلات مدن) كما كانت في عصورها السومرية. لقد تعرض العراق لكثير من الهزات في تاريخه وخرج منها أكثر توحداً والتحاماً, لأن شعبه واحد بتاريخه وأرضه ومياهه,  فلا عودة لدويلات المدن, التي كانت قبل خمسة الاف سنةمنشغلة بصراعاتها على الارض والمياه وسياسة الاستحواذ. ان ثروات العراق هي لكل أبنائه, وان الثروة الحقيقية هي العراق كله, بثرواته التي لاتنضب, ومن يعتقد أن النفط هو الثروة الوحيدة فهو خاطيء لأن النفط مادة ناضبة وزائلة. ان الاكثر إثراءاً هو شعب العراق الذي ينتظران يخرج منه فارسا ينهض من ركام وطن انهكته واستنزفته حروب هوجاء ونزاعات لعقود,  كنهوض طائر العنقاء للتوق الى حالة القوة والخلود.