عرف الفقه السياسي الحديث نماذجًا من معايير الجودة في إدارة الأزمات، وما دام العراق ما بعد 2003 لم يمضِ قُدُمًا نحو إرساء دعائم دولة عراقية واحدة وطن للجميع، وظل يتخبط في زوبعة مفاسد المحاصصة الطائفية والحزبية، فإننا نشهد اليوم العديد من علامات العودة إلى المربع صفر بنماذج متعددة، أبرزها:
أولًا: الاستقواء بالفصائل الحزبية المسلحة بدلًا عن العمل المؤسسي للسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
أبرز مثال على ذلك ردود الأفعال المتباينة سياسيًا على القرار الولائي الصادر من المحكمة الاتحادية بشأن مشروعية التصويت على سلة القوانين (العفو العام، الأحوال الشخصية، استعادة العقارات).
لم يتعامل هذا النموذج مع روح الدستور، خاصة وأن من قدم لوائح الاتهام أمام المحكمة الاتحادية هم نواب سياسيون يعلمون جيدًا أن قانون العفو العام مدرج في البرنامج الحكومي، وأن هناك اتفاقًا سياسيًا داخل تحالف إدارة الدولة عليه. لذلك، يُعرف الأمر قانونيًا بعبارة تكررت في قبول لائحة الدعاوى بأنها “قُبلت شكلاً لتُناقش موضوعًا”.
وعليه، فإن ردود الأفعال التي تناقض روح الدستور لم تتعامل مع حالة النكث بالاتفاقات، فقط لأن الثقة مفقودة داخل العملية السياسية. فما يتم الاتفاق عليه في العلن يمكن تغييره بالاتجاه المعاكس بافتعال معارضة قانونية، تُوظف حالة التباين بين معايير جودة الأداء الوظيفي لرئاسة مجلس النواب.
ثانيًا: سوء الثقافة المتعمدة التي يقودها أمراء الطوائف الحزبية في استهداف القضاء العراقي.
يتم تحويل أصل الموضوع إلى ذات المعترض أمام المحكمة الاتحادية، بينما يتم التعامل مع المعترضين إعلاميًا بشكل مختلف. واجب المحكمة هو الاستماع إلى كل مشتكٍ، ولكن إعلاميًا يتم انتقاد المحكمة فقط لأنها تنفذ ما خوّلها الدستور القيام به. لذلك، كان من المفترض بالمعترضين التعامل إعلاميًا مع الأفراد الذين تقدموا بلائحة الدعاوى أمام المحكمة، وليس استهداف المحكمة ذاتها بالذات المعنوية.
ثالثًا: التقصير الإعلامي من القضاء في إصدار بيان توضيحي لقبول الشكوى وإصدار الأمر الولائي.
كان من الواجب أن يصدر القضاء بيانًا إعلاميًا بلغة يفهمها الجمهور المستهدف، يوضح أن هناك جهات رفعت الدعاوى أمام المحكمة، وليس المحكمة أو الادعاء العام هو من جاء بهذه الدعاوى كي يصدر عنها الأمر الولائي. هذا الأمر الولائي يُفسر دائمًا لصالح الدستور النافذ وليس العكس.
إصدار مثل هذا البيان التفسيري مع صدور الأمر الولائي كان من الممكن أن يكبح الكثير من الأصوات التي هاجمت المحكمة الاتحادية كمحل نزاع، دون أن تناقش إعلاميًا من تقدم بالدعاوى أمام هذه المحكمة.
رابعًا: الحلول المناسبة تتجسد في العودة إلى ذات المربع صفر لصياغة الاتفاق السياسي داخل تحالف إدارة الدولة، والإطار التنسيقي منه بشكل خاص.
كيف حصل الاتفاق على التصويت ليلة إقرار ثلاثة قوانين خلافية، ثم الاعتراض على تطبيقها بعد التصويت؟ هذا النموذج من المخادعة السياسية، والمضي بها في مثل هذه الظروف التي يمر بها العراق خاصة والشرق الأوسط بشكل عام، فقط لإبراز العضلات والتعامل مع فرضيات الفرص والتحديات، يمكن أن يؤدي إلى تنازلات مؤقتة، لكنه يفجر المواقف في حالة عدم الالتزام بحدود المعقول في الالتزام المقابل.
عقلية إدارة مثل هذه الحالات تبدو أقرب إلى عقلية المافيا الإجرامية منها إلى عقلية الإدارة الحصيفة العاقلة، التي تهدف إلى الخروج بالعراق كوطن واحد للجميع من أهوال عواصف الشرق الأوسط الجديد.
ويبقى من القول: لله في خلقه شؤون!!
#المحكمةالاتحادية
#قانون العفو العام
#العملية السياسية