ليس العنوان بالشئ الجزئي الذي يمكن التقليل من اهميته، فلقد اعتني بالعنوان منذ ان فتحت البشرية افقها المعرفي، ومنذ ان اخذت المدارك تتسع والعقول تجني ثمار جدها وجهدها، فوجدنا ان العنوان هو مفتاح الدخول الى النص، مطلق النص، فهو المدل بشكله وبطريقة صياغته وكلماته، على ما في داخل النص، فهو ليس النافذة والباب بل هو المجال الواسع الذي يدخل منه الضوء، ليضيئ عتمات الداخل، فالنص معتم، لايضيئه الا العنوان، واذا كان العنوان ناقصا او مرتبكا او بصياغة ركيكة، بقيت العتمة، تمنع الابصار من الوصول الى ما تقوله الكلمات , لذا كان العنوان عاملا سميولوجيا كلما وضحت معالمه وضح المتن، وبين الاثنين تعالق اسلوبي ودلالي ونفسي ايضا، لذا فان اختيار العنوان دراسة لكتاب اعلامي، هو اطلالة ذكية على اهم ما في الصحيفة من اركان، وبدون العنوان لا يكون الا الفراغ، على هذا النحو ينظر السيميائيون ، واذا كانت التداولية تنظر في العلاقة البرجماتية بين القارئ والنص، فان العنوان هو الطريق لتحقيق هذه العلاقة، لذا فقد شاعت كتب من عناوينها ومن قدرة كتابها على صياغة العنوان، وقد يحفظ العنوان ويكون دليلا على المتن حتى في غياب المتون، فالعناوين يمكن ان تحفظ، لان كلماتها القليلة قابلة للحفظ، عند ذاك وعن طريق حفظ العنوان يتذكر المتن، ولاسيما عناوين الكتب التي لاقت صدى في العالم اجمع، منها الروايات والافلام والقصص، وكذلك العناوين الرئيسة للصحف التي تذكر بالاحداث، على الرغم من مرور زمن طويل عليها. العنوان في ذلك قريب مما يطلق عليه بالبنية المهيمنة في النص، على وفق ما فاه به الشكلانيون الروس في بداية القرن الماضي، وقد تكون هذه البنية قريبة من العنوان اولا باول، فاذا كانت هذه البنية تظهر مرة واحدة في النص او في الفلم السينمائي فان البنيات الاخرى ستكون تابعة لها، وستكون ذات علاقة بالعنوان، فالعنوان يقود الحدث فهو كالومضة المضيئة او اللقطة السينمائية التي تظهر في كثير من الافلام وتختفي، ويكون كل ما يحدث بعد ذلك ذا علاقة بهذه اللقطة التي ظهرت ثم اختفت، ان عمق هذه اللقطة والقدرة على صناعتها، هو السبب في حضورها حتى في الاختفاء ، موجودة حتى في العدم، فالوجود والعدم ضدان لكن احدهما لا ينفصل عن الاخر , وهذا يذكر بالكتاب الذائع الصيت للفيلسوف الفرنسي واديب الستينات المشهور جان بول سارتر.. تذكر سارتر في هذا الوقت دليل على قدرته في صياغة العنوان لاكثر موضوعات الفلسفة تعقيدا، حين يعبر عن العدم بالوجود، وبالوجود عن العدم، وما كنا متيقنين من قدرة ستينات القرن الماضي على فرز عنوانات جديرة بالاحترام، حتى فاجأنا العالم مرة اخرى، باهتمام وعناية لا مثيل لها، بعد ان اتسع مجال الاهتمام بالقارئ في اطار التلقي ونظريات الاستجابة، فاذا نحن امام عنوان جديد يستلهم ما بداخله ويفيض .. فمن الصعب ان تقبض على وعي القارئ وان تثير اهتمامه..في عصر، شغله الشاغل تذويب اصغائه واهتمامه، فضلا على انشغالات اخرى تفرضها ضرورة العيش.
في هذه البشرية المضطربة، يشعر الانسان فيها انه كالحصان المنقاد، السوط فوقه، يتأرجح بيد راكب طائش كما يقول شاعر ايرلندا الكبير ويليم بتلر يتس، حين يكشف سقوطا مريعا لعواطفه. وما كنا الا معنيين بالعنونه في مراتب تدرجنا الحضاري ومبتكرين لعنوانات جميلة يمكن حفظها وموازنتها فاخترعنا في بعض فصول حياتنا الحضارية (السجع) معادلا للدخول الى النص، وما اكثر ما كانت عنواناتنا مدله، وقد يرد الى الذهن الكثير من ذلك،نقف مثلا عند عنوان كتاب (صبح الاعشى في صناعة الانشا) للقلقشندي ، وهو واحد من مئات، نذكره لندل على ان صياغة العنوانين صناعه، حين اراد هذا المؤلف القديم ان يدل قراءه على الكتابة وبلاغة الانشاء، فلم يجد الا العنوان الذي كان كالبنية المهيمنة نجدها في فقرات الكتاب وفصوله..
ولعل القارئ يدرك الاهمية التي يوليها الباحثون المعاصرون لدراسة العنوان، وظهرت بحوث ودراسات لسانية وسيميائية عديدة في الاونة الاخيرة تعنى بالعنوان وتحليله من نواحيه التركيبية والدلالية والتداولية، فالعنوان كما يقول الكاتب المغربي محد مفتاح “يقدم لنا معونة كبرى لضبط انسجام النص، وفهم ما غمض منه، اذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد انتاج نفسه، فهو ان صحت المشابهه بمثابة الرأس للجسد”. والعنوان بعد ذلك ذو صلة وثيقة بافق انتظار القارئ، على تعدد فهم مستويات هذا الافق، غير ان الثابت، ان هناك تفريعات عربية على افق الانتظار، فهو ليس فقط مجموع الثقافات التي تكونت لدى القارئ، بل هو اوسع من ذلك، وقد يطرح هذا المصطلح من الاشكالات ما يعسر فهمه في هذا التقديم الوجيز، ولكن على طريقة حرية التفسير انطلاقا من تفريعاتنا العربية، فان افق الانتظار هو مايدعو القارئ للقراءة ويتحدد هذا بالعنوان اولا ليكون سببا للدخول الى النص وبتوضيح اكثر، افق الانتظار هو مايقف عليه القارئ في النص، واول ما يقف عليه هو العنوان واذا لم تحقق هذه الوقفه ما ينشده، انصرف وابتعد. لذلك كان اختيار الباحث الدكتور اكرم فرج عبد الحسين عنوانا لكتابه ( الكفاءة الأتصالية في صياغة عناوين الأخبار)، مدخلا لمجال معرفي مهم . وما كان ذلك ميسورا من قبل، الا حين توسعت الدراسات الاسلوبية بفروعها وامكاناتها المختلفة، ولا سيما الاسلوبية الاحصائية، التي هي محط انظار الدارسين، الذين يريدون لدراساتهم الدقة، أي بلغة الارقام والرياضيات، وهو وان اطلع على مقاييس الكفاءة الاتصالية فانه لم يكتف بذلك، فقد اراد ان يكون له مقياسه الخاص , ولم لا؟ اذا كان ذلك يأتي في اطار تمكن معرفي ونزوع ثقافي وسلطة دافعة، تسعى الى ان تترك اثرا بين الاثار، ومعلما بين المعالم، على هذا النحو كانت دراسته الاسلوبية الاحصائية واحدة من الدراسات الفريدة التي جمعت بين علم الصحافة بدقائقه وتفصيلاته ,والوسيلة التي يؤدى بها هذا العلم، يؤطرها نظر احصائي علمي، يمكن العودة اليه، كلما اراد الصحفي ان يقيس قدرته على صياغة عنوان تميل الانظار اليه وتتسع حدقات العيون حين تواجهه، مستفيدا ايما فائدة من منجزات العصر الاعلامي الذي نشهد صعوده وارتقاءه الى مديات واسعة، فصناعة العقول لا يتحقق جزء كبير منها الا بالاعلام، واذا كنا بحاجة الى من يؤطر هذه الرؤية الجديدة بامكاناتها الواسعة واختراعاتها العديدة فان هذا الكتاب استجابة علمية موضوعية لهذا الجديد المتسع للذاكرة والمحتشد على ابوابها..
وقد يلقى كل عمل استجابة لاول وهلة، وقد لا يرى فيه بعض الدارسين الا نزوعا حماسيا لرؤية يجسدها الظن اكثر من اليقين، وقد يلقى بعض الدارسين عنتا، له مسوغاته في هذه الجداول الكثيرة والنسب المئوية، والعمليات الحسابية، لكنه سيكتشف بعد حين ان هذا الجهد المعرفي هو باكورة لجهد قادم يفتح حتما في الدراسات الاعلامية، في اطار منطق العصر وتطلعاته، بل وتجاربه الواسعة، فقد اسقطنا التجربة العلمية من حياتنا، والتجربة كما التجريب ,بابان واسعان لممارسة الوجود، واعني بالوجود القدرة على الابتكار ومزاحمة الاخرين في اختياراتهم وتفوقهم.
واذا كانت الدراسات الاعلامية قد اصابها نوع من الجمود في مناهجها، فان هذه الدراسة اخرجت الجامد من جموده، فلماذا نحبس انفسنا في منهج او منهجين ندور في فلكهما كالذي يدور في فراغ، لماذا لاندرك ان المناهج يمكن ان تستهلك ويكون لها زمنها، وتستبدل بعد ذلك، وان الاصرار عليها كالذي يريد ان يعبث بالموج وهو مستلق على الرمال. وقد يحث هذا الكتاب الدارسين واللغويين، ويقوي الصلات بين اللغة والاعلام، التي غدت حقيقة لا يمكن فصلها او التقليل من اهميتها، فبلا لغة لا -+يوجد اعلام.. وهذا يعني ان عصرنا الراهن اعاد تقويم اللغة مثلما اعاد تقويم الاعلام واعاد انتاجهما في صيغ جديدة، لا تعني الوقوف على الخطأ والصواب، او استعمال الكلمة في هذا الموضع دون الموضع الاخر , واذا كان هذا معطى في الدراسات اللغوية والاعلامية، فان ما يجب الوقوف عليه هو التثبت من شروط تحقق النص، فالمقبولية مثلا تتعلق بموقف المتلقي من النص، فالسياق الذي يؤدي اليها، ينبغي ان يراعى فيه صحة القواعد النحوية وتوافق الوقوع او الرصف بين مفردات الجملة، ولهذا فان المقبولية وهي احد شروط الخطاب المهمة تكون على مستوى الجملة، أي مستوى الرصف وصحة القواعد النحوية , اما المقبولية على مستوى النص فيقصد بها المعنى النصي والتماسك..
والعنوان يقع على المستوى الاول أي مستوى الجملة لا مستوى النص، وان كان بعض الدارسين يضع الجملة او الجملتين المترابطتين في اطار النص. لكن العنوان جملة قصيرة او جملتان مترابطتان، ملتحمتان في اطار دلالي واسلوبي متين، او هو جملة واحدة واذا جاوز جملتين كانت الثانية احيانا موصولة بالاولى في اطار الوصل البلاغي الذي تحدث عنه عبد القاهر الجرجاني كثيرا في دلائل الاعجاز.. وهذا يعني ان مستوى العنوان المدل على المتن له شروطه ولوازمه المختلفة عن شروط المتن او النص، وهذا يمثل العمق الحقيقي لهذا الكتاب، او هو مايريد قوله، وهذا الاختلاف بين الاثنين، يعزز مجال التواصل ويدخلنا مرة اخرى في تصور ما لعلاقة اللغة بالاعلام.. ويمنحنا القدرة على التفكير السليم انطلاقا من علاقة اللغة بالفكر، اذ ان سلامة اللغة تعني سلامة الفكر. ويشير بعض الدارسين الى الفرق بين صياغة الجملة عنوانا وصياغتها متنا ,أي وضعها في انساق جملية ، فحين نقول اسعدني تقديري للاصدقاء، يوجد فرق في المعنى بين المتضايفين، أي اضافة المصدر للفاعل فيكون المعنى اسعدني تقديري للاصدقاء، او اضافة المصدر للمفعول فتكون , اسعدني تقديرهم لي، فاذا وقعت الصفة بعد المتضايفين، يقبل التحليل على مستوى الجملة لان السياق هو الذي يحدد دلالتها , لكنها لو جاءت على شكل عنوان صحفي، لا تقبل بسبب الاحتمالية فيها، أي انها تؤدي الى التباس دلالي مما يبعدها اصلا عن المقبولية. وقد درس الكتاب هذا الموضوع في ابحاث عدة منها الفصل الخاص بجدلية العلاقة بين العنوان والخبر والقارئ.. وفضلا على القضايا المهمة التي ذكرها في هذا الفصل فان قضايا اخرى يمكن استنباطها من بين الابحاث السابقة، ويمكن البناء عليها، قد تشمل العنوان و النص.. ويلاحظ ان الجدة والابتكار يظهران في الاثنين أي العنوان والنص غير ان تجليهما في العنوان يكون اكثر لذا فان مواضعة (بوغراند) يمكن ان تشمل العنوان مثلما تشمل النص فهو يقول “كلما بعد احتمال الورود ارتفع مستوى الكفاءة الاتصالية” ويلاحظ ان ذلك متعلق بالخطاب عموما لا بالعنوان فقط، لكنه اكثر ارتباطا به، لان العنوان يعني البروز والاظهار والاشهار، وكلما كان جديدا مبتكرا في صياغته احتوى على جودة الاتصال بالاخر، ولهذا يشار عادة في الخطاب الاعلامي الى مايطلق عليه بالاعلامية ويقصد بها الاخبارية، فاعلامية أي عنصر انما تكمن في قلة احتمال وروده في موقع معين مقارنة بالعناصر الاخرى في النص نفسه.. ويبدو من السهل ان ينطبق الامر على العنوان. لقد لامس هذا الكتاب، هذه المواضعة المهمة التي اشار اليها بوغراند وعرفها معظم المشتغلين في تحليل الخطاب، يتجلى ذلك في ابحاث وردت في الكتاب مثل علاقة العنوان بالخبر الصحفي، وعلاقة العنوان بالقارئ ومعايير الخطأ والصواب في الصياغة .
ان هذا الكتاب جدير بان يوضع بين اهم الكتب الاعلامية الصادرة حديثا , تفتقر اليه مكتبتنا العراقية والعربية، واذا كان القدماء قد قالوا قولتهم الشهيرة كم ترك الاول للاخر، نقول في هذا الكتاب كم1 ترك الاخر للاخر، فالمستقبل هو ما ينشده هذا الكتاب، المستقبل الذي يعنى ايما عناية بكيفية استجلاب القارئ دمج وعيه بوعي النص، وكلما نجحنا في القبض على ذاكرة المتلقي، تقدمنا نقطة مهمة الى امام. فالمشكلة القارة في عالم اليوم، انه مع تعدد وسائل الاعلام وتغيراتها السريعة، ما عادت مخاطبة القارئ او السامع بالامر السهل، وضعفت السلطة اللغوية في استجلابه، ومن اجل تقوية هذه السلطة لا بد من وقفة جادة في دراسة النصوص، عنوانا ومتنا.. وهذا مافعله هذا الكتاب حين وقف وقفة علمية دقيقة على العنوان، يتفحصه يتعمق في دلالته، ليأتي الاخرون فيكملوا المهمة.. وفي هذا دلالة مهمة، دونها كل الدلالات.
[email protected]