18 ديسمبر، 2024 9:08 م

العنف المجتمعي في العراق

العنف المجتمعي في العراق

يُعد العنف المجتمعي ظاهرةً مرضيةً وسلبيةً توارثها الإنسان من الأجيال السابقة، وطورها، وأضاف إليها، بحسب تقدُّم التكنولوجيّا وتطوُّرها. بصورة عامة لا يوجد تفسير واحد صريح يوضح أسباب العنف، وإنما توجد عدة عوامل تؤدي إلى العنف، فقد تكون الأسباب شخصية، أو ترجع إلى طبيعة المجتمع، وممكن أن يكون العنف نتاجاً لأسباب اقتصادية والتي تعتبر من الأسباب المهمة جدًّا، ومنها ما يكون بسبب عوامل نفسية تنعكس على تصرفات الأفراد، فتؤدي إلى العنف وغيرها. أما في موضوع ظاهرة العنف المجتمعي في العراق فبلا شك أن الظاهرة ليست وليدة الصدفة، بل نشأت نتيجة اجتماع جملة من العناصر والأسباب، أبرزها العوامل الاجتماعيّة، منها العرقيّة أو الدينيّة أو القوميّة أو المذهبية، إضافة إلى الفقر والحرمان والبطالة مع انعدام العدالة الاجتماعية، علاوة للأسباب الخارجيّة والدوليّة والإقليميّة. ونحن في العراق وإن كنا وما نزال نفتخر بحضارة وادي الرافدين وصدعنا رؤوس باقي الأمم بمجدنا، رواداً في إرساء دعائم الحضارة الإنسانية، إلا أننا ابتلينا بعادات وممارسات بحكم الديمقراطية الفوضوية. بينما دول عربية وإقليمية تأسست بعد العراق بعشرات السنين، تشهد اليوم عصرا ذهبيا للفكر التحرري والتقدمي والإبداعي على مختلف الصعد وفي شتى المجالات. لقد أصبحت الهوية الثقافية لقطاع كبير في المجتمع العراقي وخاصة (فئة الشباب) تلوذ بالهوية الدينية والهوية المناطقية والقبلية، كبديل عن الهوية الحضارية، حيث كان ومازال الخطاب الديني والخطاب القبلي المؤثر الأول على الشباب، ولعبا دوراً مهمًّا في صياغة المجتمع العراقي وبنائه. فكان لجوئهم للدين والنزعة العشائرية بصورته الغيبية العاطفية كإجابة مباشرة على أوضاعهم المتردية من البطالة والفقر والحرمان، وهي مبادئ أساسية في الاستقرار الاجتماعي. فضاع مستقبل الشباب وظهرت جماعات تبنت الفكر التكفيري وممارسة العنف الإرهابي، وجماعة أخرى اتجهت إلى المخدرات، باستثناء شباب ثورة تشرين. بالتالي انتشر العنف في العراق بكافة أنواعه، سياسيا، اجتماعيا، طائفيا، وحتى اقتصاديا. من هنا كان وللأسف هذا الواقع دفع نحو مزيد من الانحطاط الثقافي والقيمي والتفكك الاجتماعي. ثم دخل المجتمع العراقي في مرحلة التراجع وخلق ثقافة جديدة قوامها العنف.
ولعل ظاهرة الاقتتال العشائري في العراق أخطر الظواهر في إفراز ظاهرة العنف المجتمعي في الواقع الاجتماعي العراقي، والتي نشأت وترعرعت مؤخرا بشكل كبير في المحافظات الجنوبية. لاسيما أن كل الآراء تُرجع ظاهرة الاقتتال العشائري إلى انتشار ظاهرة المخدرات في تلك المحافظات. لكن الحقيقة هناك عوامل نفسية واجتماعيّة أخرى، وتحت ظروف سياسيّة واقتصادية وثقافية معينة ساعدت في تفشي ظاهرة العنف المجتمعي ليس فقط في المحافظات الجنوبية وإنما في أغلب محافظات ومدن العراق. وللوصول لفهم أعمق لهذه الظاهرة يتوجب الوقوف على التحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المحافظات الجنوبية خلال الفترة التي سبقت ورافقت نشوء الظاهرة، وتحليل نوعيات الأفراد الذين شكلوا الظاهرة وكانوا وقودها، فإذا كان من الصعب العثور على أطباء ومحامين ومهندسين ومثقفين من بين الذين يمارسون العنف المجتمعي، وإذا وجدوا فهم أقلية، فإنه في المقابل يسهل العثور على شبان عاطلين عن العمل ويفتقدون الأمل ويواجهون أفق مسدود في مدن تعج بالظلم والقهر الاجتماعي، وهؤلاء قبل أن يستخدموا الرشاش والهاون وغيرها من الأسلحة الثقيلة في القتال هم يمثلون القاعدة الأساسية للمجتمع. عليه فإن الظاهرة التي نحن بصددها تنمو وتتضخم معنى أن بعض العشائر التي تمارس العنف والاقتتال ليست ظاهرة عرضية بسيطة في النظام السياسي العراقي، بل هي بشكل أو بآخر باتت تمثل دولة موازية أو حكومة ظل، ولها أتباع من الجماهير العريضة، وميزة هذه القوى أنها تشكيلات متماسكة ومنظمة من العوائل والأسر فيها نظام التراتبية والانضباط والطاعة العمياء، وقد استطاعت أن تفرض قوانينها بمنتهى الصرامة في العديد من المدن والقرى والمناطق المختلفة في أكثر من محافظة، بينما تقف السلطة عاجزة عن التصدي لها أو حتى محاسبتها.
وفي ظل غياب الازدهار والتقدم، ونتيجةً لسياسة السلطة، بمعنى لم ولن يكون الحل الأمني والعسكري هو الأسلوب الناجع في الحد من الظاهرة، في السياق ذاته ممارسات النخب الاجتماعيّة المتنفذة تولد ضغوط اجتماعيّة تؤدي إلى الاضطراب النفسيّ والانحراف لدى بعض الأفراد ينتج عنه إيذاء أنفسهم وإيذاء الآخرين دون التفكير بما ستؤول إليه النتائج، لذلك يسعَون إلى اللجوء إلى العنف كونها وسيلة سلبية للهروب من تحمل المسؤولية التي تتطلب الردّ الإيجابيّ من خلال التفكير بالحلول الواقعية للمشاكل التي تواجه المجتمع. فمتى تؤمن الدولة والسلطة أن قيمة المواطن العراقي بوصفه أهم كائن حي في المجتمع، وأنه الغاية والهدف والوسيلة في آن معاً، وأن تحرره من المعيقات الداخلية والخارجية هو هدف أي عملية تغيير أو إصلاح، وأن تتعامل مع عقل الفرد العراقي باعتباره القيمة الحقيقية له ومصدر تفوقه وجوهر وجوده، ومتى يدرك الساسة وبعض من رجال الدين أن تعاملهم مع الإنسان العراقي يجب أن يكون مبنيا على أساس أن الروابط الإنسانية وأواصر التعاون هي أساس البناء والرقي في مجتمعنا. ومن هنا نلحظ حالة اختفاء القدوة والمثل الأعلى في مجتمعنا، وهذا بحد ذاته رفض للقِيم والأعراف الاجتماعيّة التي تُعدّ أحد أهم وسائل الضبط الاجتماعيّ. في الوقت ذاته انعدم الاهتمام بمشاكل الشباب نتيجة الحرمان الاجتماعيّ، وكذلك بُطْء التقدم في العَلاقات الاجتماعيّة، يؤدي إلى عدم قدرة المجتمع على استيعاب بعض الفئات استيعاباً كاملاً مما يولد فرض نوع من العزلة على تلك الفئات وشعورها بالتهميش والحرمان، ومن ثم تلجأ إلى تشكيل جماعات تمارس العنف.
وتأسيساً لما تقدم فإن القضاء على ظاهرة العنف المجتمعي في العراق لا يكون فقط عبر العمليات العسكريّة والمواجهات الأمنيّة، بل يجب أن يتضمن معالجة الجوانب الفكريّة والثقافيّة وإصلاحها، لأن العنف في العراق أصبح جزء لا يتجزأ من ثقافة توارثتها بعض فئات المجتمع دون مراجعتها وتمحيصها، ولذلك يسهل على دعاة العنف استقطاب عدة شرائح من المجتمع، فالمسألة ثقافية مرتبطة بالوعي بامتياز.