تقوم طروحات عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu(1903ــــ 2002) على دراسة بنية الطبقات الاجتماعية بوصفها فضاء للصراع والمنافسة والهيمنة، مع تركيز اكبر على الدور الذي تقوم به الممارسات الثقافية داخل الصراع الذي يحدث بين هذه الطبقات بشكل واع أو غير واع، ثم استجلاء الكيفية التي تعيد المنظومة التربوية وأساليب التنشئة الاجتماعية ترسيخ البنية الطبقية وإنتاج اللامساواة المجتمعية. ويعد مفهوم العنف الرمزي Symbolic Violation واحداً من المفاهيم المهمة التي تصدرت طروحات بيير بورديو المبكرة عام 1972، وقد لاقى هذا المفهوم اهتماماً واسعاً وكبيراً بحيث أصبح محوراً للعديد من دراسات التحليل السوسيولوجي التي تناولت الهيمنة والسلطة والتمركز الطبقي.
طرح بيير بورديو مفهوم العنف الرمزي من خلال كتابه ” إطار نظرية الممارسة ” ليصف واحداً من أشكال العنف الكامنة، غير المرئية التي تعكس ممارسات عنف في العلاقات الاجتماعية تندرج في إطار ثقافة المقبول والشرعية. وقد أسهب بيير بورديو في تحليل مفهوم العنف الرمزي في كتابه ” الهيمنة الذكورية”، وبذل جهوداً مضنية من اجل الوقوف على أبعاد هذا المفهوم، وطبيعة دينامياته السوسيولوجية وبنيته الفكرية.
يعرف بورديو العنف الرمزي بأنه: القدرة على فرض دلالات ومعان سلوكية تتضمن العنف الكامن بوصفها استجابات سلوكية مقبولة وشرعية، ويفيد بورديو ان تلك القدرة تتضمن كل أنماط الهيمنة الاجتماعية والثقافية، التي تتم عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والايديولوجيا، وقد لايتم إدراك تلك الهيمنة بصورة مباشرة، فمن سمات العنف الرمزي الرئيسة إن هيمنته قسرية، غير ملحوظة، متخفية، متوارية خلف ممارسات اجتماعية وثقافية وشعائر دينية توصف بأنها مقبولة وشرعية، وبعضها مقدس.
يرى بورديو ان العلاقات الاجتماعية، مهما كان حقلها او مجالها، مرتبطة بآليات بنية التنافس والهيمنة والصراع. وقد أصبحت هذه الآليات راسخة ومتجذرة لدى الأفراد عن طريق التنشئة الاجتماعية، فالأفراد ينتجونها بدورهم بطريقة غير واعية بوصفها أعراف وقيم ومعايير. وتعد الأسرة والمدرسة فضاءات لترسيخ وإعادة إنتاج الطبقية واللامساواة الناتجة عن وجود طبقة مسيطرة، وطبقة مسيطر عليها، حيث تساهم مؤسسات الدولة والأسرة والنظام التربوي في ممارسة العنف الرمزي ضد الفاعلين المجتمعيين المرتبطين بها. ويلاحظ أن الكثير من آليات التنافس والسيطرة تنتقل من جيل إلى آخر عبر منافذ التربية والإعلام والثقافة بشكل رمزي مستتر.
ويتجسد العنف الرمزي بسلوكات يومية ذات طابع استحواذي عدائي توغلت وتوارت عبر أنماط التنشئة الاجتماعية والثقافية لتصيب بشكل متخفٍ ضحاياها من مختلف المستويات الثقافية والتوجهات الإيديولوجية، هذا النوع من العنف يمتلك القدرة على المراوغة والمداهنة الى درجة يستطيع فيها ان يتخفى على ممارسيه وضحاياه في آن واحد. بكلمة أخرى يصف بورديو العنف الرمزي بأنه:” عنف ناعم مجهول هادئ لامرئي لا محسوس حتى بالنسبة لممارسيه وضحاياه في آن واحد، بل يتضمن إشراك الضحية وجلادها في رؤية واحدة عن العالم “. ويتجلى العنف الرمزي في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية ودينية تعتمد الرموز كأدوات في فرض السيطرة، ويتشكل العنف الرمزي وينبثق عن سلطة رمزية تأسست بفعل تواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لتلك السلطة.
وفي إطار تحديد هوية العنف الرمزي، ينبغي الفصل بين صور العنف الرمزي وممارسات العنف الأخرى التي درست تحت طائلة الدراسات السيكولوجية، فالعنف بشكل عام يتضمن أشكال الانتهاك الجسدي أو الأذى الذي يقوم به فرد ضد آخر أو جماعة ضد أخرى وهو مدرك ملموس مثل : الضرب، الجرح، التجويع، الاغتصاب، التعذيب، القتل، كما يتضمن العنف المعنوي الذي يتوجه ضد الآخر مثل : الاستهزاء، الكلام النابي، التحرشات المختلفة، سلوكات غير متسامحة، القهر، الإرغام، الامتهان، الاستلاب، التهجير. اما العنف الرمزي فهو عنف غامض مستتر، يتماهى، ويتوارى خلف الكثير من السلوكات اليومية المقبولة اجتماعياً وثقافياً وإيديولوجياً، ودينياً، وتكون نتائجه خطرة وكارثية لأنه يُطَبع الشخصية على العنف ويناوب الأدوار بين الجلاد والضحية ويؤسس ويثقف بشكل مستتر للعنف الصريح ( الجسدي والمعنوي). ان خطورة العنف الرمزي تكمن في أنها تستهدف في جوهرها البنية النفسية والاجتماعية والفكرية لضحاياها، وتحولهم بفعل التطبع والنمذجة منتجين لأدوات العنف الرمزي تجاه الآخر، وتجاه أنفسهم، وبذلك تتحول الضحية إلى جلاد، وهكذا يستمد العنف الرمزي طاقته وحيويته وديمومته.
ان الكثير من أدوات إنتاج العنف الرمزي تستمد طاقتها وتؤسس لبقائها وتمارس فعالياتها بطريقة منظمة ومتكاملة بشكل يتوارى خلف منظومة المعايير والاتجاهات والقيم الاجتماعية، انه نوع من العنف الثقافي يتوارى تحت رداء ممارسات العلاقات الاجتماعية المألوفة والمقبولة في كل زوايا الحياة، والتي تجد لها أسساً تدعمها في الكثير من الأحيان بمقولات وخطابات وشعائر منغمسة بمفاهيم الايدولوجيا والموروث والمقدس المستقرة في عقول الناس. وبتوضيح آخر ” أن العنف الرمزي أكثر خطورة من سائر أنواع العنف، لأنه عنف مغلف ببصمات ثقافية وموروث اجتماعي ومقدس ديني ومبادئ تربوية، ولا يعترف به في إطار المجتمع على أنه عنف، بل تعود عليه الناس، وقبلوا
به ما داموا خاضعين لمجموعة من الحتميات والجبريات المجتمعية التي تتحكم فيهم، ويعملون على تكريسها في واقع حياتهم”. ومن ثم، لايلاحظ لدى الناس أي رفض، أو مقاومة لهذا العنف الرمزي، بل يعتبرونه فعلاً اعتيادياً، على الرغم من خطورته وآثاره النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية.
وفي إطار تشخيص صور العنف الرمزي من تفاصيل الحياة اليومية، “هناك قدر من الإنكار في التعرف على العنف الذي يمارس على المرء مع عدم الاعتراف به كعنف فانطلاقا من كوننا نولد في عالم اجتماعي، فإننا نتقبل عددا من البديهيات والمسلمات التي تفرض نفسها علينا بتلقائية وسهولة، ولا تكاد تتطلب تلقينا”. ويمكن تلمس الكثير من ممارسات العنف الرمزي في المنزل، في العمل، في المدرسة، في الإعلام، في العبادات والطقوس والشعائر الدينية. انها متواجدة في أشكال سلوك الهيمنة التي يمارسها أصحاب النفوذ على أتباعهم بصورة مقنعّة وخادعة من خلال فرض رؤيتهم وقناعاتهم ومرجعياتهم الفكرية والأخلاقية على أتباعهم، او ممن يعملون معهم، وبشكل يظهرهم بموقف المتمكن والقادر والمتميز والمقدس، مقابل تكريس مشاعر وقناعات الدونية والنقص والافتقار الى الجدارة والخطأ الممكن والمتوقع عند الآخرين.
ان الكثير من السلوكات التي تروج لتقبل هيبة الآخر وخصوصيته تؤسس نفسها من خلال هيمنة عنف رمزي مقبول اجتماعياً وثقافياً ودينياً، تم تشربه عبر انماط التنشئة الاجتماعية، وهي سلوكات تنضوي في جوهرها على عمليات تطبيع الآخر على الشعور بالضعة وضعف الإحساس بفاعلية الذات Self- efficacy،وتدني مستوى العزم الذاتي Self- determination، وبناء توقعات شخصية ترسخ الضبط الخارجي External Control توقعات تقوم على فكرة عدم القدرة على التحكم في مجريات الحياة وان ما يحدث للفرد هو نتيجة الحظ او الصدفة او القدر او كنتيجة لتأثير الآخرين الأقوياء من ذوي النفوذ، او كأمر لايمكن التنبؤ به لتعقد العوامل المرتبطة به. وقد تصل نتائج العنف الرمزي الى برمجة الآخر لازدراء نفسه، وتكوين مفهوم ذات متدنٍ، وفقدان القيمة الإنسانية ورسوخ مشاعر عدم الكفاءة. وهكذا يمكن لعناصر العنف الرمزي ان تتجلى في عوامل تشكيل( بنية مركبة) تتضمن مفهوم الفرد عن ذاته وهويته الفردية والاجتماعية ورؤيته للآخر، تلك المفاهيم كما أوضحنا تؤسس لها ثقافة المجتمع وأساليبه التربوية وموروثه الاجتماعي والديني. فخصوصية الاسم، على سبيل المثال تتضمن تحديد للنوع، او الانتماء لشريحة اجتماعية او طائفة دينية، وكذلك قد يشير الى معانٍ او أفعال مستمدة من الموروث ومستقرة في العقل الجمعي، الكثير من تلك التسميات تصنف كنوع من العنف الرمزي المغلف بدلالة الاسم بالنسبة لأسرته أو مجتمعه او مجتمع آخر. وهذه الرؤية تنطبق على الكثير من التسميات والتصنيفات الطبقية المتراكمة في
المجتمع والتي تأخذ أبعاداً اقتصادية وثقافية وإيديولوجية ودينية وهي تصنيفات متعارف عليها في سياقات الحياة اليومية، مثل: بلدان عالم متطور، طبقة غنية، أحياء غنية، أغلبية، نخبة علمية او سياسية، متميزين، قادة، سادة، شيوخ، مراجع، خطوط حمراء، تلك المراتب تؤسس للنظرة الاستعلائية، مقابل نظرة دونية لمراتب اجتماعية أخرى تؤسس لمشاعر سلبية تؤثر في قيمة الفرد وكرامته وتجرح هويته الإنسانية مثل : عالم ثالث، أغلبية أقلية، فقراء، تابع، مقلد، أحياء فقيرة، أحياء متجاوزة، معوق، مهجر، نازح، تلك التسميات والمنظومات الطبقية تعكس بشكل او بآخر عنفاً رمزياً يسري في كل لحظات الوقت ويدخل في تفاصيل الحياة اليومية، ويؤثر حتى في طبيعة تعامل الدولة والمؤسسات مع الأفراد، بل وحتى مع شكل التخطيط العمراني والخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة.
وفي مجال ترسيخ وصناعة أدوات العنف الرمزي، يتم التركيز على التلفزيون والصحافة ومنظمات المجتمع المدني المرتبطة بمصادر القوة ووسائط التواصل الأخرى، بوصفها أدوات إعلامية خطيرة تمارس العنف ضد المواطنين، إذ تقدم لهم ما تشتهيه السلطة المهيمنة التي تستغل تلك الوسائل لتحقيق مصالحها وأهدافها وأرباحها. حيث يتم التلاعب بعقول الناس، وينشر بينهم إيديولوجية السلطة المهيمنة، وأفكار الطبقة المتنفذه.
وفي مجال التربية والتعليم وطبقاً لبورديو تتضمن الأنشطة التربوية القائمة على تلقين المعلومات، موضوعياً نوعاً من العنف الرمزي، وذلك بوصفها فرضاً من قبل جهة عليا تسعى لتوطيد هيمنة رؤى الطبقة المسيطرة، وإعادة إنتاج موروث العنف الرمزي الاجتماعي الذي يرسخ الطبقية والتبعية للكثير من الآراء، الإيديولوجية والتاريخية والدينية، فضلاً عن سيادة علاقات القوة والسيطرة ومفهوم النخبة في المؤسسة التربوية الذي يقمع الكثير من المواهب، ويحدد من فضاءات الإبداع، كما ان التفاوتات بين مستويات المدارس منظور اليها بوصفها تفاوتات في الاستحقاق تضفى الشرعية على التفاوتات الاجتماعية، وفي الوقت ذاته تضفي التفاوتات الطبقية الاجتماعية الشرعية على اختلاف مستويات المدارس. فأبناء الطبقات العليا هم الذين يحتلون المدارس ذات النوعية الرفيعة (في التعامل ومستوى التعليم)، وعلى ذلك فالتنوع في المدارس واختلاف مستوياتها، واختلاف الفرص في الدخول اليها، إنما يعكس صور التفاوت الطبقي، ويجسد بشكل واضح أحد أهم مظاهر العنف الثقافي في المجتمعات الحديثة. وعند دراستنا للحقل المدرسي، نلاحظ التعسف واضحاً تشرعه القوانين والتقاليد المدرسية التي تشتمل في مكوناتها الظاهرة على عدالة مصدرها تكافؤ الفرص وخضوع الجميع للقانون. وعليه فالسلطة المدرسية تتسلم في واقع الأمر تفويضا من الطبقات المهيمنة لفرض التعسف الثقافي، فعن طريق هذا التفويض يتم تمرير العنف الرمزي بلطف. مثلاً مع
تمايز مستويات المدارس وفرص الطلبة في الانتساب إليها، لاعتبارات اقتصادية وطبقية اجتماعية يخضع الطلبة لامتحانات مركزية موحدة في بعض المراحل الدراسية، ونتيجة طبيعية ان تكون فرصة شريحة معينة من الطلبة في النجاح وتحصيل قدر اكبر من الدرجات أكثر من فرصة الطلبة في شرائح اجتماعية اخرى هذه النتائج تنطوي على عنف رمزي مشروع يعيشه الجميع دون ان يدركوا خطورته. وهكذا تحولت المؤسسة التربوية الى منظومة “تراتبية طبقية، تنعدم فيها العدالة الاجتماعية الحقيقية، وتغيب فيها المساواة على مستوى الفرص والحظوظ، حيث يكون الفشل والإخفاق مآل أبناء الطبقات الشعبية. في حين، يكون النجاح حليف أبناء الطبقات الغنية وأبناء الطبقة الحاكمة. أي أصبحت مدرسة فارقية بامتياز، أو مدرسة للانتقاء والاصطفاء الطبقي والتميز الاجتماعي، وهي بذلك تكرس إعادة انتاج العنف الرمزي، والمحافظة على الوضع القائم الذي أنتجها.
وتتجلى صور العنف الرمزي من خلال ما يعرف بالهيمنة الذكورية، يرى بورديو ان هذه الهيمنة تمثل شكلاً أنموذجياً للعنف الرمزي لانه غير مرئي ويبدو كأنه جزء عادي من طبيعة التعاملات اليومية، حتى المرأة لاتشعر بأنماط العنف الرمزي الذي وضعها في مرتبة أدنى من الرجل، وتتجلى تلك الهيمنة في صور مختلفة منها تحديد عمل المرأة في وظائف معينة، ورسم المزيد من الحدود أمام حركتها واختلاطها في المجتمع، وحتى طبيعة ملابسها ومشيتها وطعامها وحركاتها، فضلاً عن تبعيتها القانونية والاجتماعية والدينية للرجل بوصفه يحتل المكانة الأعلى، إن النساء بصفتهن ضحايا للعنف الرمزي يقبلن علاقات تراتبية النوع بطريقة تلقائية، بفعل عوامل التنشئة الاجتماعية والتنميط الجنسي،
كما تفيد الملاحظات الميدانية ان العنف الرمزي يتنامى وتتعاظم مشروعيته في المجتمعات التي تتألف من طبقات اجتماعية وأعراق وديانات ومذاهب مختلفة وبخاصة في المراحل الانتقالية الناتجة عن المتغيرات الاقتصادية والسياسية، حيث تستقطب صور العنف الرمزي وتتمترس بقوة مزدوجة (داخلية وخارجية) باتجاه العرق او الدين والمذهب. مثلاً الأقليات التي تتعرض لضروب من التهميش والقهر والاستبعاد بفعل تسلط الأغلبية سيدفعها الأمر الى الانغلاق حول نفسها للحفاظ على مكونات هويتها التي تتعرض للضغط، وهذا ينتج عنه فرض المزيد من صور العنف الرمزي النابعة من الأقلية ذاتها على أفرادها والمنتمين اليها بهدف ترسيخ أفكارها وموروثها، مقابل المزيد من صور العنف الرمزي التي تمارسها الأغلبية، وهكذا يشترك الضحايا والجلادين في إنتاج المزيد من صور العنف الرمزي.