العنف أفيون العلمانية

العنف أفيون العلمانية

العنف ليس أداة تُستخدم عند الحاجة، بل جوهر متجذر، في كلحركات التوسّع والسيطرة، حتى غدا أفيوناً يتعاطى لتبرير كل مجزرة،وتطهير كل جريمة، وأكثر من استعمله العلمانيون تحت مسمىالتمدينوالحداثة“.

حين نفتح السجل الأوروبي في أستراليا، نصطدم بمشهد فاجع لايقبل التجميل، فالأرض هناك لم تكن فارغة كما صورها المستعمر، بلكانت عامرة بشعوب أصلية نسجت حضارة روحية وثقافية، ممتدةلآلاف السنين، غير أن الأوروبي حين جاء كان محملا ببندقية وبمرضوبأحكام مسبقة، فحوّل تلك الأرض إلى مختبر دموي، عشرات الآلافمنالأبورجينقُتلوا في ما عُرف بـحروب الحدود” ..

فيما زُج بالآخرين في هوامش النسيان، وسُرقت أراضيهم، وصودرتحياتهم، الأطفال كانوا الهدف الأسمى، خُطفوا من عائلاتهم، ووضِعوافي مؤسسات تغسل أدمغتهم، ليصبحوا نسخ مشوّهة من ثقافة بيضاءلم ترَ فيهم إلا مشروعا لمحوٍ بطيء، إنها الإبادة ولكن بوجهٍمتحضر“.

إذا عبرنا المحيط إلى القارة الأمريكية، نجد مأساة أكبر حجما وأشدقسوة، هنا جرى تحويل قارة بكاملها إلى مسرح للدماء، وجرىتسويقها لاحقا كـأرض الفرصملايين السكان الأصليون أُبيدوابالرصاص أو حُكم عليهم بالموت جوعا ومرضا، ودرب الدموعالذيسار فيه عشرات الآلاف من الهنود الحمر، لم يكن مجرد طريق تهجيرقسري، بل كان طقسا من طقوس الفناء الجماعي، حيث مات الآباءوالأمهات والأطفال على الطرقات، ليبقى العنوان الوحيد: إخلاء الأرضلأصحاب البشرة البيضاء..

حتى الناجون لم يُتركوا في سلام، فقد لحقت بهم مدارس داخليةتمارس عنفا ثقافيا، تنتزع اللغة من أفواههم، والعقيدة من قلوبهم،والهوية من أعماقهم، لقد أراد الغرب أن يُحوّل إنسانا حرا إلى كائنبلا ملامح، بلا ذاكرة، لينشروا بعدها ما يعرف اليوم بالحلم الأمريكي..

أما في غرينلاند، فإن العنف اتخذ شكلا أكثر دهاء وأشد سوداوية،فلم يعد الاستعمار بحاجة إلى البندقية، فالعلمانية التي تُقدّس الجسدحولت جسم المرأة لساحة حرب صامتة، هناك في منتصف القرنالعشرين، قامت الحكومة الدنماركية، بزرع اللولب لآلاف الفتياتوالنساء من السكان الأصليين دون علمهن أو موافقتهن، تحت شعارتنظيم النسلأي وقاحة أعظم من أن تُختزل المرأة إلى مجرد رحم،يجب ضبط إنتاجه ليتلاءم مع خطط الدولة؟ إنها إبادة جديدة، لكنبوسائل طبية هذه المرة، لم يكن الهدف علاجا ولا رعاية، بل كان جرحامغروسا في صميم الجسم، يعلن أن جسد المرأة الأصلية ليس ملكالها، بل هو مجال مباح لسلطة المستعمر.

بعد كل هذه المآسي، يقف الغرب متزيّنا بشعاراتحقوق الإنسانوالحريةموجّها سهامه نحو الإسلام والعرب، متهما إياهم بأنهميضطهدون المرأة ويقيدون حريتها، أي مفارقة أشد سخرية من هذه؟

الإسلام الذي أخرج المرأة من كونها سلعة أو أداة، ليجعلها شريكةحياة وأمّا يُبنى عليها المجتمع، يُتهم اليوم بالرجعية والظلامية، أماالغرب الذي حول المرأة إلى سلعة في الإعلانات، وأداة للمتعة فيالأسواق، وموضوع تجارب في المستشفيات، فهو يقدّم نفسه باعتبارهحامي كرامتها!

منذ القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا، لم تُنتج الليبرالية والعلمانيةسوى وجوه متعددة للعنف: إبادة هنا، تهجير هناك، اغتصاب صامتلحقوق الشعوب والأفراد، وكل ذلك جرى تسويغه بشعارات براقة عنالحرية والعقلانية والمصلحة العامة، إنها براغماتية مشبعة بالدماء،تقتات على الآخرين كي تخلّد نفسها.

يبقى السؤال الذي يطرق أبواب الضمير: اذا كان ذلك هو وجه الحريةلدى العلمانية، فكيف يكون وجه العبودية عندهم؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات