قد يكون، أو لا يكون، الهجوم الصاروخي الأميركي الذي وقع الأسبوع الماضي على إحدى القواعد العسكرية الجوية التي يستخدمها سلاح الجو السوري التابع للرئيس بشار الأسد، نقطة تحول حاسمة بقدر ما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة. وعلى الرغم من ذلك، فلقد أعاد الهجوم الأميركي القضية الشائكة المتعلقة بمستقبل بشار الأسد مرة أخرى إلى جدول الأعمال الدبلوماسية الأميركية.
ومع توجيه الضربة الصاروخية ضد القاعدة الجوية الحكومية السورية في أعقاب الهجوم الكيماوي الذي شنته قوات الأسد على محافظة إدلب، توجه الرئيس دونالد ترمب إلى إنفاذ «الخط الأحمر» الذي أعلنه، ثم تراجع عنه، من قبل الرئيس السابق باراك أوباما.
فهل سيحاول الرئيس ترمب أيضاً إنفاذ المواقف الأخرى المعلنة التي تراجع عنها الرئيس الأميركي السابق: والتي تفيد بأنه لا وجود لبشار الأسد في مستقبل سوريا؟
أطلق الرئيس أوباما شعار «لا بد من رحيل الأسد» في عام 2012، الذي كان بمثابة الأنباء السارة لدى الخبراء في وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، والذين اعتقدوا أنه ما لم يرحل الديكتاتور السوري، لن تهدأ الأوضاع في سوريا على الإطلاق.
وبحلول عام 2013. برغم كل شيء، أعاد الرئيس أوباما صياغة شعاره السابق لكي يكون «لا بد أن يُنحى الأسد جانباً». وعقدت جولة المحادثات السرية الثانية حول صيغة تفيد ببقاء بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا، ولكن مع تسليم السلطات إلى أحد نوابه الذين يترأسون مجلساً للوزراء من التكنوقراط المكلفين التحضير لصياغة دستور جديد للبلاد، ثم تليه الانتخابات العامة.
ومع ذلك، وبحلول عام 2015، تناسى الرئيس أوباما كل ذلك، وتقبل وجود الأسد بشكل جيد في مستقبل غير محدد لبقائه على رأس السلطة في البلاد.
وإحدى الحقائق التي ظلت غامضة تفيد بأن المأساة السورية هي، وفي جزء كبير منها، نتيجة لقرار الأسد، انطلاقاً من نزعة انتهازية أو جبانة، باعتماد أكثر المواقف راديكالية داخل النظام البعثي الحاكم.
وفيما بين عامي 2011 و2015، حاول العشرات من المسؤولين السوريين، وبعض منهم ظل في خدمة الرئيس حافظ الأسد والد الرئيس الحالي لعقود طويلة، وضع صيغة تساعد جميع أطراف الحرب الأهلية على الوصول إلى حل توافقي. أما بشار الأسد، الذي يستند إلى جيشه ونظامه الحاكم، رفض أن يتزحزح قيد أنملة؛ مما ساعد على استمرار المذابح والفواجع على أرضه. وتلاشت ذكرى الكثير من هؤلاء المسؤولين في هدوء غريب، أو تمكن بعضهم من الفرار إلى المنفى في الخارج. وظل بشار الأسد في مركزه في صميم زمرة الدم التي يدعمها ملالي طهران، ومنذ عام 2014 فصاعداً: «الدب الكبير» في الكرملين.
واليوم، ومن ناحية القوة الفعلية، أصبح موقف بشار الأسد غير ذي صلة بالواقع إلى حد كبير، فهو ليس أكثر من مجرد قناع للشرعية الزائفة التي يستغلها الروس إلى جانب ملالي طهران في مخططاتهم المشتركة، وإن كانت في بعض الأحيان متناقضة، بشأن سوريا.
ومع استبعاد روسيا وإيران، فإن البعض، وبما في ذلك المشتبه فيهم المعتادون في الحركات المعادية للغرب، لا يزالون يستخدمون تيمة بشار الأسد في إرباك الرأي العام فيما يتعلق بالمأساة السورية.
وبعض من دعاة النزعة السياسية البراغماتية، على سبيل المثال، جوليان لويس، الذي يرأس لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني، الذي بدأ بمقدمة حول الشرور الكامنة في شخصية بشار الأسد، لكنه أنهى حديثه في نهاية المطاف بقوله: إنه ينبغي علينا العمل معه رغم كل شيء.
وحيث إن «الأعمال» التي يقوم بها بشار الأسد تتعلق في المقام الأول بقتل الناس، يجب على السيد لويس أن يخبرنا عن الطريقة التي يمكن بها لبريطانيا المساعدة في هذا المجال!
يقول لويس إنه أثناء الحرب العالمية الثانية تمكنت بريطانيا من تشكيل تحالف مع الديكتاتور السوفياتي ستالين لمواجهة هتلر، وتناست تماماً السجل الدموي الحافل للطاغية السوفياتي الراحل.
ومع ذلك، نسي العضو البارز في البرلمان البريطاني أن جوزيف ستالين كان قد أبرم تحالفاً مع هتلر ذاته، تحت اسم «حلف مولوتوف – ريبينتروب»، ولم يتحرك إلى الحرب إلا بعدما خرق هتلر المعاهدة وهاجمت ألمانيا الاتحاد السوفياتي. وعندما حدث هذا، كان ستالين هو من توسل إلى بريطانيا، وفي وقت لاحق الولايات المتحدة، لمساعدته في وقف الطاغية النازي وحربه على أراضيه.
سيطر جوزيف ستالين على مساحات شاسعة من الأراضي، وحكم عشرات الملايين من الشبان الذين استغلهم وقوداً في حربه الحارقة.
ولا يملك بشار الأسد من ذلك من شيء. فهو يسيطر بالكاد على ما يقرب من 15 في المائة من الأراضي السورية، ولقد أعلن على الملأ أنه يفتقر إلى الموارد البشرية الكافية لتوسيع حكمه وسلطانه. ومن دون القوة العسكرية المقدرة بنحو 60 ألف مقاتل من مرتزقة لبنان، وأفغانستان، وباكستان، وغيرهم من المرتزقة الذين يحركهم الملالي في طهران، لم يكن للأسد أن يتمكن حتى من الدفاع عن قصره الرئاسي في دمشق. وفي غياب القوات الجوية الروسية التي مسحت معالم حلب، وغيرها من المدن السورية، من على الأرض، لم يكن لحليف السيد لويس المفترض أن يستطيع رفع علمه على أي مكان هناك.
والأهم من ذلك، ربما، أن بشار الأسد يقاتل السواد الأعظم من أبناء شعبه السوري الذين لا يمكن تشبيههم بالنازيين على أي حال.
فأي مصلحة تتوقعها بريطانيا أو أي دولة ديمقراطية أخرى من وراء استمرار المذابح والفظائع المروعة في سوريا؟
ومن ناحية السياسة الواقعية، فإن بشار الأسد هو من الشخصيات عديمة الفائدة، وفي كل يوم يمر نراه يتقلص كثيراً عن ذي قبل منزوياً إلى زاوية عدم الاعتبار.
ومن الحجج الأخرى المستعملة في خدمة صيغة «وجوب العمل مع الأسد» هي تلك التي يروّج لها فرنسوا فيون، المرشح اليميني المحاصر في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة؛ إذ يقول: إنه ينبغي على الغرب العمل مع الأسد؛ نظراً لأنه يمثل الحكومة الشرعية في سوريا.
ولكن كيف حاز بشار الأسد شرعية حكمه للبلاد؟ لم تُعقد أي انتخابات حقيقية في سوريا، ولقد تم، بكل بساطة، الإعلان عن تولي بشار الأسد مهام رئاسة البلاد بعد وفاة والده في انتهاك صريح وواضح للدستور السوري.
ورغم ذلك، وحتى مع عدم الشك في شرعية حكومة بشار الأسد، فليس هناك من سبب وجيه يدعو الشرعية إلى منح أي رئيس اليد الطولى في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ولا سيما ضد أبناء شعبه. وبعد كل شيء، فلقد كانت حكومة أدولف هتلر شرعية بموجب فوزه في الانتخابات العامة التي أجريت وقتذاك.
ويروّج بوتين لحجة أخرى في هذا السياق مفادها: أن بشار الأسد يحارب الإرهابيين ويستحق الدعم والإسناد في ذلك. ورغم هذا الطرح، بات من الواضح وبجلاء أن قوات بشار الأسد، ومن يدعمهم من القوات الروسية والإيرانية، لم تتخذ أي إجراء ذي بال ضد تنظيم داعش الإرهابي، ولا يزال التنظيم الإرهابي يسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي السورية. ومن البديهي القول وفقاً لذلك الطرح إن 80 في المائة من السوريين الذين يعارضون بشار الأسد هم من الإرهابيين. والملايين من اللاجئين والنازحين، وأغلبهم من النساء والأطفال والعجائز، هم من البشر العاديين الذين يرغبون في لمحة من لمحات الحرية والأمن لكي يعيشوا حياتهم بصورة طبيعية. ولقد تعمد الأسد و«داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية الأصغر حجماً حرمان الشعب السوري من هذه الحقوق البسيطة.
والحقيقة مفادها أنه ليس للأسد من مكان في سوريا.
حتى لو تسلّم بشار الأسد سوريا بالكامل على طبق من ذهب، فليس لديه ما يكفيه من المؤيدين والأنصار لضبط الأمن والنظام وإعادة الحد الأدنى من الحكومة إلى سابق عهدها. وفي حقيقة الأمر، لقد ماتت سوريا بالفعل من واقع أنها دولة. ولا بد من إنشاء دولة سورية جديدة. وليس بمقدور الأسد ولا «داعش» ولا عشرات الجماعات المسلحة التي تقاتل الأسد أن تتولى هذه المسؤولية الهائلة بمفردها. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من شأن رحيل الأسد أن يتيح المجال لكل السوريين، بمن في ذلك الأقلية التي تناصر بشار الأسد، أن يجتمعوا معاً بغية تحمّل هذه المسؤولية الرهيبة.
ومن الناحية الأخلاقية والسياسية البراغماتية؛ «لا بد من رحيل الأسد»، وهي الصيغة المعقولة الوحيدة والجديرة بالاعتبار لوضع حد نهائي للمأساة السورية المستمرة.
* نقلاً عن “الشرق الأوسط”