23 ديسمبر، 2024 12:52 ص

العملية العسكرية الروسية الخاصة تنهي مهامها

العملية العسكرية الروسية الخاصة تنهي مهامها

مع اقتراب الشتاء، وزيادة حدة أزمة الطاقة في أوروبا، تزداد حدة الحرب الإعلامية ضد روسيا، وهو ما يأتي بالتزامن مع “انتصار” مؤقت للقوات المسلحة الأوكرانية، ليس بسبب التهور الشديد، والدفع بأعداد ضخمة، وخسارة بشرية كبيرة من بين صفوف الجيش الأوكراني، على محور مناطق خاركوف في الشمال الأوكراني، فحسب، إنما وبطبيعة الحال بسبب ما تتلقاه أوكرانيا من معدات وأسلحة وذخيرة من دول “الناتو”، وبسبب التنسيق مع الأقمار الصناعية الغربية العسكرية والمدنية على حد سواء، والأهم من ذلك، بسبب الانسحاب التكتيكي للقوات المسلحة الروسية، وإعادة تموضعها، لتعزيز القوات في الجنوب والشرق، والسيطرة الكاملة على مناطق كاملة، حيث تعتزم خلال أيام معدودة، تلبية نداء الإرادة الشعبية لسكان المناطق، التي يجري فيها الاستفتاء حاليا: جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وخيرسون، وزابوروجيه، الواقعة تحت سيطرة قوات التحالف، وهو ما يمثل تقريبا حوالي خمس مساحة أوكرانيا “سابقاً”.

وبينما تخطط روسيا لما ينتظرها من مستقبل، استنادا لرغبة سكان هذه المناطق، والذين تقدر أعدادهم بحوالي 5 مليون نسمة، وهو ما يعني بالتالي أياد عاملة، وموارد، وخدمات، أعلنت موسكو تعبئة جزئية على لسان القائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية، الرئيس فلاديمير بوتين، والتي ترجمها وزير الدفاع، سيرغي شويغو، إلى عدد من جنود وضباط الاحتياط يصل إلى 300 ألف، وهو ما تحتاجه الجبهة والمناطق الجديدة لتأمين احتياجاتها وأمنها واستقرارها.

وذلك أولاً لا يتفق مع ما يدعي الغرب من “هزيمة” لروسيا، الماضية قدماً في تحقيق أهدافها الاستراتيجية من عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وثانياً، فلم يكن لتلك الاستفتاءات والإجراءات أن تتم من دون استقرار على الجبهة، وقدرة على الحفاظ عليها، حتى مع الانسحاب التكتيكي من مناطق خاركوف في الشمال.

لكن الغرب الذي يواجه شعوبه الغاضبة من صورة لرئيسة وزراء إستونيا، بينما نلمح في الخلفية مدفأة بالكهرباء، وهي تدعو مواطنيها للاكتفاء بدرجة +17 مئوية داخل المنازل، وارتداء مزيد من الملابس، نظرا لأزمة الطاقة المرتقبة في أوروبا، يعلم أن الشعوب تتساءل، وسوف تدفع بمزيد من التساؤلات بعد إغلاق المصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة، وتحولها من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب ارتفاع أسعار الغاز، في ضربة موجعة للاقتصاد الأوروبي، وبعد أن تبدأ درجات الحرارة في الانخفاض تحت درجة الصفر، بينما يقف الشعب الألماني أمام زر إطلاق خط أنابيب “السيل الشمالي-2″، الذي يمكن أن يحل جميع مشكلات أوروبا، دون أن يستطيع أن يضغط عليه، بسبب أن واشنطن لا ترغب في ذلك.

تفتقر أوروبا إلى الإرادة السياسية، وتتحول تدريجيا إلى تابع ذليل للولايات المتحدة الأمريكية، التي تدرك أن سيطرتها على النخب السياسية الأوروبية ليست مضمونة، أو آمنة، أو مستدامة. وهي تعلم كذلك أن أحدا من دول الاتحاد الأوروبي غير محصن من مصير “بريكست”، الذي يمكن أن يكون قطعة الدومينو الأولى، مع تدهور الأزمة الأوروبية.

لهذا السبب تسرع أوروبا، وتعمل بكل طاقتها لإطلاق أكبر كم ممكن من الشائعات المرتبطة بالانسحاب التكتيكي للجيش الروسي من مناطق خاركوف، والمرتبطة بالتعبئة الجزئية، وما يميّز تلك الشائعات والأكاذيب المفضوحة، وهو سألقي عليه الضوء الآن، هو تشابهها على نحو لا يمكن معه أن تكون أخبارا حقيقية صادرة عن مصادر للمعلومات، وإنما هي ببساطة دعاية وتعليمات واضحة من أجهزة الاستخبارات الغربية، ومراكز صنع القرار، بعد أن نجحت روسيا أولاً في تدمير البنى التحتية التي عكف على بنائها “الناتو” خلال السنوات الماضية، وثانياً إفشال مخطط الغرب بافتعال ثورة ملونة من خلال المعارضة الروسية، التي تركت مواقعها في داخل روسيا بسرعة، وأنشأت، بمساعدة الأجهزة التي تعمل لديها في الغرب، مواقعها في الغرب، وبدأت في بث سمومها من هناك. وذلك بالتزامن مع حجب جميع المواقع الروسية الرسمية، وجميع وكالات الأنباء التي يمكن أن تنقل الحقيقة من مصادرها الروسية الرسمية، أو أي وجهة نظر أخرى سوى وجهة النظر الغربية. لتصبح مواقع التواصل الاجتماعي: “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” مجرد منصات إعلامية دعائية للغرب، لا تنقل سوى وجهة النظر الغربية فقط.

أقول إن التشابه بين ما أصبحت تنقله هذه البؤر الإعلامية، التي تشن حربا إعلامية ضروس ضد روسيا، مع اقتراب نجاح العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، يؤكد على الطبيعة المنهجية، التي تسلكها تلك الوسائل، ناهيك عما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال بث الشائعات في المجتمع الروسي، الذي تسربت إليه بعض منها، وبدأنا نرى فعليا تأثير ذلك في بعض المدن الروسية.

تتعمد أبواق الإعلام الغربية عدم إضافة كلمة “الجزئية” إلى كلمة “التعبئة”، لتبدو التعبئة التي أعلن عنها الرئيس بوتين، وكأنها “تعبئة عامة” وليس “تعبئة جزئية”، وكما أسلفت في المقال الماضي، نقلا عن وزير الدفاع الروسي، فإن التعبئة العامة يمكن أن توفر لروسيا زهاء 25 مليون فرد عسكري. أما التعبئة الجزئية التي تم الإعلان عنها تحتاج إلى 300 الف فرد عسكري فقط، بواقع 1% من الاحتياطي المتاح للقوات المسلحة الروسية، وهو ما تحتاجه المناطق الجديدة، وفقا لنتائج الاستفتاء المعبرة عن إرادة شعوبها، لضمان أمنهم وسلامتهم، وسيادة الدولة على أراضيها. أما التعبئة العامة، فهي إجراء يمكن اللجوء إليه إذا ما تعرضت روسيا لخطر يهدد سلامة الدولة وأمن مواطنيها ووجودها.

يتردد كذلك في جميع وسائل الإعلام الغربية، وبين أوساط المعارضة الروسية الرقم “مليون”، فيقولون متعمدين مع سبق الإصرار، أن الجيش الروسي يحتاج إلى “مليون” فرد عسكري، وأن الرقم 300 ألف هو ما “تدعيه” وزارة الدفاع، وسوف يدفعون بهذا “المليون” إلى أتون الحرب، دون تدريب أو إعداد، كـ “علف للمدافع”، وأود الإشارة هنا إلى أن ذلك المصطلح “علف للمدافع” يتم استخدامه بكثرة وعلى نطاق واسع، في جميع البرامج الحوارية التي تعيد نشرها مواقع التواصل الاجتماعي.

كذلك يتحدثون عن طوابير هائلة وضخمة وطويلة على الحدود مع جورجيا وكازاخستان، وزحام في جميع المطارات الروسية، وغياب لتذاكر الطيران لعدد من الوجهات، بسبب هروب الشباب والرجال من روسيا “خوفا” من التجنيد. وهذا قد يكون ذلك صحيحا في حدود ما يحدث عادة، حيث يسعى الأهالي لتهريب أبنائهم من الخدمة العسكرية، وهو ما يحدث أحياناً في الأوضاع العادية بأساليب وحجج مختلفة ومختلقة، أما التركيز على هذه القضية الآن، فهو بغرض رسم صورة أن المجتمع الروسي لا يؤيد سياسة قيادة البلاد. وهو ما أوقع كثيرين تحت تأثير تلك الشائعات التي يطلقونها حول “المليون” و”التعبئة العامة” و”علف المدافع”. إلا أن ذلك بالقطع لا يندرج تحت بند “الظاهرة العامة” أو تحت بند الهستيريا الجماعية التي تطال “الشعب الروسي”، فالشعب الروسي هو شعب ضخم وعريق ومتعدد القوميات والأعراق والديانات يبلغ تعداده 140 مليون نسمة، من بينهم كثيرون، لا أظن أنهم أقل من النصف بأي حال من الأحوال، يؤيدون إجراءات الرئيس الروسي، وكثير منهم على استعداد للتضحية من أجل أمتهم ووطنهم، لذلك فتصوير العشرات، وربما المئات المتكدسين هنا أو هناك على الحدود أو في المطارات لا يمكن أن يرقى لأن يكون “نسبة” من الشعب الروسي.

ثم تأتي التظاهرات في الشارع، وهو ما افتقدته المعارضة منذ القبض على المعارض الروسي، أليكسي نافالني، حينما خرج اعتراضا على القبض عليه ألف أو ألفين، وانزوى نافالني، ومعه اختفت التظاهرات، وحوكم ويقضي عقوبته، كما يقضي العقوبة معه عدد من العاملين لحساب أجهزة الاستخبارات الغربية، والذين كانت واشنطن تعول عليهم في “الثورة الملونة” الروسية، بعد الثورة الملونة الأوكرانية التي نجحت في الانقلاب على السلطة الشرعية في البلاد، وبعد “الثورة” البيلاروسية التي فشلت، وتكشفت أسرارها وخفاياها وتمويلها ومخططها، الذي كان من المزمع أن يكون البروفة النهائية لما يمكن أن يحدث في روسيا. أقول إن التظاهرات التي خرجت إلى الشوارع الروسية تعبيرا عن غضبها من “التعبئة” التي وصفوها لهم بأنها “عامة”، ربما لم تكن موجهة بالأساس، إلا أنها تحولت إلى بيئة خصبة لعمل وسائل الإعلام الموجهة، التي مضت تقذف بالأرقام جزافاً حول أعداد المتظاهرين. وهو ما يكمل الصورة إلى جانب “التعبئة” و”المليون” و”علف المدافع” و”الطوابير أمام الحدود”، لتبدو روسيا، من وجهة النظر تلك، وكأنها بصدد توترات وقلق عام في عموم البلاد، وذلك كذب وافتراء.

ثم تأتي الإشاعة الخامسة بشأن “الأنباء المتواترة عن إغلاق الحدود”، لتخلق هستيريا أكثر وأكثر، حيث يقول هؤلاء أن “إغلاقاً وشيكاً” يمكن أن يتم تطبيقه في أي لحظة من اللحظات، وذلك في الوقت الذي لم تعلن فيه السلطات عن إغلاق تام، وأعلنت، على العكس من ذلك عن عدم وجود أي نية لإغلاق أي حدود أمام أي مواطن روسي.

لقد تم اختلاق ما يقرب من مليون و200 ألف خبر وإشاعة وفبركة صحفية خلال الأسابيع الثلاث الماضية، فيما يؤكد أن تلك الحرب الإعلامية الضروس تأتي رداً على الاستفتاءات التي سوف تخرج نتيجتها غداً، وتبدو نتائجها الأولية لصالح انضمام المناطق الجديدة إلى روسيا، وعودة المواطنين الروس إلى جذورهم وأرضهم وحضنهم الأم، حيث يتمكنون من التمتع بكافة حقوقهم في ظل دستور يكفل لهم أن يصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى.

لقد تمكنت تلك الحرب الإعلامية القذرة من التغلغل إلى الكثير من الفضائيات العربية، التي تتلقى معلوماتها حصراً من وسائل الإعلام الغربية، ولكن ماذا عسى المرء أن يقول، إذا كانت تلك الحرب قد تغلغلت نوعاً ما إلى داخل المجتمع الروسي نفسه في بعض المدن الكبرى؟!

على الرغم من كل هذا، فلا زالت هناك بعض الوسائل الإعلامية المحترمة، التي تحترم عقلية المشاهد/القارئ، وتقدم له الرأي والرأي المخالف له، وتعرض الحقائق كما هي دون زيادة أو نقصان.

إلا أنني أؤكد من جانبي، واستنادا إلى ما أصل إليه من بيانات موثقة من الجهات الروسية الرسمية، أن الجيش الروسي، ومن ورائه المجمع الصناعي العسكري الروسي، وفوقهم القيادة العسكرية والسياسية الروسية تسيطر على الوضع في أوكرانيا بالكامل، إلا أن ما يقلق حقيقة هو تورط “الناتو” في التنسيق والتمويل والإمداد بالمعدات والأسلحة والذخيرة، وهو ما يجعل الجيش الأوكراني، والتشكيلات القومية الأوكرانية المتطرفة، وأحيانا المدنيين الذين يتخذهم هؤلاء وأولئك دروعاً بشرية، “علفاً للمدافع” على حق. وهو ما يبطئ من عمل القوات المسلحة الروسية، التي تحاول قدر الإمكان تجنب الخسائر البشرية بين المدنيين، وحتى بين أبناء الشعب الأوكراني، ممن غرر بهم وأجبروا على القتال.

إن من بين الأهداف الاستراتيجية للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا هو إعلان فشل جميع المخططات الأمريكية الغربية العسكرية والاقتصادية ضد روسيا على مدار العقود الثلاثة الماضية. وأعلنها صراحة أن الأجهزة الأمنية المختصة بحماية الأمن القومي الروسي كانت ولا زالت تتابع بدقة كل الوسائل التي تلجأ إليها الأجهزة الغربية الخاصة للتغلغل في النظام البنكي والمالي والتجاري والاقتصادي الروسي، إضافة إلى الدور الكبير الذي لعبته المخابرات الغربية في تفشي الفساد على كل المستويات. وهو ما راقبته الأجهزة الروسية الخاصة مراقبة دقيقة، ولم تنقض على العملاء والوكلاء والجواسيس لسبب بسيط هو أن يزداد تورط تلك الدول أكثر فأكثر في مخططاتها ضد روسيا، حتى تنكشف الألاعيب، وتتعرى الخطط، وهو ما حدث.

لذلك، فإن يومي 27 و28 سبتمبر الجاري من عام 2022، سوف يشكلان حدثاً تاريخياً وحدوث تطورات، سيكون لها عميق الأثر على الوضع الدولي المتوتر وعلى النظام العالمي لما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب العالمية الثانية. ولم يتبق سوى إعلان خمس مساحة أوكرانيا جزءا لا يتجزأ من روسيا، وهي التي تنتمي تاريخيا إلى البلاد، ولا عزاء لمن لا يعرف تاريخ روسيا، ليصبح الاعتداء على أراضي روسيا هو اعتداء يستوجب الرد، وإعلان الحرب هذه المرة، وليس “عملية عسكرية خاصة”، استنادا إلى العقيدة العسكرية والدستور الروسي، حيث نعيد للأذهان أن روسيا اليوم ليست فقط دولة نووية عظمى، بل هي دولة مفصلية صانعة للتاريخ، وهي تؤكد على بدء مرحلة الانتقال الفعلي لنظام عالمي جديد متعدد القطبية، وتعلن نهاية الهيمنة الأمريكية ونظام الأحادية القطبية، مع إعلانها إنهاء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا وضد “الناتو”.

ولعل تأكيد المستشار الألماني، أولاف شولتس، يوم أمس الأحد، 25 سبتمبر، على عدم اعتزام برلين إمداد كييف بالدبابات، كونها “قد تمثل خطوة خطرة، تؤدي إلى مزيد من التصعيد في أوكرانيا”، بمثابة تراجع عن سكب المزيد من الزيت في النار، والإلقاء بالمزيد من المواطنين الأوكرانيين إلى التهلكة، لما يدركه الأوروبيون، من واقع الذاكرة التاريخية، من النتيجة الحتمية للحرب مع روسيا، وهي نصرها المؤزر، ولو بعد حين.

أعتقد كذلك أن المحادثات المباشرة “على مستوى رفيع” بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وما أكد عليه مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، من قدرة واشنطن على إجراء المحادثات، وإيصال الرسائل إلى روسيا، وتلقي الرسائل منها، تعبر عن رغبة على استحياء في حلحلة الأمور فيما يخص الأزمة الأوكرانية، التي تلقي بظلالها الآن على جميع القطاعات الصناعية والاقتصادية في جميع أنحاء العالم.