23 ديسمبر، 2024 8:16 م

العملية السياسية وانعكاساتها على الأحوال الشخصية

العملية السياسية وانعكاساتها على الأحوال الشخصية

كان واضحاً لأغلب المراقبين أن العملية السياسية التي تشكلت على أسس الطائفية السياسية أنّها ليست غير قادرة على معالجة مشكلات العراق فقط إنما ستفتح أبواباً لمشكلات أخرى أكثر استعصاءً على الحل. وفضلاً عن أنّها تسببت بكل ما نشهده اليوم من غياب الأمن وتفشي الفساد وانهيار القطاع الصناعي والزراعي، فإنّ هذه العملية السياسية أفضت إلى تراجع الهوية الوطنية لصالح الهويات الفرعية، كما انعكست على منظومة القيم المجتمعية والقوانين والأحوال الشخصية للمواطنين.
لقد جاء مقترح وزارة العدل لقانون الأحوال الشخصية الجعفري في ظروف أمنية بالغة التعقيد والخطورة قد تؤدي ـ إن لم تتم معالجتها والقضاء على مسبباتها ـ إلى تفكك البلاد وتفتيتها. ومن المؤكد أن الظرف السياسي والاجتماعي لا يتحمل مزيداً من الفرقة والانقسام إذ أن هذا الظرف به حاجة ماسة إلى كلّ ما يعزز الوحدة الوطنية والوئام المجتمعي وإزالة أسباب الفرقة والانقسام التي تسببت بهما عملية سياسية مشوهة لم تنظر إلا إلى مصالح كتل سياسية وأهملت مصلحة البلاد والمواطنين.
استندت وزارة العدل ـ الجهة المعدة للقانون ـ إلى المادة 41 من الدستور التي تنص على (أن العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم)، لكنّ الجهة التي اقترحت القانون افترضت مسبقاً أن جميع اتباع الفقه الجعفري موافقون على هذا القانون ويطالبون به، بينما نلاحظ من خلال ردود الأفعال السلبية أن بعض مراجع الفقه الجعفري اعترضوا على مقترح القانون فيما رأى بعضهم الآخر أن من شأن هذا المقترح تعميق الخلافات الطائفية في الظروف الراهنة. إذ أن لأغلب المذاهب الإسلامية الخمسة وجود في العراق ولكلّ مذهب منها مراجعه الفقهية والمؤمنين به، وسيؤدي هذا القانون لو تم إقراره إلى مطالبة هذه المذاهب بقوانين خاصة بها.
لاقى مشروع القانون هذا ردود فعل جماهيرية واسعة النطاق في أوساط المثقفين والسياسيين والأكاديميين والخبراء ومنظمات المجتمع المدني والمرأة لما له من آثار سلبية على المجتمع العراقي ويؤدي إلى انكفاء ثقافة الحرية ووعي ضرورتها عند قطاع كبير من المجتمع العراقي نساء ورجالا وهو أمر خطير وله نتائج وخيمة على مستقبل بلد يسوده العنف الاهوج وعدم الاستقرار والصراعات السياسية والاجتماعية، إضافة إلى أن هذا القانون سيشكل ـ في حال إقراره ـ عقبة أمام الزواج المختلط بين أتباع المذاهب الإسلامية المتعددة الذي تحتاجه البلاد في مثل هذه الظروف التي تنشط فيه الصراعات والاحتدامات الطائفية. وقد نصح به ودعا إليه الشيخ الدكتور أحمد الوائلي (رحمه الله) ووجد فيه حلاً للمشكلة الطائفية في العراق.
إنّ قانون الاحوال الشخصية النافذ يمسّ كلّ مواطن مهما كان وفي أيّ مكان ويجمع كل الآراء المتفق عليھا بين المذاھب الفقھية، ويتلاءم مع المجتمع العراقي، وراعى بعض التغييرات في المجتمع لصالح المرأة، مثل إعطائھا المھر المؤجل في حالة الوفاة أو الطلاق، فضلا عن تحقيق عادل في قيمة المھر المؤجل مقارنة بالوضع الاقتصادي الذي تتم فيه حالة الطلاق. كما تضمن هذا القانون المذاهب الأخرى أي أنّه قانون تضمن كل المذاهب وأخضع جميع المسلمين في العراق الى معايير موحدة من القوانين المتعلقة بالأسرة والزواج وخدم كل الطوائف العراقية بشكل قانوني ومدني، ولم يؤشر عليه منذ تاريخ صدوره عام 1959 أي تأثير سلبي اجتماعي أو ديني بخصوص الاحكام الواردة فيه وبذلك فإنّ ما يزعم المشروع تحقيقه من هذه الجهة لا أساس له.
 إن مشروع قانون للأحوال الشخصية (الجعفري) ومحاولة إلغاء أو تغيير القانون النافذ الذي يعدّ من القوانين المتطورة والمتقدمة في المنطقة، ليس إلاّ عودة بالمجتمع والمرأة والأسرة العراقية الى بداية القرن السابق، وسنّ قوانين تعسفية خارجة عن الدستور وطبيعة وواقع المجتمع، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد الى الوحدة والتكاتف بين أبناء المجتمع لدحر الهجمة الارهابية والتخلص من المحاصصة والتوجهات الطائفية ورفع شأن الوطن والمواطنة وبناء دولة القانون.