23 ديسمبر، 2024 5:41 ص

العمـــــــــــــود الأخـــير

العمـــــــــــــود الأخـــير

ويحك أيتها الإنسانية ظالمة كنت أم مظلومة،إن مادة حوادث التاريخ هم أولئك العظمــاء، فانك لتجد الرجل العظيم في أخلاقه العالية وسجاياه الكريمة وفي تأثير تلك السجايا والأخلاق علـــى الناس أشبه بالفتح التاريخي المبين وبالنصر الديني العزيز ويكون الإنسان رجلاً ولكنه تاريخ، وترى السياسي يبالغ في النفاق ويزعم انه يتكلم بلسان المستقبل، وينافق الأديب فيقول زخُرفأً من القول ومبالغة في البلاغة، ونفاق ذي السلطة تواضع، ومن الغني مال يجذب مال …. لتنطفي الشمس كلما رمدت عين إنسان وليسدل الليل ثانيةً كلمـــا أراد فاسق إن يتلصص في مشرق الضحى، ولينهمر الغيث كلما جفت لهاة من الظمأ فــــي الصحراء، وليكن كل نهار على ما تشاءه البلاد الرعناء .. فبين العامود رقم 1والعمود رقـــــم 1452تجد أجناساً وألـــــــــواناً ورايات شعوب العالم تسير صوب كربلاء كلها تهتف ( لبيك يا حسين..الحسين يوحدنا ).
***********
اتصلت بي زوجتي، أنها وصلت إلى العمود 1400 ولم يبق سوى اثنتان وخمسون عموداً حتى تصــــــل إلى كربلاء… قلت لها : مبارك عليك الوصول وأرجو أن تكوني بصحة تامـــــــة، وليس كما أنت بجواري تخلدين إلى النوم بعد أذان العشاء مباشرةً، ولا تؤدين واجباتك الزوجية المطلوبة كما ينبغي. قالت : وهي تضحك.. أنت شقي في كلامك وفي تصرفاتك، لذا لا أثق بك، أنت تسرح وتمرح بمفردك، وأنا بعيدة عنك، لكني أراقبك عن بعد بواسطة هذا الجهاز الذي أمسك…قالتها ثم أنقطع الصوت بسبب زحمة الاتصالات.
كان صديقي حلو صاحب الطلعة البهية ينتظرني في غرفة الاستقبال … قلــــــــــت: ستعود زوجتي مثقلة بالآلام بعــد يومين …. هكذا أخبرتني هي، فشعرت بأني لست سعيداً بدونها ولا حزيناً أيضاً، لأننا جميعا نعيش حزناً أبدياً يمتد أربعين يوماً تعلمناها مــــــذ نعومة أظفارنا، مثلما تعلمنا مسح زجــــــــــــــاج السيارات بالجرائد وإلقاء القناني الفارغة في الشوارع.
********
أحضرت أشيائي لأرحل .. صباح اليوم التالي من المقرر أن أسافـــــــر مع أحد زملائي إلـــى مدينة النجف لكي أواصل المسير كما فعلت زوجتي ورفيقاتها إلى مدينة كربلاء لأقطع ثمانين كيلو متراً سيراً على الأقدام، لكن زميلي خالف وعده وأقنعني بعد أن قــــــــال لي : الشوارع مكتظـــة بالزوار العراقيين والأجانب، ومن الصعب السفر في مثل تلك الظروف، ومن الممكن السفر بعد موعـــد الزيارة الأربعينية عند حلول مناسبة وفاة الرسول ألأكرم ( ص ) في الثامن والعشرين من شهر صفر.
اقتنعت بكلامه وغيرت البرنامج تاركاُ زوجتي مــــــــــــع زميلاتها تمشي، لعل الله يخفف وزنها ويجعلهـــــا رشيقة كالمرأة الإيرانية التي تهزها رياح الخريف دون أن تنكسر…
فكم من امرأة جميلة تراها أصفى من السماء ثم تثور يوماً!! فلا تدل ثورتهــــا على شيء إلا كما يدل المستنقع علـــــــــى أن الوحل فــــي قاعه، فاغضب المرأة تعرفها.
********
خلدت إلى النوم بعد رحلة طويلة مع مأتم شخصية لبعض الأصدقاء والأقارب فـــي ميســـــان وبغداد … ..أفقت من نومي أثر تيار هواء بارد، وحين فتحت عيني وجدت زوجتي واقفة في الغرفة، وفي يدها حقيبة يد سوداء مكتوب عليها ” يا حسين”وهــي تشعر بالإرهاق و التعب بعد مسيرة مارثــــون طويلة استغرقت أربعة أيام بلياليها .. لم تلبث أن نامت لعلها ترتاح قليلا .. عرفت بأن زوجتي قد استمتعت بالزيارة رغم أن الحزن يسكن المدينة والناس يذرفـــــــــون الدموع، واللافتات السود تتدلى مـــــن شرفات المنازل، وصور رجال قتلوا غدراً وبهتاناً ونساء سبايا مـــــع أطفال في عمر الزهور، عادوا من الشام إلى العراق ومعهم رؤوس لـــــرجالات الطف .. ليعيدوها إلى الأجساد الطاهرة في كربلاء.
********
سيدي : لسنا نبكي عليك أيها العزيز وإنما نبكي على أنفسنـــــا، فان ما هو أمامنا لا يمكن أن يكون دنيـــا غير دنيا يفتح لها تاريخ غير التاريخ , والحقيقة التي ضمتها ملايين المجلدات المحفوظة في مقبرة الغري في مدينة النجف الاشرف .