يومها، صبيا يافعا كنت.. وللتو دخلت المدرسة الابتدائية، التي افتتحت في القرية لأول مرة .. كان المرحوم والدي ، قد اعتاد أن يصطحبني بين الفينة والأخرى، من بيتنا، إلى أولاد العم في القرية المجاورة.
ذات مرة، وفي إحدى نيسانات تلك الأعوام الغابرة، اخذني معه إليهم مشيا على الأقدام..الطقس كان خلابا،والأرض مخضرة، وشقائق النعمان يفوح عطرها من كل صوب… كان الوالد سريع السعي في مشيه.. كنت أجرى خلفه على عجل، حتى اواكبه.. لكني كنت بالكاد ألحق به… وما أن تجاوزنا وادي الملح… وصرنا على مرمى حجر من بيت العمام.. حتى استقبلتنا العمة نجود في مشاع البيادر،بالترحاب، وبيدها طاسة من لبن الشجوة، ناولتها للوالد ليشرب منها ..ثم سارعت لتحضنني بذراعيها.. وبعد ان قبلت راسي حملتني على ظهرها إلى عتبة الدار .. مؤنبة الوالد على مشيه السريع وإرهاقي ..
 تكرر ترددي بعد ذلك إليهم.. كانت العمة نجود تحيطني بحنان عارم.. وتفضلني على ابنائها، أولاد عمي.. فتدنيني منها مجلساً عند تناولها القهوة في جاسر الدار .. وتلفني بودادها .. وتزيدني من الزبدة، واللحم، ما يفوق حصة اولادها.. وتعفيني من نوبتي في ركوب الجرجر.. واكتيال الماء على الحمار من الغدران.. ومن رعي الحملان.. عندما توكل المهمة لأحد أبناء عمي، ليقوم بها بدلاً مني، مراعاة منها لقلة خبرتي.. وضعف بدني ..وكانت تحرص أن تعقد اذيال دشداشتي باذيال ثوبها، كي لا تتكر حادثة سقوطي من دكة نوم العيال، وسط الأغنام صيفاً .. نتيجة كوابيس أحلامي المزعجة ليلاً..
أم رمزية لم تلدني.. لكن حبل المودة معها، كان مشيمة أم حقيقية منذ أن أقرت والدتي امومتها الصادقة لي دون تردد .. إنها العمة الأم.. نجود ..