23 ديسمبر، 2024 7:01 ص

العمارة اليمنية..ملتقى الفن والجمال والحب

العمارة اليمنية..ملتقى الفن والجمال والحب

لم يقتصر فن العمارة يوماً على مجرد تصميمٍ ذكي أو شكلٍ جميل، بل كان فناً يحمل معاني الحياة وقيمها النبيلة عبر لمسات مبدعيها الذين قدموا ثقافة أهلهم عبر الحضارات في شكلٍ مختلف للعيش ساهم في استقرار الإنسان ورفاهه ونقله من مرحلةٍ تاريخية إلى أخرى، وينفرد كل شعب بأسلوبه ونمط معيشته التي استوحاها من البيئة المحيطة به والعناصر التي تشكلها فتآلف معها وأصبح كل منهما مرآةً للآخر، وعند الحديث عن بلدٍ يمتلك حضارةً عريقة كاليمن تتبادر إلى الأذهان عمارته الإستثنائية بخصائصها وسحرها وأصالتها وهي ما سنلقي عليه الضوء في هذا المقال الذي سيتم تقسيمه إلى جزئين..

فللشعب اليمني طبيعةٌ تميل إلى حب الأرض والإستقرار ولذا كان وثيق الصلة بها ومخلصاً لها، وهو ما دفعه منذ آلاف السنين إلى بناء بيوته في شكلٍ من أشكال تتويج هذه المشاعر وترسيخها بدلاً من التنقل المستمر، وهو ما كان ينطبق على أغلبية أهل اليمن الذين شيدوا البيوت بشكلٍ أساسي من الحجارة والصخور والطين المجفف، واختلفت المواد المضافة إليها بحسب كل منطقة وما يتوفر فيها من مكونات صالحة للإستخدام في عملية البناء كالقش والخشب والرمل والحصى والطوب المحروق وطوب اللبن المجفف بالهواء، واهتموا ببنائها بشكل عمودي ليناسب طبيعة معيشتهم وخصوصية ثقافتهم المحافظة التي تتسم بالإنطوائية بعض الشيء فكانت النوافذ فيها تصنع من الزجاج والخشب، كما امتازت العمارة اليمنية بوجود المناور التي تكون على شكل هلال (قمرية) والمصنوعة من الزجاج الملون الشبيه بالفسيفساء والتي سنتحدث عنها لاحقاً، كما اهتموا أيضاً بتقنيات البناء وزخارفه التي كانت مستمدة من البيئة المحلية ثم تأثرت بالثقافة العربية الإسلامية التي أصبحت أساساً أضيف إليه نفحاتٌ متنوعة من دولٍ آسيوية وافريقية مختلفة انفتح عليها اليمن بحكم موقعه الاستراتيجي، والتي طبعت بصمتها على المعمار اليمني الذي يختلف طابعه من مدينةٍ لأخرى من حيث السعة وعدد الطوابق والنوافذ وشكلها وتصميمها والوظيفة التي ابتكرت لأجلها..

ففي بلدة (شبام) في وسط حضرموت على سبيل المثال تبنى الأبنية من الطوب المجفف بالهواء، وتمتاز بإرتفاعها حيث يتواجد فيها أبراج يصل طولها إلى ٢٠ مترًا ويتراوح عمر بعضها بين ١٠٠ و ٣٠٠ عام، وتطلى أغلب أسطحها وواجهاتها العلوية باللون الأبيض وبالجص الجيري لحماية الأبنية من المطر، وتشير العديد من الصور القديمة للعديد من المباني ونماذج المعمار اليمني إلى أن أبنيتهم كانت الأساس لفكرة ناطحات السحاب الموجودة اليوم، فبنوا قبل غيرهم الأبراج العالية والقصور الصحراوية بأساليب مبتكرة.. وبالمقابل نجد الكثير من التفاوت والتعدد في أنماط المعمار اليمني الثري من النقيض إلى النقيض حيث نجد المنازل في منطقة (شمال تهامة) عبارةً عن أكواخٍ من القش مستديرة ومستطيلة الشكل، لها بابان لكن لا وجود للنوافذ، كما تتكون الهياكل الداعمة لها من أعمدة خشبية، ويتم استخدام العشب الصلب كغلافٍ خارجي للكوخ في حين أن الجدران الداخلية مغطاة بالطين والسماد ومطلية بأشكال فنية..

وبشكلٍ تصاعدي نرى المنازل في مدينة (زبيد) مبنيةً من الطوب واللبن المحترق والمغطى بالجبس، وتمتاز بكونها منخفضة وتتكون في معظم الأحيان من طابقٍ واحد، وتحتوي الواجهة على بابٍ وحيد كمدخل ونافذتين مزينتين من الداخل والخارج بأفاريز وأسطح زخرفية وغالبًا ما تكون واجهات المنازل بيضاء اللون، أما في محافظة (صعدة) فنجد أن المنازل تتكون من ثلاثة إلى أربعة طوابق تبنى من عجينة الطين والطين والقش، كما نلحظ في الجزء العلوي من المبنى وجود نوافذ صغيرة للتهوية عدا عن امتياز أبنيتهم بالخرز والزخارف..

لكن منازل محافظة (صنعاء) تمتاز عن غيرها من المدن اليمنية بأنها كبيرة وتتكون من أربعة أو ستة طوابق، ويحتوي الطابق السفلي فيها على الدهليز، ويحيط ببهو المدخل الإسطبلات وغرف التخزين، وقد كان المناخ القاري للمدينة ذو الحرارة المرتفعة في الصيف والباردة نسبياً في الشتاء من اكبر العوامل في توجيه المباني نحو اتجاهاتٍ عمرانية متميزة طبقاً لإتجاهات الرياح ومسار الشمس طوال العام..

وتشترك مع تصميم المنازل في محافظة (إب) بإستخدامها للحجر الطبيعي المنحوت كما تتكون من أربعة طوابق، ولكنها تختلف عنها حيث يوجد في الطابق الأول تصميمات للواجهات تتكون من ست نوافذ علوية مستطيلة وقد تصل إلى ٢٠ نافذة تكون على شكل نصف دائري، مع وجود أفاريز بشكل شبكي أسفل حافة السطح..

ومع اختلاف طريقة البناء وتقسيم البيوت من مدينة لأخرى في اليمن نجد أن هناك شكلاً معيناً لتقسيم وتصنيف البيوت التقليدية ذات الطوابق المتعددة، فنجد أن الطابق الأول مخصص للمواشي والأغـنامِ لإحتوائِهِ على غُرَفٍ صغيرةٍ مظلِمَةٍ تُسَمَّى (الحَرّ)، وعلى الدَّرَجِ المُؤَدِّيَةِ إلى الأعلَى يوجدُ ما يُسَمَّى (بيت الحب) وهي غرفةٌ مُقَسَّمَةٌ إلى مُرَبَّعاتٍ لتخزينِ الحبوبِ المُختلفةِ لأطولَ فترةٍ ممكنةٍ، كما يوجدُ بها أيضًا (الرَّحَى) أو (المطحنةُ) التي يُطْحَنُ بها الحَبُّ، أمّا الطابق الثاني فيوجدُ فيه المطبخُ ويُقابِلُهُ غُرَفٌُ لتناول الطعام ومساحاتٌ لنوافذ خشبيةٍ تُعْرَفُ بـ (بَيْتِ الماءِ) أو (المَشْرَبِيَّةِ)..

فيما يَحتوي الطابق الثالثُ على غُـرَفِ النَّوْمِ وغُـرَفِ جلوسِ النساءِ، أمّا الطابق الرابعُ فيُخَصَّصُ لإستقبالِ الضيوفِ مِنَ الرجالِ بأعدادٍ كَبيرةٍ في غرفةٍ واسعة تمتاز بنقوشها واضائتها ونوافذها وملحقاتها الخاصة تسمى (الديوان)، وتُعَدُّ من أهمِّ الغُرَفِ..

وهُناكَ ما يُسَمَّى (الدورَ المسروقَ) في الثقافة الشعبية وهو عبارة عن طابق صَغيرَ المِساحةِ ويُبْنَى على سطحِ البيتِ، وسُمِيَ بالدورَ المسروقَ لأنَّهُ فعلياً يوازي نِصف طابق وهو عبارةٌ عن غُرفةٍ واحدةٍ تُسَمَّى (الطيرمانة) وهي كلمةٌ فارسيةُ الأصلِ تَعْني بيتَ الطَّيْرِ الآمِنِ كما تُسَمَّى (المَفْرَجَ)، وهو ما يمثل جمالية البيت اليمني حيث يَتميَّزُ بإطلالتِهِ الرائعةِ للخارجِ من كُلِّ الإتجاهات ولذلكَ سُمِيَ (مَفْرَجًا) كون الكلمة مشتقة مِنَ (الفرجة) وتعني المشاهدة، وتتكون جُدرانِهِ غالباً من الزُّجاجُ لتَكون الرؤيةُ أكثر سهولةٍ، وهذه الغرفة مخصصة للمُقَرَّبينَ والخَواصِّ مِنَ الضيوفِ حيث هناك تصنيف لدرجة قرب الزوار والضيوف في الثقافة الشعبية اليمنية..