” ان التاريخ لا يمنحنا مثالا ثانيا ( غير العرب) عن شعب مر بسرعة عجيبة من مستوى روحي متدنى نسبيا الى حضارة نقية أيضا”[1]
أن تكون الثقافة العربية رافدا من الروافد التي تأسست عليها الثقافة الغربية وان تكون الفلسفة والعلوم عند العرب هي التي نقلت إلى الغرب جواهر ودرر الفلسفة والعلوم اليونانية فإن هذا الأمر بديهي ومتعارف عليه وأصبح في عداد الأمور التي تحظى بالإجماع لا من طرف المستشرقين فحسب بل وأيضا من طرف مؤرخي العلوم والفلسفة في جميع أصقاع العالم ولكن أن يكون ما تركه العرب من أفكار فلسفية ونظريات علمية محل عناية فائقة ودراسة مستفيضة من طرف كبار الفلاسفة في الغرب فذلك ما يثير الدهشة ويدعو إلى الاستغراب ويطرح العديد من التساؤلات مثل :
كيف ينظر الآخر إلينا ؟ إلى أي مدى اعترف فلاسفة الغرب بفضل العرب عليهم ؟ ما هي مكانة العلوم العربية في العلوم الغربية خاصة وفي العلوم الإنسانية عامة ؟ هل كانت الفلسفة العربية تمتلك تلك القيمة المعرفية التي تخول لها التواجد في أشهر الكتب الفلسفية الغربية ؟ ثم ماذا يعني حضور علماء وفلاسفة عرب في مؤلفات غربية شهيرة ؟ هل هو مجرد حضور تاريخي ديكوري أم تشريف أكاديمي واعتراف حضاري ؟
ارتأينا أن نمتحن هذه الأسئلة من خلال الصفحات القليلة التي كتبها فيلسوف ألماني اسمه فيلهالم ديلتاي(Wilhelm Dilthey) في مؤلفه “مدخل لدراسة العلوم الإنسانية” عن العلوم الطبيعية عند العرب. لكن من أية زاوية اهتم هذا الفيلسوف الألماني بالثقافة العربية ؟ وهل أنصف مؤسس الهرمينوطيقا التاريخية العلوم العربية وبوّأها المكانة التي تستحقها ؟
توجد هذه الصفحات في القسم الثاني من الكتاب والمعنون : الميتافيزيقا من حيث هي أساس العلوم الإنسانية, تقدمها وانحطاطها.
في الواقع يبحث ديلتاي في هذا القسم عن الأنساب والأصول الأولى التي كانت وراء ميلاد العلم الأوروبي وواضح أنه لا يتردد في الإشارة إلى العرب إلى جانب الفرس واليونان واليهود والهنود ويثنى عليهم من جهة كونهم هم الذين أفادوا الغرب حقيقة الثقافة القديمة.
اللافت للنظر أن ديلتاي نظر إلى الفكر العربي من زاوية الميتافيزيقا وبالتحديد التيولوجيا التي اختلطت بمعرفة الطبيعة وعلم الكون. فهل كل ما تركه العرب من علوم هو في خانة الميتافيزيقا والتيولوجيا ؟ هل أن رؤية العرب للعالم هي رؤية ميتافيزيقية ؟
بادئ ذي بدء يمكن اختزال الأفكار العلمية عند العرب في علم اللاهوت حسب ديلتاي وحتى إن استعمل هذا العلم عناصر فلسفية إغريقية فهو قد استعملها ليحل مشاكله الحضارية ويدافع على العقيدة الدينية دون معرفة هذه العناصر الفلسفية ودون إخضاعها على محك النقد. ورغم أن البعض من علماء اللاهوت كانوا متفتحي البصيرة مستنيري العقل إلا أن ما يجمعهم مع غيرهم من المتشددين هو استعمال العقل بطريقة جدلية خطابية وإهمالهم الطريقة البرهانية الشرعية. يرى ديلتاي أن العرب كان لهم الفضل في التأليف بين نظرية الكوسموس الإغريقية والتيولوجيا وفي تأسيس النظرية الميتافيزيقية للكون التي هيمنت طوال القرون الوسطى. ولكن إسهامهم لم يتوقف عند هذه النقطة بل تعدى ذلك ليصل إلى مشاركتهم الفعالة في تحضير الأرضية التي سببت اندلاع الثورة العلمية الحديثة في القرنين 16 و17 ,إذ يقول في هذا السياق:” ان هذا التطور الذي سمح لعلوم الطبيعة بأن تدشن طريقها صراعيا والذي كان له تأثيرا عميقا جدا على التطور الفكر للغرب الوسيط قد انطلق من عند العرب”[2].
يذكر ديلتاي كل العلماء والفلاسفة العرب المشهورين مثل الكندي والفارابي والشهرستاني وابن رشد والاتجاه الاعتزالي في علم الكلام ورغم أن المراجع التي اعتمد عليها كانت ضعيفة ومتحيزة )كتاب ابن رشد لأرنست رينان ومؤلف مونك ( ( Mélanges de philosophie juive et arabe) ) إلا أنه يتخذ مؤقفا إيجابيا من العام والفلسفة العربيتين ويشيد بوعي العرب الكبير بالنقائض التي تخترق الفكر الميتافيزيقي وهو ما يجعل فكرهم يتحسس إمكانية تجاوزها والخروج منها أو على الأقل إعادة تأسيسها. فقد كان السبق للعرب قبل كانط في اكتشاف نقائض الميتافيزيقا :
*التناقض بين تصور الإله على أنه قادر على كل شيء ويعتني بالخلق عناية مباشرة وتصور حرية الإرادة عند الإنسان.
*التناقضات في مستوى الذات الإلهية وصفاتها هل هي عين الذات أم زائدة عن الذات ؟ والتناقضات بين الصفات والأفعال إن كان الله عادل وعالم وحكيم فما هو مصدر الظلم والشر والنقص أليس بقادر على تخليص البشرية من هذه الرذائل ؟
*التناقض بين أزلية العالم وقدرة الله على خلقه في الزمان بين فناء الجسم وبعثه وانفصال الروح عنه وخلودها.
وقد رأى العرب أن العقل البشري غير قادر على حل هذه النقائض رغم تمكنه من التفكير فيها ومساءلتها لأنه لا توجد أيّة ميتافيزيقا قادرة على حل هذه النقائض وهنا تلميح من الفكر العربي إلى ضرورة مبارحة حقل الميتافيزيقا وأطرها الضيقة وتحريك هذه المسائل على أرضية جديدة للفكر بريئة من كل الثنائيات البديهية : أول/آخر, محسوس/معقول, أرض/سماء, خير/شر.
وقد سلك ديلتاي في موقفه طريق الحياد الموضوعي والنزاهة العلمية بحيث وصل به الأمر أن ناقش الحكم المسبق الذي أصدره مؤرخ الأفكار الأول عند العرب الشهرستاني والذي زعم فيه أن الإغريق اختصوا بتحديد الطبيعة الخارجية للأشياء واهتموا أساسا بالمواضيع المادية بينما اتجهت همة العرب نحو الأسئلة الروحية وصوب الطبائع الداخلية للأشياء, بعبارة أخرى الإغريق يرفضون كل مالا نستطيع إثباته عن طريق العالم المرئي بينما الأنبياء الذين يرون بعيون الفكر يحوزون منذ البدء على معرفة راسخة.
هذا التصور اعتبره ديلتاي حكم مسبق ينبغي إخضاعه للنقل لأن حقيقة ما حدث هو تشكل عقلية لدى العرب ثابتة أدركت مدى التناقض والهوة التي تفضل علم الكون عند الإغريق وخاصة العلوم الطبيعية والميتافيزيقا عند أرسطو عن الميتافيزيقا التيولوجية كما أسسها فلاسفة الإسلام وعلماء الكلام بالانطلاق من الوحي القرآني.
لقد انتبه العرب حسب ديلتاي إلى أهمية التيولوجيا في بناء تصورهم للعالم وتعاملوا معها على أنها ميتافيزيقا التجربة الدينية أو التجربة الدينية من جهة كونها ميتافيزيقا.
وإذا كان ديلتاي يكشف لنا عن العلاقة التي تربط النسق العقلاني الاعتزالي بالمنطق الأرسطي ونظرية المقولات وكتابة العبارة فإنه يعترف بتأثير هذا النسق العقلاني على الفكر اليهودي ومن ثمة على القديس أوغسطين و Scot Erigène وكأن التصورات التيولوجية المسيحية في القرون الوسطى وعصر النهضة ليست سوى استفادة واعية بعبارات لاتينية ورومانية للنقاشات الكلامية التي شهدها علم الكلام عند العرب.
وإن تميزت تلك الحقبة الزمنية بتنظيم جميع المباحث الفكرية والاهتمامات العقلية حول التجارب والتصورات الدينية فإن ديلتاي يفسر التحول الكبير الذي طرأ على صعيد الفكر البشري والتطوير الهائل الذي جد في الحياة الذهنية للقرون الوسطى بالتوجه الجديد الذي انخرط فيه العلماء المسلمون نحو اعتبار الطبيعة والنظر في الموجودات وعملهم الدؤوب نحو الارتقاء بالعلوم الطبيعية وذلك باستيعاب التأملات الإغريقية عن الكوسموس وتجاوزها نحو اختراع نسق شامل للعلم ينشط نظرية المعرفة و ويرتبط بالتجربة والتطبيق فالعرب من وجهة نظر ديلتاي لم يفقدوا الاتصال بالثقافات الأخرى ولم ينقطعوا عن التفاعل مع غيرهم من الحضارات والعلوم الوافدة فقد ترجموا في عصور ازدهارهم أثار أرسطو وأبيقراط وجالينوس واقليدس وابولونوس وأرخميدس وبطليموس ووصل بهم الأمر إلى الاستفادة من أفكار الحكماء السبعة والطبيعيين الذين سبقوا سقراط من الذريين والشكاك أمثال طاليس هرقليطس وبارمنيدس وأنبيدوكل وحتى المدارس التي جاءت بعد أفلاطون وأرسطو مثل الرواقية والأبيقورية والريبية فإنها وجدت حظها لديهم ولم يغضوا عنها الطرف. ان ” حركة الفضول هذه تجاه الطبيعة قد أحدثت في الاسلام تطويرا للعلوم الوضعية…وقيمة العلوم الوضعية لم يقع الى حد الآن ضبطته بدقة كافية، لكن ليس هناك شك في أنهم لعبوا دورا توسطيا هاما”[3].
ما من شك أن العرب هم الوسيط الأساسي الذي ربط بين الغرب وأصولهم الإغريقية والرومانية والأمر الذي مكنهم من أن يلعبوا دور الوساطة وحلقة الربط بين الفكر القديم والفكر الحديث وهذا الأمر بديهي ليس موقعهم الجغرافي الإستراتيجي من الناحية الفكرية بل لقيمة جهودهم وإبداعاتهم في العلوم الصحيحة والطبيعية فهم حسب ديلتاي قد استخدموا ببراعة فائقة علم الحساب الهندي وطوروا الجبر والمعادلة من الإغريق وأسسوا علوم الحيل وهي تقنيات ميكانيكية للوزن ورفع الأثقال وضخ المياه. ” ليس هناك شك في أن أشكال التقدم التي وقع اتمامها من طرفهم قد هيأت في الاتجاهين لميلاد علوم الطبيعة لدينا والتي نعرفها اليوم”.[4]
يرى ديلتاي أن العرب أخذوا عن علماء الإسكندرية الرومان السيمياء (الكيمياء) لتحليل المعادن وتنقيتها واستخدموها في الطب والفنون الميكانيكية وهي كلها تجارب ميدانية تجاوزوا فيها المناقشات التأملية والاجتهادات الميتافيزيقية المجردة وعادوا إلى عالم الظواهر ملتزمين بالواقع الخام مبينين زيف التحاليل الميتافيزيقية النظرية.
لعل الأمر الأكثر سحرا وجاذبية هو نظريتهم في تحويل المعادن وبحثهم العجيب عن طريقة يحولون بها المعادن البخسة إلى فضة أو ذهب. هنا تأسست نظرية في الطبيعة لا تقوم على العناصر الأربعة المرتبطة بالحدس الحسي والتأمل النظري (الماء, التراب, الهواء والنار) بل على تحاليل واقعية تجريبية.هذه النظرية الطبيعية تصنف جواهر الأشياء وفق النظرة التي يكونها العلماء عنها أثناء التجارب الميدانية وليس بالاعتماد على نظرة ميتافيزيقية قبلية لأن هذه النظرية الطبيعية الجديدة هي بعدية متأتية مما يقوم به العلماء من تصحيح لأخطائهم وممارساتهم اليومية.
وهكذا أمكن للعرب معرفة أهمية الحرارة في صهر المعادن واكتشفوا التعدين وفضلوا عنصر النار من خلال نظرية الزئبق وتوغلوا داخل المادة وقسموها إلى أجزاء لا تتجزأ فظهرت نظرية الجوهر الفرد أو الذرة مع العلاف أبو الهذيل وبرزت كذلك نظرته الطبائع مع الجاحظ. وهكذا كانت تدور التحليلات الكيميائية لا على الخصائص الكيفية للأشياء بل على المقادير والخصائص الكمية والنسب وكانت تعتمد منهجا رياضيا وليس منهجا وضعيا. ” ان هذا الفن السيميائي يسمح بتهيئة عدد كبير من المنتوجات ويقود نحو معالجات كيميائية جديدة.”[5]
المجال الآخر الذي أثر فيه العلماء العرب على الغربيين عندما فتحوا لهم الأفق نحو ميلاد العلم الحديث هو استعمال الرياضيات كوسيلة للبحث والبرهنة على دقة التحديدات الكمية للوقائع الطبيعية, إذ يؤكد ديلتاي أن العرب أنشئوا واستعملوا تقنيات قيس أكثر صرامة ودقة من تقنيات قيس الحضارات الأخرى وكان لهم ذلك بحكم معرفتهم العميقة بطبقات الأرض ودرايتهم بحركة النجوم والكواكب وكثرة ملاحظاتهم المجهزة وتجاربهم المعمقة ولعل الجداول الإحصائية الفلكية التي تركها Alphonse de Castillé تحت إشراف الخليفة تمثل النتائج النهائية لعلم الفلك العربي وهذه الجداول اعتبرها ديلتاي نقطة انطلاق الدراسات الحديثة في علم الفلك والتي بلغت أوجها مع تحطيم الكوسموس الإغريقي ومركزية الأرض والقول بلا تناهي الكون وحركة الأرض حول نفسها والشمس وتجدر الإشارة هنا إلى تــــأثر الفلكي Tycho-Brahé الذي لاحظ تغيرات المسار الذي يقطعه القمر في دوراته حول الأرض بالجغرافي العربي أبي الفداء والفلكي أبي الوفاء. فهل قام العرب بتحطيم الكوسموس الإغريقي قبل الغرب أم جهزوا لهم الأرضية التجريبية التي ساعدتهم على ذلك التحطيم ؟ كيف أمكن للعلماء العرب الشك في مركزية الأرض بالرغم من أن التيولوجيا التي شيدوها ترى بأن الإنسان كرّمه الإله وخلقه في أحسن صورة وجعله سيد الكون ؟
يشير ديلتاي إلى أهمية ما قاموا به المسلمون في الأندلس وما تركوه من تراث حضاري ومدينة تحديثية أسهمت في إخراج الأوربيين من جهالة القرون الوسطى وهمجيتها فكل من العالم اليهودي والمسيحي مدينان للعالم الإسلامي في هذا الأمر ويستشهد ديلتاي بـGerbërt لعالم المستنير الذي تأثر أيما تأثر بالعلوم الأندلسية وكذلك ألبرت الكبير Albert le Grand يبد أن ديلتاي ينقد العلوم العربية ويرى أنها بقيت محدودة غير مكتملة ولم تصل إلى مرحلة النضج فهي لم تتمكن من تعويض نظرية الكون الإغريقية ولم تحطم علم الطبيعة الأرسطي, كما أنها لم تصل إلى مستوى التفسير السببي لظواهر الطبيعة ورغم أن بعض العلوم مثل الميكانيكا (علوم الحيل) والبصريات (ابن الهيثم) والموسيقى (Acoustique) بنت موضوعها ولغتها ومنهجها باستقلالية فائقة إلا أنها بقيت معزولة عن بعضها البعض ولم تبحث عن مجموع الأسباب والمسببات للتناظر الذي تمدنا إياه الطبيعة في كليتها.
إن العلوم العربية حسب ديلتاي لم ترتقي إلى مستوى من التطور يسمح لها بأن تفسر الظواهر تفسيرا سببيا بالاعتماد على قوانين كلية للطبيعة. ” الميكانيكا كعلم جوهري لكل معرفة تفسيرية بالطبيعة لم يعرف عند العرب أي تقدم”.
يفسر ديلتاي هذا القصور بالتناقض بين العقلية العلمية التي تؤمن بالأسباب الطبيعية والذهنية التيولوجية التي تؤمن بالعناية الإلهية والخلق المستمر. وحتى الأفكار العربية حول الوزن والحركة والضغط والجذب فهي قد اصطدمت بالإعتمادات الميتافيزيقية حول وجود كائنات روحية (جن, شياطين, ملائكة) والصور الجوهرانية.
ويرى ديلتاي أن ثورة ابن الهيثم Alhazen في علم المناظر لم تغيّر بنية الذكاء في نظريات الطبيعة ولم تؤثر في بقية العلوم الأخرى بل ظلت حبيسة اختصاصها الضيق في البصريات وحتى المحاولات التحليلية في الكيمياء فإنها لم تصل إلى تقسيم المادة إلى عناصر واقعية ولم تحدد العلاقات بين عناصرها رغم دراية العرب بالمذهب الذري ومعرفتهم بديمومقريطس ولكن اعتقادهم في وجود قوى غيبية خلف الظواهر وأسرار روحية في باطن الأشياء هو الذي منعهم من ذلك الاستثناء عند ديلتاي والذي بقي في مستوى النظرة الطبيعية المادية هو ابن رشد Ibn Roschd لأنه تأثر بنظرية المادة عند أرسطو التي ورثها عن Anaxagore ولكن هذا العالم لم يعوض نظرية أرسطو بنظرية أخرى تتفق مع المعرفة الواقعية للطبيعة.إذ صحيح أن الفلكيين العرب وجهوا انتقادات حادة لنظرية بطليموس المعقدة والتي تعاني من العديد من المشاكل فشلت في سعيها لإنقاذ الظواهر ولكنهم في النهاية لم يتجرؤوا عليها ولم يضعوا نظرية بديلا عنها.
إن تأثير التفسير الغائي والتصور الروحاني للحياة منع العرب من تفسير الظواهر الحية وفق قوانين سببية طبيعية مادية وبحيث ظلوا من أنصار الثبوتية في علم الأحياء ولم يتفطنوا إلى أهمية البيئة والمناخ والعوامل الجغرافية في تطور الكائنات الحية لعل أكبر عائق إبستيمولوجي أمام نهضة العلوم العربية ليس فقط التيولوجيا الميتافيزيقية التي يعتقدون فيها بل وكذلك التناقض بين علم الكون عند الإغريق ومن ورائه علم الطبيعة الأرسطي والعلوم الصحيحة والطبيعية في مدرسة الإسكندرية. فهذا العلم الإسكندراني كان مختلفا عن العلم الأرسطي وعوض أن يفهم العرب أن هذا الاختلاف هو ضروري في بنية العقل العلمي المتطورة نظروا إليه على أنه نشاز وتناقض ينبغي تفاديه فبحثوا عن التوفيق والتأليف بين العلمين فوقعوا في الخلط والتشويه.
وإذا كان ديلتاي أثني على ابن رشد وابن سينا ويعترف بأن قسطنطين الإغريقي هو الذي نقل علم الطب إلى الغرب فإنه يرى أن استعمال العرب للمقراب في علم الفلك لم يسمح لهم بتجاوز عقيدة السبع سماوات الدينية وتقسيم الكون إلى عالم ما فوق القمر وعالم ما تحت القمر وبالتالي التخلي عن التصورات التيولوجية (نظرية الفيض والعقل الفعال) والميتافيزيقية ويوجدوا قوانين السماء مع قوانين الأرض.فإلى أي مدى كانت نظرة ديلتاي للعلوم العربية موضوعية؟ هل يمكن القول أن عدم وصول العلوم الطبيعية لديهم إلى مرحلة النضج هو الذي عرقل قيام هذه العلوم الإنسانية؟ هل ظل حبيس النظرة العنصرية الغربية التي لا ترى للعرب غير وسيط بينهم وبين الإغريق والقدامى؟ بأي معنى يمكن اعتبار ديلتاي أحد القلائل من الفلاسفة الذين أنصفوا الحضارة العربية ؟إلى أي مدى شرع العرب في تـأسيس العلوم الإنسانية وخاصة في السجل اللغوي والتاريخي ؟ كيف ارتقت العلوم اللغوية عندهم الى درجة الكونية؟ وبأي معنى كان الشعر هو معجزة العرب الأولى؟
المرجع:
Wilhelm Dilthey, Introduction à l’étude des sciences humaines, trad par L. Sauzin, Edition. PUF, Paris ,1942.
كاتب فلسفي