7 أبريل، 2024 8:54 ص
Search
Close this search box.

العلم وتأثيره على حركة الانسان

Facebook
Twitter
LinkedIn

مهما تجادل الناس حول فعالية العلم الطبيعي، وتشككوا في مقدرة مناهجه على الوصول إلى معرفة دقيقة للحقيقة الكونية المطلقة، فإن هذا الطور من تطور البشرية هو لا شك طور العلم. وهيمنة العلم على كثير من مظاهر حياتنا، واتخاذ سبله للنظر إلى العالم من حولنا وفي أنفسنا، هو تحقيق لتطور العقل البشري. فكما كان هناك عصر حجري أول وثان، وعصر برونزي، وتلتها شتى العصور، فإننا لا شك نعيش الآن في العصر العلمي الأول، أو قل إننا نقف على أبوابه، إن أردنا الدقة. وهذا أمر طبيعي في تطور الانسان. فكما كانت وسائله المادية تتطور من عصر إلى عصر، وتنتقل من حجر إلى برونز إلى حديد، إلى أن تبلغ المفاعل الذري في القرن العشرين، فإن ملكاته العقلية كانت أيضاً تتطور وترتقي من درجة التلمس والحسية المباشرة إلى طور التأمل والتحليل والتجريد والاستقراء والاستنباط والنظر العقلي المجرد، وكان تصوره للعالم الخارجي ولنفسه يتطور ويرتقي تبعاً لذلك، كما تشهد بذلك مسيرة الانسان الفكرية والروحية عبر الأسطورة والسحر والوثنية والشرك، حتى انتهت إلى التوحيد وسيادة العقل في كل الأمور بما فيها مسائل الدين التي كانت فيما مضى قائمة على التسليم المطلق بما توارثه الناس من غيبيات.
وليس الإنسان في حاجة إلى أن يسهب في مقدمات هذه السيادة العقلية، ويكفي أن نذكر أن آخر الأديان، وهو الإسلام، قد جاء تجسيداً حياً لامتزاج العقل بالروح لخلق الانسان السوي المتحضر المتكامل الشخصية المتوازن السلوك، وبذلك انتفى ذلك الصراع القديم بين الدين والفكر، وأصبح الحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل لأن الله لا يريد إلا الأحسن لعباده، ولو خفيت عليهم حكمته في ذلك لبعض الوقت. ثم جاءت معجزة الإسلام، وهي القرآن، خطاباً للعقل ودعوة بالحسنى إلى قبول المنطق، وجاءت أول كلمة فيه، وهي اقرأ، بداية لعهد جديد في حياة البشر، يؤذن بانتقال الناس إلى مرحلة سيادة العقل المتمثلة في أدوات الحياة العقلية من القراءة والكتابة والقلم والعلم. ولذلك لا عجب إن رأيناه يوجه خطابه للذين يعقلون في أكثر من خمسين موضعاً، وللذين يعلمون أو لا يعلمون في أكثر من مائة موضع، ويتحدث إلى الذين يتفكرون ويتفقهون في أكثر من ثلاثين مقاماً.
سقت هذا الكلام لأصل إلى نقطة ارتكاز فحواها أن كل تقدم بشري مقبل سيكون تقدماً في عقل الإنسان وملكاته الإبداعية، وأن الله الذي دعانا إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وفي أنفسنا، كان يدعونا إلى العلم وأوضح قصورنا وعجزنا في هذا المقام حين قال: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ودعانا إلى الاستزادة من العلم في قوله تعالى: (وقل رب زدني علماً) ولو كان الله سبحانه وتعالى يعلم إن علمنا قد انتهى بما جاءت به الرسالات من معارف وتوجيهات، لما جاءت كل هذه الدعوات الحارة في القرآن الكريم لطلب العلم والاستزادة منه، وعلى هذا قامت كل حضارة الإسلام الروحية والتشريعية والعقلية والمادية. فهي قد استمدت من القرآن الكريم أسسها العامة، وتطورت بأعمال الذهن والاستزادة من العلم، فليس هناك شيء في حضارة الإسلام لا يقف شاهداً على الجهد الفكري المبذول، ويكفي أن نشير إلى أن أخص خصائص الدين وهو الفقه والتشريع، هو في أساسه وأن اعتمد على ما جاء في القرآن والسنة من أحكام، صرح شامخ للنظر العقلي، يفخر به الفقه القانوني في كل زمان ومكان. وليس أدل على مكان العقل فيه من أن كل أصوله بعد القرآن والسنة هو احتكام للعقل، سواء أكان ذلك عن طريق القياس أو الرأي أو الإجماع الذي يقر اجتهاد المفكرين من المسلمين ولعله ليس من الغريب لذلك أن نرى هذا الصراع الفكري المثقف يحتد ويتشعب منذ أيام الإسلام الأولى، متخذاً من المعتقدات الأساسية والمسلمات مادة للجدل الذي عرف بعلم الكلام، الذي سعى إلى تحديد المرتكزات الفكرية للعقيدة الإسلامية، فاتحا المجال بذلك إلى نهضة فلسفية وعلمية كبيرة ظهرت آثارها في تلك الثورة العقلية التي قامت على البحث والاستقصاء والتجريب في كل فرع من فروع الحياة الفكرية، ولو كان المسلمون يجترون كل ما جاء عن أسلافهم، ويتقبلون ما ورد عنهم بالتسليم والانصياع، لما قامت كل هذه المعارك، ولما أضاع الناس كل هذه السنوات من أعمارهم بحثاً وراء الحقيقة.
وحين رفع الله مكانة العلماء في كتابه وقال: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، وباعد بين مَن يعلمون ومَن لا يعلمون في قوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، وحين جعل الرسول الكريم(صلى الله عليه واله وسلم) طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وفضل مداد العلماء على دماء الشهداء، فإن العلم المقصود كان العلم على إطلاقه، الذي هو نقيض الجهل، وليس تخصصاً محدوداً في فرع من فروع المعرفة الإنسانية. أما كيف تقلص هذا المعنى العام للعلم، ليصبح دالاً على علوم الدين وحدها في عرف المتأخرين من المسلمين. فذلك مرجعه إلى ما للدين من مكانة في حياة المسلمين وفي حضارتهم من ناحية، وإلى مبلغ الانهيار والتخلف الذي تردى فيه المسلمون من ناحية أخرىلاسباب شتى .
أما مكانة الدين في حياة المسلمين وفي حضارتهم فنابعة من الفهم للدين بمعناه الشامل، الذي يصل بين دنيا الناس وآخرتهم، فهو تنظيم لحياة الناس الروحية والاجتماعية بما جاء به من قيم انسانية وأحكام عامة وخاصة، غايتها خلق الانسان السوي الذي يحقق في نفسه وفي علاقته بغيره كلمة الله في الأرض: الحق والعدل والمساواة. ومعنى ذلك أن التعمق في الدين بهذا المعنى الشامل لا يكتمل إلا بالتعمق في كل ما له صلة بحياة الناس المتشعبة من علوم وفنون، وإلا تخلف عالم الدين الذي يتصدى لحل مشاكل الناس عن حاجة الناس المتجددة على الدوام. فالدين مثلاً تصدى لحل مشاكل الناس الاقتصادية، وتنظيم حياتهم وفق أسس عامة تضمن العدالة والمساواة، فكيف يتحدث عالم باسم الدين، متصدياً لمشاكل الحياة الاقتصادية دون أن يكون ملماً بالعلوم الاقتصادية؟ وعلى هذا اجتهد علماؤنا الأوائل، وجدّوا في طلب العلم فيما يتعلق بأمور المال والاقتصاد، فقد كانت غاية العلم عنهم هي توسيع دائرة الإنسانية بتوسيع دائرة البحث حول نصوص القرآن والسنة بما يحقق انسانية الناس وسعادتهم في ظروفهم المتقلبة وأوجه حياتهم المتجددة، ومن هنا كانت حكمة الاجتهاد، الذي هو بذل الجهد الفكري لتطوير فهم الناس لنصوص الدين في ضوء المعرفة الإنسانية المتطورة بتطور مظاهر الحياة المعاشة. كان هذا المنحى الانساني في طلب العلم هو الذي يصل بين ثمرات المعرفة الإنسانية وقضايا الدين التي هي قضايا المجتمع. لم يكن طلب العلم في كل فروعه المادية والمعنوية غاية في ذاته منفصلاً عن حياة الناس وقضاياهم المادية والمعنوية، بل كان العلم مسخراً لخدمة قضايا الحياة، هو ما دام يعين على توسيع دائرة الفهم لنصوص الدين بحيث تكون أقدر على التعبير عما أستجد في حياة الناس من ظروف فهو جزء لا يتجزأ من معنى الدين الشامل. وبهذا المستوى فهم المسلمون الأوائل قول الرسول الكريم: (مَن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) لأن الفقه هو العلم والمعرفة. كانت نصوص الدين في القرآن والسنة بحسبانها الإطار العام لتحقيق انسانية الانسان في كل زمان ومكان هي الجوهر والأساس، وكانت كل العلوم الانسانية الأخرى روافد تعين على فهم هذا الجوهر، وتسهم في ترجمته إلى واقع معاش في حياة الناس هو علم، فعالم الدين عالم على وجه العموم بمعظم معارف عصره، والناس في ذلك على تفاوت بحكم أمزجتهم وعقولهم. فلذلك لم تقم قضية الفصل بين الدين والعلم إلا في عصور الانحطاط حين انهارت الامبراطورية الإسلامية، وتقلص ظل الرخاء المادي، وجفت منابع الحياة الاقتصادية والفكرية والاجتماعية، وجفت تبعا لذلك كل منابع المعرفة الانسانية التي ازدهرت في عصور الإسلام الذهبية، فلم تعد حياة الناس الجافة ولا عقولهم الجامدة تتحمل ما كانت تتحمله حياة أسلافهم وعقولهم من المعارف والعلوم التي تقبع الآن في الخزائن والمكتبات، وتجردت بالتالي علوم الدين من كل ما يرفدها من علم ومعرفة، وبقي الناس يجترون النصوص التي خلفها أسلافنا وهي مبتورة عن جوها العام، الذي كان بمثابة الشرايين تغذيها بالدم والغذاء، ويسعون إلى بعثها في حياة الناس وهم مبتورون عن أبسط المعارف التي تعج بها حياة العصر. وما دام الأمر كذلك فلابد أن ينعكس جفاف العقول وضمور معرفتها المبتورة عن شرايينها وروافدها التي تكسبها الروح وتمنحها الحياة.
أن هذا الربط بين معطيات الدين ومنجزات العلم هو الذي منحنا جهابذة الرجال الذين تركوا بصماتهم القوية في تاريخ الفكر البشري، وهو الذي نقل دين الإسلام من مجرد نصوص يحفظها الناس عن ظهر قلب إلى حضارة انسانية شاملة تشكل الحياة، وتصوغ شخصيات البشر على نحو لم تعهده البشرية من قبل. وما أنجزته الحضارة الإسلامية في مجال البحث العلمي والنظر العقلي، هو الأساس الذي تقوم عليه حضارة العصر. إذ أنها بتأكيدها لمكانة العقل في حياة الناس عامة، وربطه بحياتهم الدينية والروحية خاصة، قد انتقلت بالبشرية إلى العصر العلمي الذي نعيش الآن مظهراً حاداً من مظاهره: هو المظهر الغربي الذي اختل فيه التوازن بين منجزات العلم من جهة، ومعطيات الانسان الفكرية والروحية من جهة أخرى، وكل ذلك يجعل من تجربتنا الحضارية الرائدة مصدر إلهام للبشر وهم يتخطون عتبات العصر العلمي الأول.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب