العلم هو قبس من نور الحقيقة التي ننشدها، على أن الانسان كان ولا زال يطارد خيوط الحقيقة كما الصياد الماهر يطارد فريسته، فالحقيقة هي ضالة الانسان، وخصوصاً الانسان العالم، الفيلسوف، الباحث، وما بعد الحقيقة الا الجهل الضاربة جذوره في قاع الفكر المتحجر الذي لا تدك حصونه معاول المعرفة، قليلاً ولا كثيراً، والسبب أنه لا يأمل أن يحرث تلك القاع أو الارض ومن ثم يقذف فيها بذور المعرفة ليحصد بالتالي ثمارها اليانعة، وهي النتاج العلمي المصفّى وما يخدم به الانسانية قاطبة، وعلى جميع الاصعدة، اين ما كانت وحيثما تحلُ. على اعتبار أن العلم قوة، وقوة عظيمة هي اقوى سلاح ممكن أن يستخدمه الانسان في جميع قضاياه، اذ إن، كما قال الفيلسوف برتراند راسل (1872 – 1970): “قوة العلم لا حدود لها, فقد أُعلمنا سابقاً أن الإيمان يزيل الجبال, لكن أحداً ما لم يصدق ذلك, واليوم يقولون إن القنابل الذرية يمكن لها أن تزيح الجبال, ويصدق الكل”. وليس هذا فحسب، وانما كما يضيف راسل أن “العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبدية.. بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتقريب المتتالي دون الادعاء أن الدقة النهائية والكاملة قد تحققت في أي مرحلة”. وهذا الاقتراب الذي يتحدث عنه راسل هو لحظات التجلي التي يصل اليها الباحث عن الحقيقة بعد جهد وعناء ومواصلة الليل بالنهار، وتحدي المخاطر التي تقف كعقبة في طريقه والتي تتمثل عادة في الحرب الضروس التي تشنها عليه كثير من الجهات المتمثلة، سواء بالسلطان أو الحاكم او المؤسسات الدينية، الكهنوتية، التي تعد أن كل من يغوص في بحور العلم ويستخرج منها نظريات علمية تتعلق بالكون أو بالوجود او بما يخص المهندس الاول، فهم يعدون ذلك كفراً، ويطلقون على ذلك العالم أو الفيلسوف أو الباحث بأنه زنديقاً. لكن، مع ذلك كما يعبر مسكويه (الفيلسوف المسلم) “من خلا بالعلم لم توحشه خلوة، ومن أنسَ بالكتب لم تفته سلوة”. بشرط أن يبتعد الباحث والسائر في طريق العلم أن يجفو ملذاته الشخصية، وأن يخوض في امواج العلم من اجل العلم نفسه، وخير ما عبر عن ذلك مايكل فاراداي (وهو عالم كيمياء وفيزياء انجليزي) بقوله “أنا سأعبّر ببساطة عن اعتقادي الراسخ أن هدف التعليم الذاتي والذي يقوم على تدريب العقل على مقاومة الرغبات والميول حتى تثبت صحتها هو أهم من كل شيء.. ليس فقط في العلم إنما في كل مناحي الحياة”.
فالعلم، هم من ينير دياجي ظلام الجهل بنور المعرفة الحقة، ليكشف الطريق اللاحب امام القلوب المتعطشة للقبس من اشعة تلك المعارف كي تسير الحياة وفق ضوء شاسع وطويل يصارع كل العقبات التي تقف ازاء ما يريد الانسان من والصول الى كنه الحقائق المتخفية وراء جبال عالية من غيوم الجهل وعدم المعرفة الكافية، وقد حذرنا جورج برنارد شو بأن قال “احذر من العلم الزائف فهو أخطر من الجهل”. وهذه حقيقة بأن هناك علم زائف كالأمور الميتافيزيقية لا يمكن أن نركن اليها، ونحملها على محمل الجد، الا بعد تجربة وظهور عياني يكشف تلك الحقائق، (وقد عالج كانط قضية الميتافيزيقا واشبعها بحثا). وهو عين ما عبّر عنه المتصوف شمس الدين التبريزي” العلم الذي لا يأخذك أبعد من ذاتك هو علم أسوأ من الجهل”. وقد حذرنا شكسبير من مغبة الجاهل بقوله أن “الجاهل يعتقد نفسه حكيماً، أما الحكيم فهو من يعرف بأنه أحمق”. أو يدعي أنه لا يعرف أي شيء بتعبير سقراط.
فحريّ بنا أن نكون احراراً، في تفكيرنا وفي طريق بحوثنا عن الحقيقة، والا بدون الحرية لا يمكن أن نحصل على ما نريد دون ذلك. وهذا عين ما اشار اليه روبرت أوبنهايمر ” طالما أن الرجال أحرارا في السؤال عن واجباتهم، أحراراً في الحديث عن أفكارهم، أحراراً في التفكير عن إرادتهم، فإن الحرية لا يمكن أن تضيع والعلم لا يمكن أن يزول”. وكما قال اسبينوزا” إن الحرية ضرورية تمامًا للتقدم في العلم والفنون الحرة”. علاوة على أن يقترن بضمير حي ويكون المتصدي حريص كل الحرص بنقل الحقائق، وبعكس ذلك قد تحصل امور لا تحمد عقباها. “إذا لم يقترن العلم بالضمير أدى إلى خراب النفس”. كما عبر فرانسوا رابليه.
واحياناً تقف ازاء الفيلسوف او عالم عقبات، ويجد مطبات تعيفه من الوصول الى الهدف الذي يريد الوصول اليه، وباذلا فيه دماء معاناته، وعصارة اوقاته. لكن، كما يقول وليام براج ” المهم في العلم ليس أن تحصل على حقائق جديدة، بل أن تكتشف طرق جديدة للتفكير في هذه الحقائق”. فالتفكير هو الادوات التي نتوصل من خلالها نحو قطف ثمار العلم والمعرفة، فالخوض في المسائل بلا تفكير كإعطاء الطبيب الدواء لمرضاه بدون تشخيص الدعاء، لأن “الهدف النهائي للحياة هو الفعل و ليس العلم، فالعلم بلا عمل لا يساوي شيئاً. نحن نتعلم لكي نعمل”. كما يرى توماس هكسلي. فالعمل، اذن هو ديمومة التعلم، بمعنى اننا اولا يجب أن نعرف كيف نتعلم، لأن نتاج التعلم هو العمل الذي يؤدي الى قطف الاثمار بعد أن نتيقن بأنها نُضجت.. وذكرنا أن طريق التعلم شاق وغير معبّد، لكن الاصرار على ذلك هو ما يحفزنا ويعطينا قوة حديدية.