إن أهم إنجاز لثورة تشرين هو ليس على المستوى السياسي فحسب، بل هو على المستوى الثقافي للشعب العراقي، الشيعي منه خاصة، إذ وحدت الجميع حول راية الإنتماء الوطني الواحدة. فمنذ سقوط النظام السابق في 2003 ترعرعت ثقافة المكونات الإجتماعية (المذهبية والإثنية)، وأصبحت الهويات المتعددة التي ينتمي إليها كل عراقي تعلو على الإنتماء الوطني للعراق. فأصبح كل فرد يُسمّي نفسه بهوية إنتمائه الديني والمذهبي والعرقي والإثني، فأنا شيعي وذلك سني والآخر كردي أو تركماني، وهنالك آخرون من المسيحيين الآشوريين والكلدان، ويتصارع البقية على ضم المكونات المجتمعية الصغيرة إليهم مثل الشبك أو الكرد الفيليية. لقد عزز نظام المحاصصة السياسي هذا الإنقسام المقيت بين أبناء الوطن الواحد، فكلٌ يبكي على ليلاه؛ وضاعت حينها الهوية الوطنية بين مزاحمات الإنتماءات الجزئية الخاصة.
لم يكُن أحداً يصدق أن الأعلام الوطنية للعراق سترفف وحدها، ووحدها فقط، في ساحات المدن كافة. أصبح العلم العراقي هو الجامع الوحيد بين كل التيارات التي شاركت في التظاهرات الجماهيرية التي أنطلقت في تشرين، وأصبح كذلك الرافع للعلم العراقي هو علامة المنتفض المطالب بحقوقه أو المشارك في مظاهرات الثورة في ساحات التحرير. حتى أنه من المؤسف له أن الحكومة المحلية في البصرة في إجراءات ردعها للتظاهرات – كما نقلت وسائل الإعلام – بدأت تمنع حاملي العلم العراقي من المشاركة فيها. المفارقة التاريخية هو أن العلم العراقي أصبح الآن يمثل المعارضة، بينما الفصائل السياسية والدينية الآخرى، والتي كعادتها دائماً ترفع أعلامها الخاصة بها، هي التي تساند النظام؛ حتى قياداتهم السياسية يُشركون أعلامهم الخاصة بهم (والتي ترمز لإنتماءاتهم) مع العلم العراقي في جميع ظهورهم العلني أو لقاءاتهم الإعلامية العامة. لقد غدا العلم العراقي ولأول مرة هو من معالم الثورة والإنتماء للوطن والذي تجمع تحت رايته في ساحات التظاهرات المتدينين والعلمانيين، السنة والشيعة، والمسلمين والمسيحيين، من الصغار والكبار.
عند السير في شوارع بغداد والمدن العراقية، ترى السيارات التي تحمل العلم العراقي أو يرفرف ركابها بهذا العلم الوطني من خارج النوافذ، ليعلنوا للجميع أنهم مواطنين ذاهبون للمشاركة في التظاهرات. لأول مرة منذ عام 2003 والجميع يرى هذا المنظر الحماسي المهيب الذي يمثل الإنتماء الوطني الموحد الذي طمس الإنتماءات الفئوية الآخرى. فكنا نشاهد الأعلام المرفرفة في الاحتفالات الدينية وغيرها فوق جميع البنايات العامة والمراكز الحكومية والمنازل الأهلية، وهي أعلام مختلفة عادة ما تكون غير العلم العراقي. ولكن الأمر أختلف بعد ثورة تشرين التي أشعلها الشباب، وهذا الفعل كان بدون تخطيط مسبق، فالجميع ساهم بعدم رفع غير ذلك العلم الذي يرمز للإنتماء للوطن، الذي إسمه العراق. لم يحمل المشاركون في التظاهرات الجماهيرية الرايات والصور أياً كانت، لشخصيات دينية أو سياسية، تاريخية مقدسة أو معاصرة. فالجميع أجتمعوا تحت راية العلم العراقي، وأجمعوا من خلال وعيهم الوطني أو من خلال العقل الجمعي أنهم سوف لا يرفرفون إلا علم الوطن ولا يستظلون إلا تحته.