18 ديسمبر، 2024 11:56 م

بغض النظر عن فوائد العلم والتعلم في الاخرة وبحسب الاقوال المأثورة فمن اراد الدنيا فعليه بالعلم ومن اراد الاخرة فعليه بالعلم ومن ارادهما معاً فعليه بالعلم. ورغم كون هذا حافز عظيم لمن يريد نيل الافضل في الدنيا والاخرة، اقول رغم ذلك فأن حتى من لا يؤمنون بالاخرة قد ادركوا حقيقية هذا واهمية العلم في بناء الجنان على الارض وقد فعلوا وهم لا زالوا مستمرين في ذلك بالسير بخطى واثقة في كل الاتجاهات لا يمنعهم شيء عن اكتشاف واختراع اغرب واعجب الاشياء الا قصور تقنيات اليوم عن ادراك بعض من افكارهم المجنونة والتي ستصبح غداً حقيقة وواقعاً بعد توفر الادوات اللازمة والتي يصدف ان البعض الاخر يعمل بنفس الوقت على توفيرها وتطويرها وهكذا نرى العالم حولنا كخلية النخل يطور بعضه للبعض الاخر كل ما يلائم واقع اليوم واحلام المستقبل. فتجد الرياضي (مختص الرياضيات) يطور اساليب حساب جديدة يستخدمها الفيزيائي في الوصول الى فهم اجزاء اصغر واصغر عن مكونات الوجود او محاولة فهم اجزاء اكبر واكبر من المجرات ويستخدمها الحاسوبي (مختص الحاسوب) بتعديلها واستثمارها كخوارزميات تساعد الانسان على تحقيق ما كان مستحيلاً بالامس بمساعدة الحاسوب وامكانياته مستفيدين من كون البعض الاخر يطور ذاكرة الحاسوب الى احجام اصغر وسعات خزن اكبر وكلفة اقل وسرعة اعلى ووجود اناس اخرين يطورون المعالجات لتكون اسرع واقوى واصغر وارخص وهكذا.
كل هذا جميل وواضح للجميع ولكن ما ليس واضحاً للكثيرين ان هذه الصناعة (انتاج العلم والمعرفة وتطوير كل مجالات الحياة) لا يتم انتاجها في المصانع فقط بل ان اساسها ومرجعها الاول هو المؤسسات الاكاديمية (المعاهد والكليات والجامعات) حول العالم والتي يبلغ عددها اكثر من 16000 جامعة ومعهد مسجل عالمياً لحد لحظة كتابة هذا المقال. نعم الجامعات هي الاساس والاصل الذي وصلت به الدول الى ما وصلت اليه من تطور علمي وصناعي بل وحتى ثقافي وسياسي ومجتمعي فالجامعات كانت وما تزال منذ قرون من الزمن المحرك الاكبر للدول الصناعية والزراعية والتجارية حول العالم لتحقيق اهدافها والقفز قفزات نوعية هائلة بأوقات قياسية وللأسف هذه حقيقة لا يزال اغلب قومي يتجاهلها معتقدين ان التطور والنهضة تأتي بالانقلابات العسكرية او الثورات والانتفاضات والسلاح والقتل!
ان دورة حياة الشعوب حولنا هي خير دليل على ان العلم هو الوسيلة الوحيدة التي تغير مصائر الشعوب بدون اسالة اي قطرة دم وهو الطريق الوحيد الذي يوحد البشر خلف هدف واحد (صناعة انسان افضل ومستقبل افضل للجميع) وطبعاً هناك من يستخدم العلم بالضد من هذا وهؤلاء ليسوا موضوع حديثنا الان وهم موجودون في كل مفاصل الحياة من دين (استخدمه الكثيرون ضد الدين نفسه وضد الناس) وسياسة (استخدمها الكثيرون سلاحاً ضد الشعوب وليس لخدمتها) والاقتصاد (الذي تفنن البعض في تحويله غولاً يلتهم الفقراء لأشباع كروش الاغنياء) ولكن ككل شيء في الحياة العلم كغيره سلاح ذو حدين وسنتحدث اليوم عن دورة حياة العلم كأستثمار في دول العلم والعلماء.
قبل عدة اشهر تسنت لي فرصة اللقاء بأحد رؤساء الجامعات العالمية (والتي تسلسلها اليوم بحدود 250 عالمياً من اصل ال 16000 جامعة حول العالم) وما لمسته خلال اللقاء ان الرجل رغم علميته الهائلة الا انه يتصرف ويتكلم كرجل اعمال هدفه تطوير استثماره (الجامعة التي هو رئيس مجلس ادارتها) وفهمت من كلامه ان الجامعة مؤسسة علمية وربحية كأي شركة وتبدأ قصص الجامعات كالاتي:
يبدأ رجل اعمال او تاجر او جهة حكومية بفكرة بناء وتأسيس جامعة فيوفرون رأس المال الاولي ويسعون الى جمع مجموعة من اصحاب رؤوس الاموال معهم ويخططون لنوعية وكمية الطلبة الذين يستهدفونهم ويقوم الخبراء بعمل دراسة جدوى لهم لتحديد ما تحتاجه الجامعة لتبدأ العمل من كوادر واموال وبنايات وما يجب فتحه من كليات واقسام (بحسب حاجة سوق العمل وليس عشوائياً كما يحصل عندنا للأسف) ويبدأ العمل بمراحل (فليس شرطاً ان تفتتح الجامعة كلها بنفس الموعد) وتبدأ الجامعة بالاعلان عما لديها (من بضاعة) من مرافق علمية واكاديمية ومختبرات وكفاءات علمية وكورسات تخصصية ومكتبات ومطاعم ومرافق ترفيهية ورياضية وكل شيء يمكن ان يرغب الطلبة في التسجيل فيها ويبدأ الطلبة بالتقديم والتسجيل (وكل بحسب رغبته ومؤهلاته ونقوده) وتبدأ العملية التعليمية التفاعلية التي تضم خلال مراحلها تشجيع الطلبة على الاتصال بالشركات في سوق العمل وجس نبض المطلوب من كمية ونوعية وتتكفل الجامعة بعمل ورش عمل تجمع فيها طلبتها مع ممثلي الشركات الباحثين عن كفاءات معينة ويتفرغ الكثير من الطلبة للعمل في شركات تطلب اختصاصهم حتى قبل نيل الشهادة والتخرج فقد رأيت الكثيرين ممن امتلكوا المؤهلات الكافية للعمل وهم في المرحلة الثالثة او الثانية او الرابعة وعملوا لسنين ثم عادوا بعد ان جمعوا المقدار الكافي من المال والخبرة لأكمال شهاداتهم بأعمار بين ال 25 الى 45 حيث لا وجود لهذا النظام البائس المتبع في كلياتنا
والذي يفرض على الطالب ان يكمل البكالوريوس في 4 سنوات او 5. وتستمر المسيرة العلمية بأضافة تخصصات اكثر (بحسب تطور حاجة السوق) وبناء ابنية اكثر وجذب مستثمرين اكثر والكل رابح في النهاية فالطالب رابح لأنه يحصل على ما يؤهله لمواجهة متطلبات السوق والجامعة تحصل على ما يديم وجودها واستمرارية بقائها والمستثمرون يحصلون على اموالهم وارباحها فوقها حيث يستمرون في اخذ نسبهم المئوية من كل فلس يدفعه الطلبة والبلد رابح لحصوله على اليد العاملة الكفوءة والشعب المتعلم والاقتصاد المزدهر والاموال من الدول الاخرى (حيث تجذب هذه الجامعات الكثير من الطلبة من كل دول العالم) والاقتصاد رابح بشركاته التي تجد ما يسد حاجتها من اليد العاملة الكفوءة طيلة الوقت فأي استثمار افضل وانجح واربح من هذا؟ خصوصاً في دول ينخرها التخلف والجهل والمرض والابتعاد عن روح العصر والغرق في ظلمات التاريخ ومجاهل الحاضر والمستقبل!
طبعاً الحديث كثير في هذا المجال ولا تسعه صفحة او صفحتين ولا مقال ولا عشرة مقالات ولكن اردت ان اشير اشارة بسيطة فقط الى كيف تسير الدنيا حولنا وكيف تتحكم عقلية الربح والكسب والفائدة للجميع في كل مفاصل الحياة وكيف تبنى كل يوم جنان في اغلب دول العالم المتحضر حولنا والتي لا يزال الكثير من الناس في بلداننا ينبهرون بها ولا يسألون انفسهم كيف بناها بشر مثلنا يمتلكون مثل ما نمتلك والجواب ببساطة انهم اجادوا استثمار ما عندهم واسأنا استثمار ما عندنا. فهل نتوقع ان نرى شيئاً مماثلاً في بلداننا ام تستمر الجامعات الحكومية تنحدر في مستواها وتقصر في تلبية طموحات الطلبة اكثر واكثر كل يوم وتستمر الجامعات الاهلية ببيع الشهادات لطلبتها بلا علم ولا فهم ولا استحقاق!