23 ديسمبر، 2024 5:52 م

العلمية الغربية ازاء العقل العربي

العلمية الغربية ازاء العقل العربي

سواء أكان العلم علماً بوصفه مجموعة المعارف المتكاملة والمبادئ العامة المتعلقة بحقيقة ظاهرة معينة ام معرفة بوصفها مجموعة المعاني والمعتقدات والمفاهيم والتطورات الفكرية التي تتكون لدى الانسان نتيجة لمحاولات متكررة لفهم الظواهر المحيطة به، فان العقل العربي ابدع في الاثنين معاً وحقق سبقاً تاريخياً واسعاً في هذا الصدد في المحيط القومي والامتداد الانساني على مدى اجيال عديدة.
 اول ابداع للعقل العربي بالمستوى العلمي التاريخي الانساني يكمن في ادخال التجريبية كمذهب يقسم المعرفة على التجربة المباشرة والملاحظة التي تقوم على ما تدركه الحواس وحدها، وان كل قول لا يمكن فحصه عن طريق الحواس لا معنى له. وبذلك، دخل العلم التطبيقي الممارسة الفعلية برغم ان العرب ابقوا على النشاط العقلي المجرد من دون حذف او تغيير وبكل حرية واطمئنان.
 حصل هذا التغيير العلمي السلوكي بعد اتساع المعرفية المنقولة عن الاغريق خاصة، إذ فتحت افاقاً كبيرة للتجربة الاداتية بقصد التوثيق او الكشف عن المحتوى او تحديد سبب ظاهرة ما، او تقصي المكونات: بناء ووظيفة في عالم الانسان والحيوان والنبات مما لم يقم به التجريد العقلي، او لنقل انهت وحدانيتها وفي الوقت نفسه مهدت بعد قرون عديدة من التجربة وتكرارها، والخبرة وتراكمها، الى فتح عهد الاتمتة الالكترونية الغربية، اي ان وسطية العرب ليست جغرافية تاريخية فحسب بل هي محورية موجهة فعلاً حتى اصبحنا الآن على مشارف عهد جديد من مفهوم التكنولوجيا الاكثر تطور باحتكار الغرب بعد ان سيطر على اسرارها وتمكن منها بالمنهجية العربية نفسها ان لم تكن بالشكل والصيغة فبالروح والمضمون ولا اقل من ذلك.
 هنا اصبح للعلم الغربي منظور آخر ازاء العقل العربي، فهو يؤمن بدوره العلمي في صنع القرار العلمي والانجاز العلمي خشية المنافسة والعواقب، اذ لا بد للامم ذات الحضارة ان تدور مع الزمن فتعيد حضارتها بمنظور جديد، فالاسس واحدة والمقومات مشتركة، اما الوسائل فمختلفة، والعلمية الغربية الاحادية المعاصرة تنظر الى العقل العربي العلمي نظرة فزع مرة وشك مرات، وهي في كل الاحوال متيقنة من تمكن هذا العقل في حيازته مفاتيح التطور الحضاري ولو ببطئ وصعوبة لاسباب موضوعية احياناً وموضوعية من الغرب نفسه احياناً، وتزداد خشية العلمية الغربية الاحادية من العقل العربي كلما اكتشفت بؤرة للنهوض العلمي الرصين على ارض العرب، وآخرها، بل في مقدمتها، العراق ونهضته العلمية الكبرى وسيرورته التكنولوجية المتميزة وامكاناته البحثية المتجددة وقدراته الاقتصادية الحقيقية التي اجهضها الغرب باحتلاله للعراق في 2003.
 وفي الوقت نفسه، ان الموانع العلمية الغربية تتضاعف وتزداد قسوة كلما نادى بعض علماء العراق بضرورة الوحدة العربية في المنهج العلمي، والوحدة في البحث العلمي، والوحدة في الاستثمار العلمي، والوحدة في الانجاز العلمي، لان العلمية الغربية متأكدة من ان نجاح هذه الوحدات العقلية العربية في الميدان العلمي التطبيقي والتكنولوجي يعني فتحاً كبيراً في التطور الاقتصادي والثقافي والاجتماعي للاقطار العربية على حساب المصالح الانانية للغرب المحتكر. هنا يصح الاستنتاج ان العقل العربي العلمي هو في آخر المطاف كنز للتطور الحضاري في كل ميدان في الدولة والمجتمع، لذا فان ابقاءه بعيداً وقاصراً وعاجزاً عن اداء هذا الدور هو في محميات وسلطات العلمية الغربية السياسية الاحتكارية المعاصرة مهما تظاهرت بغير ذلك ومهما ظهرت خلافه، اذ يأخذ منظور العالم الغربي للعقل العربي اشكالاً محيرة في بعض الاحيان، فلقد يبدو على نحو غريب يرفض التعاون المباشر او رفض البعثات العلمية في التخصصات الحساسة او رفض بيع اجهزة محددة المواصفات او منع حلقات معينة من اجهزة ادائية متطورة من الوصول الى سلطة العقل العربي او التعذر عنها ولكن بذرائع مختلفة.
 ان هذه التصرفات في حقيقتها انانية لم تمنع العقل العربي من تسلق سلم المجد العلمي ولن تعيقه ولو بحساب الزمن فقط. فالسلوك الاحادي ليس من مواصفات العلم والعلماء ولا من صفاتهم على مر التاريخ…
 – ما هو الرد المتوقع من العقل العربي المبدع؟
 ان دراسة واقع العرب والشروع بتنفيذ برامج الوحدة العربية البحثية او الاستثمارية العلمية  يعد خطوة متقدمة في هذا الصدد. كما ان تعميم تجربة العراق العلمية الكبرى (المجهضة) امام العرب يعني تكاملاً في الاداء وتراكماً في الخبرة وتطويراً لقدرات العقل العربي على طريق العلم والتكنولوجيا المعاصرين لكسر الهيمنة المفتعلة والظالمة معاً في هذا المجال.. فالبلدان الغربية ليست بمجملها عدوة في البنية والسلوك… مؤسساتها ليست معادية على سبيل الاطلاق في تبادل الفائدة، والرأي الاخر فيها له قوته وحضوره المؤثر فيها، الا ان ما نحن بحاجة اليه فعلاً هو كثير من الجهد على نهج التعاون والتنسيق وابتكار الصيغ الناجحة لهما، اكاديميا ومؤسساتياً على وجه التحديد، ورسمياً ومجتمعياً على وجه العموم، امتثالاً لمسيرة الاجداد التي وهبت العلم لاوروبا من غير ثمن… فبراءة الاختراع والانجازات العلمية والتكنولوجية سمة اصبح العالم الغربي يدرك نشاط حركتها في العراق، ويدرك قوة تأثيرها الابداعية في دنيا الصناعة وعالم التكنولوجيا، لذا فان ثنائية ابداع العقل العربي العراقي (المجهضة) باتت موضع انتباه كبير في الغرب من خلال بيانات صادقة وموثوقة… وان كفاءة العقل العربي بالمقابل باتت معروفة في مراكز البحث الاجنبية المتطورة عبر عشرات العقول المتسربة من اوطانها اليها، ولا يمكن للعقل المبدع ان يتجرأ، فالمبدع في الخارج له ظل في الداخل، والمبدع في الداخل له قرين او اكثر وتلك هي معضلة العلم الغربي ازاء العلم العربي.. انه بدأ يدرك توالد العقول العربية بمتوالية عددية في الربع الثالث من القرن العشرين اما في الربع الرابع الاخير منه فقد شهد نمو هذه العقول بمتوالية هندسية.
 من هنا نستطيع القول، ان تدمير اي منشأة لا يعني الا تدمير الهيكل الخارجي للعقل، اما بنيته الداخلية فقائمة متينة بعشرات بل بمئات العقول العلمية العربية التي تقدر على الانجاز لانها اصبحت قادرة على التصميم والتنفيذ وليس التنفيذ فقط، والغرب يعلم كم هو حجم الفرق بينهما وقيمته الادائية.
 ان العلاقة الجدلية بين العلم الغربي والعقل العربي هي علاقة تضاد من جانب الغرب وعلاقة معركة متصلبة من جانب العرب، فاذا استمر التضاد فان المعركة لابد ان تحسم، لان كل مقومات النهوض العلمي القومي متاحة وما تحتاجه هو حسن الاستثمار وقد تحقق ذلك في العراق فعلاً قبل الاحتلال الامريكي له، فهل ننتظر تحقيقه راهناً وفي باقي الاقطار العربية ومن ثم نقرب ساعة حسم المعركة اجيالاً وعقوداً وسنوات؟ اعتقد، نعم، اذ لابد من صنع نهاية لعلاقة التابع بالمتبوع ليحل محلها تكافؤء مشروع ومسوغ.

[email protected]