عُرِفت العلمانيّة حسب الفهم الرائج على انها فكر يدعو الى فصل الدين عن الدولة او فصل الدين عن السياسة . وقد نشأ هذا الفهم الخاطيء للعلمانيّة بعد الثورة التي احدثها هذا الفكر ضد الكنيسة في عصر مايُسمّى بعصر التنوير او عصر النهضة الاوروبية .. اي ان غاية الفكرة كانت من اجل فصل الدين عن السياسة او فصله عن السلطة . وقد حملَها بعض معتنقي هذه الفكرة على عدم الايمان بالدين والغيبيّات ، لذلك وُصِفت بأنها قريبة من الالحاد . والحقيقة أنه دائما ما يوجد على مرّ التأريخ أُناس لايؤمنون بدين ولا يعتقدون بأله . بنظرة موضوعية وفحص تأريخي دقيق يمكن كشف الالتباس الحاصل والفهم الخاطيء لمبدأ وفكر العلمانية الصحيح الذي قامت من اجله هذه الثورة .
كانت الكنيسة في عصر ما قبل النهضة من اشد المعادين للعلم والعلوم والعلماء وفي صراع دائم بينها وبين العلماء والافكار الاخرى . هذا الصراع صار باعثا وارضا خصبة لنمو فلسفات جديدة تبحث عن تفسير الحياة والوجود بصرف النظر عن الاله والغيبيّات . وبرزت حينئذ نظريات وآراء علمية لعلماء امثال : نيوتن و تشارلز دارون و برونو و جاليلو و غيرهم والذين تُدرّس كتُبهم وافكارهم ونظريّاتهم الآن في الجامعات الغربية .. لم تعجب نظريات وآراء العلماء حول (الكون والاحياء والحركة والتطور الطبيعي) الكنيسة وأعتبرته أمر مخالف لعقيدتها . ولم تستطع الكنيسة استيعابها مجرَّد سماعها بهذه الآراء والافكار ، فقامت بمراقبة الكتب والمطبوعات الصادرة عن هؤلاء العلماء وأتباعهم لئلاَّ يُذيعوا آراءهم المخالفة للعقيدة الكاثوليكية ، وتوسَّعت الكنيسة في تشكيل محاكم التفتيش ضدَّهم ، وقد حكمت تلك المحاكم في الفترة من 1481 – 1499م على تسعين ألفًا وثلاثة وعشرين شخصًا بأحكام مختلفة ، كما أصدرت قرارات تُحرِّم قراءة كتب جاليليو و برونو و كوبرنيكوس ونيوتن ، وأمرت بحرق كتبهم . ففي غَرْنَاطة وحدها تمَّ إحراق ثمانية آلاف كتاب ومخطوط لمخالفتها آراء الكنيسة (1) . في هذه المرحلة تولّد مضمار يدور فيه كم هائل من الفلاسفة والأدباء والمفكِّرين ، الذين كانت آراؤهم في المجمل تُهاجم الكنيسة بقوّة وعنف ، وهذه هي المرحلة التي وُلِدَ فيها الفكر الغربي الذي يرفض وجود الإله ، ويعتمد مبادئ الصدفة أو التطوُّر أو الشك ، ويعتقد بقيمة الانسان فقط ، ويقول بنقل السلطة والتشريع للانسان دون الإله .
نعتقد ان سبب نشوء هذه الآراء هو كان كردَّة فِعْلٍ على ما كانت الكنيسة الغربية تقوم به من احتكار واحكام وتعسّف وقمع للحريّات تجاه حياة الناس العامَّة فضلا عن موقفها السلبي المُتجبّر من العلم والعلماء ، فلا يستطيع أحدٌ أن يُدير شئون حياته بعيدًا عن رقابة الكنيسة ومباركتها ، وإلاَّ تعرَّض هذا الشخص لعقوبات كنسيّة وصلت في كثير من الأحيان إلى الاعدام . اذن حسب هذا نعرف ان الفهم الاساسي للعلمانيّة هي الدعوة الى (العلم) ومن هذا انبثق المصطلح وأقترن به . وليس الاساس من هذه الدعوة فصل السياسة او الدولة عن الدين او محاربته كما رأينا ، بل ان الأمر لم يكن مرتبطا ولا علاقة له بتاتا بالسياسة او سلطة الدولة (بما هي دولة) ولا نستبعد تأثير المؤسسة الدينية الكُنسيّة على الدولة . كل ما في الأمر ان رموز المؤسسة الدينية الكُنسيّة وسلطانها حاربت العلم والعلماء وتحكّمَت بحياة عموم الناس في مجتمعها ، لظنّها واعتقادها ان هذه العلوم والآراء والنظريّات مجرّد هرطقات تخالف عقيدة الكنيسة . ولم ينجُ من هذا الوضع الفاسد البائس أحدٌ حتى كبار العلماء .
انموذج تعريفي آخر للعلمانيّة :
في إحدى محاضراته عرّف السيد الصرخي الحسني العلمانية التعريف الصحيح ردّا على مَن يرفض ويُكفّر العلمانية داعيا الى العلمانية المقترنة مع الدين قائلا : ” لا نكون كالجهلاء وكالببغاوات نرفض العلمانية نكّفر العلمانية ، العلمانية ماذا تقول ؟ العلمانية تدعو الى العلم ، العلمانية اتت لمحاربة الكنيسة ، لمحاربة القياصرة الذين كفّروا العالِم ، كفّروا النظريات العلمية ، كفّروا العلم وطلب العلم ، قتلوا العلماء صلبوا العلماء فأتت دعوى للعلم ، العلمانية اتت من العلم اتت من طلب العلم اتت من الدعوة للتعلم اتت من الدعوى الى المعرفة . لماذا انكسر مارد وشيطان العلمانية الماسوني عند البلاد الاسلامية ؟ لم ينقلب المجتمع إثر تأثير اكثر وحصل كثير من الانقلابات لكن الانقلاب الذي حصل في المجتمع الاسلامي والمجتمع العربي ليس كالإنقلاب الذي حصل في المجتمع الغربي ، لماذا لم يحصل الانقلاب الكلّي في المجتمع الاسلامي في تأثيرات المارد العلماني الماسوني ؟ لأن الاسلام هو الذي دعا الى العلم هو الذي أمر بالعلم هو الذي أمر بطلب العلم ليس كالكنيسة وحُكم الكنيسة والمعابد اليهودية وغير اليهودية اولئك حاربوا العلم ، اولئك جعلوا ضمن المنهج والنظرية الدينية عندهم محاربة العلم وأهل العلم بينما الاسلام دعا الى العلم والى طلب العلم لكن العلم مع الاخلاق الحميدة الفاضلة مع الايمان “.
اذن هذا منهج اسلامي آخر يُضاف ويؤكد لنا ايجابية العلمانيّة مفهوما ومصداقا، ولكن ليست العلمانية الجزئيّة التي تقول بـــ (فصل الدين عن السياسة) ولا العلمانية بمفهومها الشامل ورؤيتها الشاملة للعالم وهي تحاول بكل صرامة تحديد عَلاقة الدين مع مطلق مَجَالات الحياة الثقافية والسياسية الاخرى ، بالتأكيد هذه رُؤية ماديّة تدور في إطار المرجعية الماديّة التي ترى أنَّ مركز الكَوْن كامِن فيه ولا يفارِقه الصورة الطبيعية ، صورة الصُدفة خارج الغيبيّات ، وترى الانسان مجرّد كائن ليس له وَعْي مستقل وغَير قَادِر على التَّجَاوُز والاختيار الأخلاقيّ الحر وتُشير إلى ما هو منتمي إلى العالم أو الدنيا أي دون النظر إلى العالم الروحي أو الماورائي ، ولا علاقة للمصطلح بالعلوم أو سواها وإنما يشير إلى الاهتمام بالقضايا الأرضية فحسب . وتتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية بدلاً من الاهتمام بالشؤون الآخروية . وهي تعتبر جزءًا من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة الداعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به بدلاً من إفراط الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الأخر . هذه المعاني وهذا الفهم وهذه الرؤية الخاطئة لمصطلح ومفهوم العلمانيّة (الجزئي والشامل) مفروضة أُضيفت قسرا من قِبل الماسونيّة والصهيونيّة العالمية التي تهدف الى حرف العلمانية عن فهمها الصحيح ، وبالتالي الاطاحة بالاسلام ومبادئه وقيادته الدينية في مجتمعاتنا وعالمنا الاسلامي .
لذلك نرى ان مصطلح العلمانيّة قد فسّر نفسهُ بنفسه .. فهي مبدأ يدعو الى العلم والتعلّم ، وهذا مبدأ ومطلب اسلامي بحت ، العلمانيّة المقترنة مع العلم والدين والاخلاق الحميدة ، وليست العلمانية التي تفتك وتطيح بالدين وتبعد الناس عن الله تعالى ، وليس صحيحا أنّها ليست من الدين . لهذه الاسباب ولهذه المعاني (الجزئية والشاملة) الخاطئة وغيرها من الاسباب ، فشلَت العلمانيّة في ان تُحدث ثورة وانقلابا كُليّا في البلاد العربية والاسلامية كما حدثَ وحصل في المجتمعات الغربية رغم تأثّر البعض واعتناق البعض الآخر لهذا الفكر دون معرفة وادراك مُسبق بمفهوم العلمانيّة حسب الفهم الاسلامي الاصيل.