مقدمة:
المفارقة في موضوع الدولة الوطنية والاستعمار والصراع ما بين العلمانيين والإسلاميين تتجلى باختلاف تطلعات شعوب المنطقة وأهداف الدول الاستعمارية اختلافا جذريا، فبينما كانت الشعوب ترى في الغرب نبراسا للتحرر والتقدم وتسعى للخلص من الاستبداد والتخلف والفقر الذي خيم على كل بلاد العرب تحت الحكم التركي العثماني. ومع نشأة الدولة الوطنية بعد التحرر والاستقلال وتحديدا ظهور الدولة الأتاتوركية، كانت الشعوب العربية تعلق آمالا كبيرة على حركة العلمنة التي شهدتها المنطقة. بالمقابل كانت دول الغرب الاستعماري تنظر للعالم العربي بمنظار الغنيمة التي تتقاسمها بعد سقوط الدولة العثمانية، ومع أن الدول الاستعمارية نفسها قد تجاوزت النظرة الدينية بين شعوبها وحجمت دور الكنيسة وتدخلاتها في السياسة، إلا انها لم تتخلص من بُعد نظرتها الدينية إلى العالم الإسلامي، وقد لاحظنا هذا البعد واضحا وجليا في تعامل دول الاستعمار مع مجتمعاتنا وخصوصا الاستعمار الفرنسي الذي جسد الطائفية في تعامله، وهو الذي يفتخر بثورته العلمانية ونظامه الوطني الجمهوري وبمبادئ الحرية. إن تعامل الغرب مع العالم الإسلامي يتناقض جذريا مع الثقافة الغربية، ولايزال هذا التناقض قائما ويشكل عقدة تاريخية نجمت عنه فترة الحروب الصليبية. الجدير بالملاحظة أن الثورة العربية التي كانت أهم عامل في سقوط الحكم العثماني، وهي التي تمثل ثورة تحرر وطني وقومي، لم تنطلق من منظور ديني وقد شاركت فيها جميع الأعراق والطوائف الدينية وبينما كان العرب يتطلعون إلى تأسيس دولة قومية واحدة فقد تم تقسيمهم إلى دول متعددة وخاضعة قسرا للانتداب الاستعماري، وبذلك التقسيم تبدل واقع العالم العربي ودخلت الشعوب في مرحلة أكثر تعقيدا في مواجهة ومقاومة الاستعمار.
رغم أن السجال قائم منذ مئات القرون بين دعاة الحكم الديني وبين العلمانيين الرافضين للدولة الدينية، إلا أن في العراق تغير مفهوم الأيديولوجيا وتحول الصراع بين العلمانيين والإسلاميين إلى حلف استراتيجي بغية الوصول إلى السلطة. بمعنى لا وجود للصراع الفكري بين الأحزاب المتنافسة على الحكم بمختلف مرجعيتها واتجاهاتها الفكرية. التيار العلماني في العراق بكل تشكيلاته يسارية ليبرالية مقلد فاشل للتجربة الغربية، فهي ليست علمانية جون لوك أو فولتير وباروخ الذين كانوا إعلام الفكر الحر في عصر التنوير، بل على العكس ثمة بعض من النخبة وقادة التيار العلماني حوموا حول زعماء التيار الإسلامي وصاروا فقهاء في الشريعة ويبررون للإسلاميين كل السلبيات ويحسنون كل الايجابيات، فتلاشت لدينا العلمانية وما يرتبط بها من إشكالات الحداثة والديمقراطية. بالمقابل يعتبر التيار الإسلامي في العراق مطبق سيء لبعض التجارب الإسلامية الناجحة في العالمين العربي والإسلامي، كذلك فهو بعيد جدا عن نزعة التقليد للتراث الإسلامي بمختلف اتجاهاته، ذلك التراث الذي تشوبه آلاف الملاحظات لسببين، الأول هي العقلية الدغمائية التي كتبت التراث، والثاني القدسية التي اكتسبها التراث بما لا يسمح بقراءة النص بطريقة موضوعية مترابطة من أجل الوصول إلى المعرفية.
عند هذه المسألة تكمن الانتهازية والمصلحية للعلمانيين من أجل الوصول إلى السلطة، وذلك لأنهم يتهمون الإسلاميين بإقحام الدين أيديولوجيا بالسياسة، وبهذا المعنى العلماني سُينزع قدسية التعايش الاجتماعي فيسحق كل من يعارض أفكاره ومعتقداته الحزبية، وعليه فهم يرفضون أصلا حشر العقائد الدينية في أيديولوجية حزبية لديها قدسيتها الراسخة في عقول جمهور التيار الإسلامي. وبما أن تلك القدسيّة لا تسمح بالنقاش أو النقد ولا تقبل أي إضافة أو اجتهاد على حساب ثوابت الدنيا باختصار هي منغلقة على نفسها ولا تنسجم مع فكر الآخر، إذن كيف يتحالف العلماني مع الإسلامي إلا من باب التقية العلمانية. وعند هذه التقية الليبرالية الحرة يصبح الهدف المرحلي لدعاة العلمانية هو وأد الديمقراطية التي لطالما صدعوا رؤوسنا بها، والهدف النهائي، وهو الوصول إلى السلطة. حتى يدرك الشعب العراقي أن هناك وجها آخر للعلمانيين لا يراه إلا حلفائهم.
من هذا المنطلق، لا أملك سوى أن أبارك للعلمانيين ولا يمنعني انتقادهم أن أذكر تاريخ هذا التيار منذ عام 2003 وإلى الآن، فهو تاريخ يستحق أن يوزن بميزان الذهب، أنه التيار الثابت على المبدأ، وصاحب أعلى درجات الصمود وراء تحقيق الديمقراطية والعدالة والحق، وهو تاريخ جسده على سبيل المثال لا الحصر الحزب الشيوعي العراقي عندما تحالف مع الصدريين، وغيرهم الذين تحالفوا مع باقي الأحزاب والكتل الإسلامية.