23 ديسمبر، 2024 6:46 ص

العلمانيون الجدد في فرنسا

العلمانيون الجدد في فرنسا

قبل أشهر كرر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في خطابه حول اعلان جائحة كورونا جملة: نحن في حرب، سبع مرات، اثارت تساؤلا مشروعا عن معنى ذلك لدى الاعلام والصحفيين والمواطنين! لكن سرعان ما تبين الامر من ان إعلان الحرب هذا موجه الى المواطنين الفرنسيين من المسلمين، اذ مهد هذا الخطاب الذي يشبه اعلانا للدخول الى الانتخابات لصدور مشروع قانون الانعزالية الذي وبضغط من التظاهرات التي عمت الدول الاسلامية مطالبة بمقاطعة البضائع الفرنسية تم تغيير اسمه الى مشروع تعزيز احترام مبادئ الجمهورية. وكما قال الرئيس ماكرون من انه لن يتراجع عن هذا القانون، ووفقا له قامت وزارة الداخلية بأغلاق عدد كبير من المساجد والجمعيات الخيرية والتي تقدم العون الاستشاري والقانوني لمن يتعرض للاسلاموفوبيا في فرنسا وغلق المدارس الخاصة التي ليس لها عقد للتدريس مع وزارة التربية بشكل قانوني ومنع تدريس الأطفال في البيوت وقرارات أخرى مجحفة لا علاقة لها بالعلمانية ولا بالأسباب الموجبة لهذا القانون المذكورة فيه وهي: رفض رجل مصافحة مسؤولة كبيرة لكونها امرأة، سحب أطفال من المدارس الحكومية للتعلم في البيوت المناهج الخاصة ويقصد بها “اللغة العربية والتربية الدينية”، جمعيات رياضية لها نشاطات تبشيرية، أطباء يحررون شهادات عذرية وجمعيات بتأثيرات أجنبية معادية لقيم الجمهورية وأخيرا وجود إدارات عامة لا تعرف فيها مبادئ حيادية العلمانية. إضافة الى ذلك ، يتحجج بعض المسؤولين بالقول انه وفق استطلاع بين الشباب المسلم في فرنسا وجدنا ان 74% منهم يقول ان قانون الله فوق القانون المدني معتبرين ذلك حجة وسببا من أسباب اصدار هذا القانون ، في حين يجيب المختصون بالعلمانية مثل الباحث في علم الاجتماع “باتريك فييل” بأنه أولا حذر من “الاستطلاعات في هذا الخصوص ” وانه من الطبيعي جدا ان يعتبر المؤمنون في بعض الديانات بان قانون الله فوق قانون البشر ، لكن حتى هذه الحجة هي حجة يكفلها قانون الفصل بين الدين والدولة وإعلان حقوق الانسان. في نفس الوقت ، لماذا لا يتم اعطاء نسبة بمن يسبب صداعا للدولة وللمحافظين الجدد المتخفيين وراء ستار العلمانية والتحضر للتهجم على الفرنسيين المسلمين ؟ ما هو اكيد ان هؤلاء قلة قليلة لا يمكنها ان تكون مشكلة جدية مقارنة بما يعيشه الشعب الفرنسي من مشاكل حقيقية !
لقد تم اصدار مشروع قانون تعزيز احترام مبادئ الجمهورية بذكرى تاريخ صدور قانون 1905 الذي يعتبر حدثا مهما في تاريخ فرنسا الحديث تم بموجبه فصل الدين عن الدولة حيث نقل هذا القانون الدولة الفرنسية الى مرحلة جديدة لا تتدخل فيها الكنيسة بالشأن السياسي ولا بالسلطة. ان قانون 1905 الذي يلوح به في كل مشكلة صغيرة وكبيرة مع الإسلام والمسلمين حصريا في فرنسا لا علاقة له بالأسباب الموجبة التي نص عليها مشروع القرار الأخير الصادر ولا باحترام العلمانية من قبل المسلمين لان نص المادة الأولى في القانون يقول بحرية المعتقد وحرية اعلان مظاهره في حدود احترام النظام العام والمساواة بين الجميع امام القانون. وتثبت المادة العاشرة من اعلان حقوق الانسان حرية المعتقد وتقول: لا يقلق أي شخص بسبب أرائه الدينية أذا لم تمس النظام العام المحدد بالقانون.
ان اول من يعرف جيدا قانون 1905 هم ما يمكن ان نطلق عليهم “العلمانيون الجدد” الذين يتحججون بمبادئ العلمانية وبمبادئ الجمهورية لمحاربة “المستعمرين” الفرنسيين المسلمين وتحجيم وجودهم واسكات أصواتهم المدافعة عن حقوق الشعب الفلسطيني وغيره بل لطردهم من فرنسا كما جاء اجدادهم للعمل في مصانعها من ضفة المتوسط الأخرى لانهم خطر على الحضارة الفرنسية والغربية عموما. خطاب العلمانيون الجدد ليس خطابا علمانيا كما يحبون ان يظهروا امام الرأي العام الفرنسي بل هو خطاب ديني متعصب جذوره في التوراتية والصهيونية وفي مفهوم “الإرهاب الإسلامي” المصنوع في معاهد التفكير بعد احداث نيويورك عام 2001 لنظرائهم المحافظين الجدد مهندسي غزو وتدمير العراق ، يتردد صداه في الاعلام وتبادل المعلومات منها نشر الكاريكاتير المسيء للرسول في باريس بعد الدنمارك الى التدخل “بشؤون إدارة ضواحي باريس وشبابها ” المناهضة للاحتلال في فلسطين والعراق بعد عام 2003 وصولا الى التحريض والدعوة اليومية العلنية للحث على كراهية المسلمين في فرنسا رغم وجود العقاب القانوني لمثل هذه الدعوات الى اليوم. يبدو قرار “تعزيز احترام مبادئ الجمهورية” ضد الفرنسيين المسلمين قرارا يستهدف المسلمين في فرنسا أولا ليتبعه في اوربا ومن بعدها أمريكا بسبب حملة BDS للمقاطعة ضد الكيان الصهيوني التي تعطي ثمارها اكثر واكثر وخاصة في الولايات المتحدة الامريكية ولدى جزء من الجالية اليهودية من الشباب والطلاب، لان مثل هذه القوانين تشل أي دعم للقضية الفلسطينية ودعم أي تحرك مشابه وفي حال تمرير مثل هذا القانون ، يمكن تعميمه في أمريكا التي تتوسع فيها الحملة من قبل نشطاء الشتات الفلسطيني والعربي والجمعيات العربية والشخصيات التي وصلت الى الحزب الديمقراطي وتمكنت من الدفاع عن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. ليس ذلك فحسب بل ان هذه الحلقات التي تدعي العلمانية وتتبجح بمبادئ وقيم الجمهورية تخرب الديمقراطية والسلم المدني والعام وذلك عبر تشويه أحزاب اليسار مثل حزب فرنسا غير الخاضعة والحزب الشيوعي والحزب المناهض للرأسمالية وشخصياتها. وقد تفتقت عقولها أخيرا عن تعبير “اسلامو- يساري ” الذي بدأ الاعلام المهيمن والصحفيين التابعين له بترديده باستمرار لتخويف الناس من انتخابهم ولجذب أصوات اليمين المتطرف لصالح الرئيس ماكرون لكي لا يكون امامه الا مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين التي يسمح وجودها امامه في الدور الثاني من الانتخابات بالفوز.
لقد فند جان لوك ملينشون رئيس حزب فرنسا غير الخاضعة قرار الحكومة واعتبره اعلان حرب دينية في فرنسا ووقف امام البرلمان ليقول للنواب بأنها حرب على المسلمين وهل تستطيعون حل الأحزاب الهوياتية والفوقيه البيضاء المتطرفة ؟ كلا !هل تستطيعون حل رابطة الدفاع اليهودية التي أجبرت البرلمانيين من حزبنا على الانسحاب من تظاهرة تحت حماية البوليس ؟ الجواب كلا ! هل لديكم النية في قطع علاقاتكم مع بعض الدول الإسلامية التي تدين العشرات بالموت سنويا ؟ كلا !
لقد حاول الرئيس ماكرون بداية حكمه تسويق مفهوم المعاداة للصهيونية كمعاداة للسامية وفشل مسعاه لدى الشعب الفرنسي، واليوم تحت حظر كورونا يصدار قانون اخطر ضد المواطنين الفرنسيين المسلمين بحجج لا تتوافق مع قانون 1905 وتعميمها على ملايين من المواطنين. العلمانية في القانون الفرنسي هي ان يكون الجميع متساوون امام القانون بينما يقوم الرئيس الذي هو رئيس كل مواطنيه بالتساوي باتهامهم بعلاقتهم وعلاقة معتقداتهم بالإرهاب وهو ما ورد في نص المشروع “ان شكلا من الانعزالية بأسس دينية قد تأكد في السنوات الأخيرة وهو غير بعيد عن علاقته بالعمليات الارهابية التي أدمت فرنسا في وقت قريب”.
مشروع قانون تعزيز احترام مبادئ الجمهورية الخاص بالمسلمين في فرنسا الذي يتم تسويقه على أساس احترام العلمانية هو سابقة خطيرة تستهدف تكون أي نخبة فرنسية من أصول عربية مسلمة تمتلك وعيا سياسيا وهو يمنع تمتع هؤلاء من أي فضاء ديمقراطي حتى ،مع انحساره المستمر، ليرفع صوته. هذا القانون ومثله قانون الامن الشامل الذي صدر في نفس الوقت تم رفضهما من الشعب الفرنسي الذي يخرج بالآلاف كل سبت يطالب بإلغاء هذه القوانين المشابهة لقوانين الحكم الشمولي وهي تدق ناقوس الخطر لمستقبل كل الفرنسيين والمسلمين في فرنسا بشكل خاص؟