ما يزيد من معاناة الشعب العراقي ونكباته المتعاقبة وطغيان السيء ونموه المستمر هو سيادة المسألة الدينية على المشهد السياسي للدولة العراقية وخصوصاً بعد الاحتلال الاميركي .
الحقيقة السائدة التي عاشها المجتمع العراقي منذ تأسيس الحكومة سنة 1921م واقرار دستورها وشكلها العام سنة 1923 م . كانت تتخذ من مفهوم العلمانية والديمقراطية وحرية الرأي وحق التعايش السلمي بين الاديان والقوميات والمذاهب مسارات ثابتة واساسية مرتكزة على احترام مشاعر المجتمع العراقي بشكل عام تجاه انتمآته المختلفة , يرتكز المفهوم السياسي لهذه الامور على ثلاثة حالات جازمة للتعايش السلمي بين مكونات المجتمع منها استناد الساسة في اقرار هذه المفاهيم على امور اساسية اولها التقليد والعمل بالمفاهيم البريطانية لفلسفة الحكم السياسي والدفع من بريطانيا بالقبول والالتزام بهذا المنهج كونها الدولة المحتلة للعراق والموجهة لسياسته العامة الداخلية والخارجية بما يخدم مصالحها فيه , الامر الثاني معرفة السياسين العراقين والبريطانيين بطبيعة المجتمع العراقي والقوى المؤثرة فيه وخصوصاً من قبل بريطانيا بعد ثورة العشرين لذلك كان لهذا حضور متميز في الحياة السياسية العراقية مثل القيادات الدينية والعشائرية فكان لهم حضور متميز في الحياة السياسية ماثلاً في الحضور القضائي قانون العشائر المرادف للقانون المدني والاختيار المفتوح لمكونات المجتمع العراقي للخيارات الدينية والعمل بها والتعامل معها , والحالة الثالثة تتظمن الدستور او الدساتير العراقية على الزام وتضمين مصادر التشريع القانوني واساسها الدين الاسلامي على اعتباره دين الاغلبية وبالتالي اقراره كدين الدولة الرسمي مع التجاوز والخروج على ذلك في حالات قليلة ونادرة مثل إجازة محلات الدعارة في بغداد والمحافضات و اقرار وراثة الحفيد للجد و حقوق المرأة وفتح النوادي والبارات ومحلات المشروبات الروحية ” حدثت في النظام الملكي والانظمة التي تلته “. بعد حكم النظام الملكي الذي دام 35 سنة بشكله الاساس معتبرين ذلك من سنة 1923 أقرار النهج والفلسفة السياسية العراقية التي تحاكي قدوتها السياسة الانكليزية . بعد سنة 1958 م حدثت تطورات مختلفة على الحياة السياسية اثرت بشكل سلبي على استقرارها وبدأت تزداد ازماتها مع تقادم الزمن نتيجة التغيرات السياسية في العراق كانت واضحة للعيان رغم حالها السلبي والسري , بسبب عدم استيعاب او قبول قطاعات اجتماعية مؤثرة وانحسار طبقة المثقفين المحايدين وتبريز الموالين للسلطة بالرغم على بقاء الشكل العام السياسي الذي يدعي تعامله بالعلمانية والحالة الاكثر سوءاً هي مناهضة المتضررين للحكام ومفاهيمهم السياسية , وتحريض ودعم دول تضررت من حالة التغيير السياسي في العراق مثل بريطانيا وعدد من الدول الغربية نتيجة الضرر الاقتصادي والتناقض السياسي والفكري بين من يحكمون العراق وهذه الدول , مثل تبريز عبدالكريم قاسم للتيار الشيوعي وإنحيازه للأتحاد السوفيتي في الوقت الذي كان فيه العالم يعيش حالة الحرب الباردة بين الدول الشيوعية والدول الرأسمالية المتمثلين في حلف وارشو وحلف شمال الاطلسي ،
مفهوم العلمانية الذي كان سائداً في العراق كثقافة سياسية مرتكزاً على مفاهيم فحواها انها لا تتناقض مع مفاهيم الدين الاسلامي المعتدلة لكنها تتناقض مع التطرف الديني الاسلامي كونهم يرتكزون على نشأتها وتكوينها في العالم الغربي .
تُجمع اقسام معتبرة من المثقفين العراقيين والعرب على ان ثمة مشكلة ثقافية وراء كل مشكلة سياسية …. تتحكم في العالم اليوم امور يعيشها مثل ” العولمة وصراع الحضارات ومحاربة الارهاب ” هذه الامور حاكمة للعلاقات الدولية المعاصرة , حالة العنف تشغل كامل المشهد العراقي بشكل خاص والعالم العربي والاسلامي بشكل عام , السياسين العراقيين والحكومة الحاليين يتجاهلون التركيز على موجبات الاستقرار الأجتماعي مثل البطالة ومحاربة الامية والبحث العلمي والتدريب المهني والحرفي وتطوير المناهج التعليمية بما يلائم الحالة الوطنية لخلق نطاق فكري لمجابهة الفكر الظلامي المشوه للأسلام وللحضارة العربية وعليه المطلوب بالحاح وشدة لا بد من ( انتباهة سياسية ) واجبة في المستوى الرسمي بما يلزم جميع قطّاعات المثقفين الوطنين العراقيين بألقاء ثقلهم خلفها والعمل على توسيعها وتعميقها أفقياً وعمودياً . من يحكم العراق اليوم احزاب دينية متطرفة غير معتدلة على رأسها حزب الدعوة الذي يدعي زوراً بأنه حزب غير ديني .
من باب الاحترام لحضارة الامة وتعزيز الثقافة والهوية الوطنيتين نحاول هنا وبشكل مختصر ابراز قضيتين اساسيتين من القضايا التي تستوجب المعالجات الجادة بمشاركة الدولة نفسها وبكل اطيافها واشكالها السياسية بشكل واعي واسع وعميق وهما قضية ( الدين والعلمانية ) ومن اولوياتها ( تحرير الوعي الديني ) لقد اهمل اكثر المثقفين بعد الاحتلال قضية الدين مجبورين او مصدومين او مسيّرين حتى اصبح العمل على التعامل مع المسألة الدينية في اي مشروع وطني كما لو كان استنساخ للتخلف والتقهقر الحضاريين تخالف التوجه المعلن للدولة العراقية وبالنتيجة تركت هذه القضية لقوى الرجعية تخادع بها الجماهير المؤمنة وتزايد بها على القوى السياسية التقليدية الغير متطرفة وطبقة المثقفين الواعية والمدركة للأمور بشكلها الصحيح لذا اصبح الواجب المطروح ظمن اولويات قوى ” الاستنارة ” هو التمسك والالتزام بهذه القضية خصوصاً في الجانب الفكري لا السياسي فحسب بهدف وضع الدين في مكانه الائق في الوسط الجماهيري كقوة ايمانية دافعة بأتجاه التقدم وطاقة وحركة تحفز على تغيير الواقع المتردي الخطئ بأقناع الجماهير نفسها لا بأرغامها او خداعها او الاحتيال عليها ولأجل تحرير عقول ” المؤمنين بالدين ” يتوجب اولاً تحرير الدين نفسه بإعادة الاعتبار القرآني لحرية العقيدة والانتباه وعدم الالتزام بالتفاسير القرآنية الداعية للتشكيك والاختلاف واعتمادها على مبدأ القرآن ” حمال اوجه ” وحتى لايختلط الامر نؤكد على ان ذلك من واجبات جماعات التنوير النهوض به من فئة المثقفين بحسب انحيازاتها في اطار الصراع الاجتماعي التاريخي يعزز ذلك وتؤكده الخبرة الماثلة أثبتت انه لم تعُد من مصلحة العراق والدول العربية والاسلامية ابرام اي حلف مع قوى ” الأرغام ” او الخداع او الاحتبال بأسم الدين للأستحواذ على السلطة , والاختلاف بين المؤمنين والغير مؤمنين في فلسفة ” الدين والدنيا ” وبالتالي لا يمكن لأي دولة ان تكون محايدة على هذا الصعيد لذا اضحى من الامور الجدلية الحتمية لهزيمة هذه القوى مثل الخمينية والداعشية وغيرها من هم على شاكلتهم من المتطرفين والمغالين توسيع مساحة حرية التعبير لثقافة التنوير وهذه مثبتة في الدستور العراقي لكن حبر على ورق مع العلم بأن كل تراجع لهذه الحرية يُحتَل من قبل قوى التخلّف المضادة جاذبة لها عناصر التشدد الديني والتطرف العقائدي والارهاب , وعلينا ان ندرك ونفهم انه لا الجماهير قادرة على تحقيق مشروعهم بشكل آلي ولا هم انفسهم كنخبة مختارة ستتصرف كمحامين حرية أو ثورة او وكلائها او كأمناء وحدة وكحراس هوية مصلحة الجماهير تكمن في انحياز المزيد من فئات وشرائح المثقفين الوطنين الديمقراطيين لهدفها التحرري الموضوعي ومصلحتها هذه تكمن ايظاً في انعتاقها مما قد يعتري هذه الفئات والشرائح الاجتماعية من امراض النخب المختلفة ” الدينية والسياسية والثقافية ” واوهام الوصاية على الجماهير , لذلك يجب على شرائح النخب الثقافية التحديد الدقيق لدلالة ” العلمانية ” لدى استخدامها في الفضاء الفكري والسياسي للصراع الاجتماعي في العراق وبلدان المنطقة , واهم ما يسترعي الانتباه الموقفان المختلفان والمتباينان من دلالته ” القبول المطلق ” و ” الرفض المطلق ” دون تميز في كلا الحالين بين السلبيات والايجابيات , الرفض المطلق لمفهوم العلمانية يقضي بالضرورة الى ” تكفير” كل من يدعوا اليها بأعتباره خارجاً عن الملة مفارقاً للجماعة , غير ان هناك موقفاً ثالثاً هو الموقف النقدي الذي يستند الى ” عقلنة ” دلالة تجربة فصل الدين عن الدولة بمعنى قبول بنائها المدني للسلطة السياسية ونفي صفة “التيوقراطي 1″ هذا موقف عقلاني قائم في كون الجانب الايجابي من العلمانية والذي يتوافق مع ” العقلانية الاسلامية ” في تأكيد الاساس المدني للسلطة السياسية ونفي الصفة “التوقراطية ” عنها غالب على الجانب السلبي الداعي ليس فقط لفصل الدين عن السياسة وليس الدولة كأمر مطلوب ومقبول وليس اقصاء الدين بالكلّية عن الجماهير بأسرها . يعتمد كلا انصار العلمانية او خصومها نفس المنهج الحدي من قبولها او رفضها بلا تبصر بينما يقوم المنهج الصحيح على الموازنة الجدلية , مسألة السياسة الثقافية العلمانية لا تنفصل عن الالتزام الديمقراطي بحقوق الانسان وضمنها الحرية الدينية وتوطيد التنوع الثقافي الذي يفضي لأثراء المجتمع عن طريق مساعدة الاقليات على الاندماج في النسيج الاجتماعي الكبير مايعني تأكيد مسؤولية الكل تجاه ديمقراطية المجتمع وهو الأمر الذي لايمكن الحكم لهُ اوعليه الا من خلال ملاحظة مدى نجاح او فشل كل من الاديان الرئيسية , ليس فقط في الاقرار النظري وإنما في الالتزام العملي أيضاً بواقع التعدد الديني والاختلاف المذهبي ومن ثم بحرية الجميع الدينية بشكل متساوي . على السياسيين العراقيين العمل ” بالعلمانية الايمانية ” وفصل الدين عن السياسة وبداية ذلك اعادة صياغة الدستور وتعديل القوانين التي تتعارض معها وهذا يشكل ” مقتربات ” للدخول الى الحال الجديد الذي ان تم الاخذ به سيشكل منعطفاً تاريخياً بالغ الاهمية سيفضي الى حالة من الاستقرار الاجتماعي والبناء والتطور الاقتصادي والسياسي غير ذلك يبقى الحال المزري المخيف في العراق كما هو عليه ولن يتحسن ويسير من سيء الى اسوء لن يتغير حال العراق لافي القريب ولا في المستقبل البعيد الوضع الحالي يرتبط ” بحتمية ” التغيير في فصل الدين عن السياسة اذا ما تطلعنا نحو الافضل .
1. تيوقراطية :
دولة أو حكومة يسيرها الرهبان أو رجال الدين . وآخر مثال على ذلك إيران بعد سقوط الشاه سنة 1979 واستيلاء الخميني على السلطة