18 ديسمبر، 2024 10:08 م

العلمانية المتدينة والتديّن العَلماني

العلمانية المتدينة والتديّن العَلماني

بعد سقوط النظام الشمولي في العراق في العام 2003؛ أخذ العلمانيون والإسلاميون العراقيون يطرحون رؤى تصالحية فكرية وعملية غير مسبوقة؛ في محاولة للتماهي مع الواقع السياسي الجديد. فقد فرض هذا الواقع ضغوطاً هائلة على القبليات الفكرية للطرفين؛ أجبرتهما للسعى وراء إيجاد معادلات فكرية واقعية للعمل المشترك مع الآخر المختلف ايديولوجياً. ولا يقتصر هذا الاشتراك على الجانب السياسي وحسب؛ بل يشتمل على التشريع والقضاء والتنفيذ، وهو عمل كان يمثل قبل بضعة عقود خطوطاً حمراء أو شبه حمراء.
و لم يمثل العمل المشترك بين أبناء البلد الواحد المختلفين فكرياً مشكلة أساسية بحد ذاتها؛ بل كانت المشكلة ولاتزال تكمن في طبيعة صيغ الاندماج السياسي والحكومي المشترك، والتي جاءت انفعاليةً وسريعةً وغير علمية؛ ربما بسبب ضغوطات مشروع الإحتلال، وإرث الدولة المتعارض مع حقائق المجتمع العراقي، والتحولات السريعة والنوعية التي تعرضت لها بنية الدولة العراقية، وحداثة التجربة السياسية التي تقود الحكومة. وهي عوامل نوعية فاجأت الجميع وصدمتهم و لاتزال تربكهم؛ لأنهم لم يؤسسوا لها نظرياً ولم يقاربوا إشكالياتها من قبل؛ برغم أهميتها؛ كونها ترتبط ارتباطاً مباشراً ووثيقاً بأسس الفكر السياسي لكلا الإسلاميين والعلمانيين.
ولعل الدستور العراقي الجديد وكثير من القوانين والقرارات؛ بل حتى القرارات التنفيذية للأجهزة الحكومية المحلية؛ ظلت تدور في دوامة هذه الصدمة، وتتعامل معها وفق رؤى آنية؛ الأمر الذي يجعل الباحثين في القانون الدستوري والفكر السياسي يستغربون حجم التضاد الفكري بين مواد الدستور العراقي ذات العلاقة بمبادىء الدولة العراقية وهويتها وخصائصها الفكرية. وكان سبب ذلك هو محاولات التصالح بين الأفكار المتعارضة؛ لإرضاء أصحابها؛ لأنهم جميعاً شركاء في العملية السياسية.
ويرتكز هذه التصالح العشوائي على محاولات التوليف بين مرجعية الشريعة الإسلامية والمرجعيات الوضعية في مجال التشريع، وفي رسم مسار الاجتماع السياسي العراقي، وهي أحد أهم صور الإسلامية الإنتقائية أو العلمانية الإنتقائية. و تعد الأنظمة السياسية للبلدان المسلمة نماذج تطبيقية لهذه الفكرة، فهذه الأنطمة ليست علمانية؛ لا شكلاً و لا مضموناً، وليست إسلامية أيضاً؛ بل أنظمة هجينة في عقيدتها السياسية؛ الى مستوى التعارض في تشريعاتها ونظمها الإدارية والقضائية؛ أي أنها علمانية بنسبة معينة وإسلامية بنسبة أخرى. و لذلك يعد النظام السياسي في عراق ما بعد العام 2003 النموذج الأكثر تعبيراً عن هذا التعارض. ولا نقصد هنا جانب الممارسة وحسب؛ بل بنى النظام السياسي الفكرية والقانونية والإدارية أيضاً.
ويعود هذا الإرباك في بنى النظام السياسي في العراق وغيره من البلدان المسلمة الى طرائق استيراد المسلمين للأفكار، أو تصديرها إليهم؛ كالعلمانية والليبرالية والعقلانية والديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والمجتمع المدني والتنوير والثيوقراطية والقومية و الدولة القومية وغيرها؛ إذ دخلت هذه الأفكار وعي المسلمين بطرائق يغلب عليها الطابع الإنفعالي والمزاجي؛ واختلطت بإرثهم التاريخي والثقافي والاجتماعي؛ الأمر الذي أفرز أفكاراً ونظماً مشوهة لا تشبه أياً من تلك الموجودة في الغرب أو الشرق؛ برغم أن النخب المحلية تطلق على نتاجاتها الهجينة المسميات الغربية والشرقية نفسها.
وقد كان نتاج الخلط الانفعالي بين الايديولوجية الإسلامية والايديولوجيات الفكرية والفلسفية التي تنتمي الى معادلات مناخية وتاريخية اجتماعية مختلفة؛ ظهور مخلوقات غريبة تحمل عناوين إسلامية وعلمانية في الوقت نفسه؛ كالديمقراطية الإسلامية، والماركسية الإسلامية، والمجتمع المدني الديني، والإسلام التنويري؛ وصولاً الى ظهور رجال دين ملحدين، ومتدينين شيوعيين. وهو انعكاس للفوضى المعرفية التي تعيشها الدولة والنخب السياسية والثقافية.
ويعبِّر هذا التهجين الإنفعالي عن أكبر ألوان العجز؛ بعد أن قرر الإسلاميون والعلمانيون تطويع الواقع الإسلامي لمذاهب فكرية لم يفرزها، ونظام اجتماعي لم تنتجه بيئة المسلمين، وذلك ليحقق الطرفان هدف الشراكة السياسية القسرية والتحاصص في القواعد الفكرية للدولة ونظام الحكم من جهة، وليتمظهر الإسلاميون بالواقعية و بمظاهر التحضر والمدنية على النمط الايديولوجي الغربي، ويبعدون عن أنفسهم شبهة الانغلاق والتعصب والتطرف والتخلف من جهة أخرى.
و الحقيقة أن كل هذا الجهد التوفيقي العملي لا يمكنه بناء أسس رصينة لدولة متماسكة فكرياً، ولا حكومة قوية؛ فضلاً عن أنه لا يقنع الغرب ولا يرضيه؛ لأن النخب السياسية والثقافية الغربية تدرك مدى التشويه الذي تلحقه عمليات التهجين الانفعالية تلك بفكره ونظمه، وبذلك لا يعترف الغرب بعلمانية حكومات البلدان المسلمة ولا ديموقراطيتها ولا اشتراكيتها.
ولا شك؛ أن الغرب في تبنيه الليبرالية العلمانية؛ إنما يلتصق بحقائقه الموضوعية، وينسجم مع واقعه؛ فالعلمانية الحقيقية التي أنتجتها البيئة الغربية بفعل تراكمات فكرية تاريخية و واقعية لازمت الصراع بين الأنظمة الثيوقراطية الكنسية والاستبدادية الفردية من جهة، وخصومها من جهة أخرى، تعبّر عن فصلٍ شبه كاملٍ بين العقيدة الدينية، وبين الدولة وتشريعاتها ونشاطاتها السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا الفصل تحوّل من أفكار وتشريعات إلى مؤسسات ونظم صارمة على الأرض. وبالتالي فالدولة الغربية العلمانية حيادية بين الدين واللادين في كل المجالات.
أما علمانية أنظمة البلدان المسلمة، ومنها العراق؛ فهي علمانية من طراز خاص؛ يمكن أن نطلق عليها مصطلح الأنظمة «العلمانية المتدينة» أو «الإسلامية المعلمنة»؛ لانها أنظمة ليست حيادية بين الدين واللادين؛ كما هو مقتضى العلمانية؛ بل أنها أنظمة متدينة في بنيتها؛ فهي تولي الدين أهمية كبيرة؛ ليس على صعيد النشاط الاجتماعي؛ بل على صعيد حركة الدولة وتشريعاتها ومؤسساتها أيضاً؛ أي أنها لا تفصل بين الدين والدولة، ولا تفصل بين الشريعة والسياسة، ولكنها تنتقي مجالات اللقاء والفصل وفقاً لما تقتضيه مصالحها وأهدافها الخاصة. فمثلاً تؤكد دساتير البلدان المسلمة على أن الإسلام هو دين الدولة، أو أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع أو أحد مصادر التشريع في الدولة، وهذا هو التناقض الأهم مع جوهر العلمانية وفلسفة المذهب الديمقراطي وأي مذهب أرضي آخر؛ لأن كون الشريعة الإسلامية مصدر التشريع أو أحد مصادره؛ يعني أن السلطة التشريعية لن تكون حرة أو مطلقة اليد في تشريعاتها، وإنما ستكون ملزمة (نظرياً كحد أدنى) بمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية؛ فهي مرجعية التشريع وليس الشعب.
كما أن لكل دولة مسلمة مرجعاً دينياً رسمياً يحمل لقب «المفتي»؛ يمتلك صلاحيات لها علاقة ـ أحياناً ـ بعمل الدولة وسياساتها العامة؛ بل أن بعض الحكومات تستند في بعض ممارساتها السياسية إلى فتاوى هذا المفتي؛ لإضفاء طابع الشرعية الدينية على تلك الممارسات. وتخصص هذه الأنطمة ـ أحياناً ـ مؤسسات دينية لها حق الرقابة الكاملة على النتاجات الثقافية والفكرية والفنية التي تتطرق للموضوعات الدينية. أما على مستوى القضاء فهناك دول تحيل حالات الإعدام على مفتي الدولة لإقرارها وإمضائها، وليس على رئيس الدولة؛ ما يعني أن الأحكام القضائية، ولا سيما ما يرتبط بالقوانين المدنية والجزائية؛ خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية.
وفي الوقت نفسه لا يمكن إطلاق صفة «النظام الإسلامي» على مثل هذه الأنظمة؛ لأنها لا تدّعي ذلك أساساً؛ فضلاً عن وجود اختلاف بنيوي بينها وبين الحكم الإسلامي؛ فالأخير خاضع للدين والعقيدة والشريعة الإسلامية في هيكله ونظمه وممارساته، وكل مجالات حركته وعمله؛ بما في ذلك الأهداف والغايات والسياسات والمشروعية والأركان والسلطات والتشريعات والسلوكيات. وبالتالي فالحكم الإسلامي لا يفصل ـ بأي نحو كان ـ بين العقيدة والشريعة من جهة، والدولة وأهدافها وقوانينها ونشاطاتها من جهة أخرى؛ لأنها دولة تأسست على العقيدة الدينية وليست دولة سياسية.
أما الأنظمة التوفيقية الهجينة فهي تنتقي من التشريعات والنظم الإسلامية ما يناسب واقعها السياسي، وكذا مايناسبها من التشريعات والنظم العلمانية. ولا تتمثل مشكلة هذا التهجين في أساس الاقتباس من النتاجات البشرية المحايدة فكرياُ وفلسفياُ، أو مايمكن أن يسمى بالأدوات والآليات والتقنيات؛ سواء في الجانب السياسي أو الاقتصادي او التعليمي أو التشريعي أو القضائي، وهو أساس مقبول؛ بل في عشوائية التهجين المطبّق وعدم منهجيته، وخضوعه لرغبات الجماعات الحاكمة و أمزجتها و مصالحها وصفقاتها السياسية.
ولذلك فإن تخلص الدولة العراقية من كل ألوان العبثية الفكرية المذكورة يعد الخطوة الأولى باتجاه إعادة بناء الدولة بناءً فكرياً منهجياً سليماً و واقعياً. وهذا لايعني بأي نحو دعوةً الى تأسيس دولة إسلامية عقائدية؛ وإن كان من حق الجماعات الإسلامية التنظير لذلك؛ ولكن الهدف يتمثل في بناء دولةٍ تستند الى التشريعات والنظم التي تنسجم وهوية الأمة العراقية؛ بكل مكوناتها وتوجهاتها الفكرية، و ليس وفق منهجية الترضيات الإنفعالية والمزاجية.
وهذه المهمة العلمية الفكرية الرصينة ينبغي أن لا يباشرها السياسيون؛ بل يتركونها للمفكرين والفقهاء وعلماء الإجتماع السياسي وخبراء القانون الدستوري. وماينتجه هؤلاء الإختصاصيون يمثل قبليات ملزِمة لمشروع تعديل الدستور العراقي؛ لأن رفع التعارضات في مواد الدستور؛ سواء المتعلقة بالأسس الفكرية للدولة أو مؤسساتها؛ سيسد الذرائع والثغرات التي ربما يسيء استغلالها المشرع أو التنفيذي الذي يعمل وفق تفسيراته الفئوية وايديولوجيته الخاصة.العَلمانية المتدينة والتديّن العَلماني
علي المؤمن
بعد سقوط النظام الشمولي في العراق في العام 2003؛ أخذ العلمانيون والإسلاميون العراقيون يطرحون رؤى تصالحية فكرية وعملية غير مسبوقة؛ في محاولة للتماهي مع الواقع السياسي الجديد. فقد فرض هذا الواقع ضغوطاً هائلة على القبليات الفكرية للطرفين؛ أجبرتهما للسعى وراء إيجاد معادلات فكرية واقعية للعمل المشترك مع الآخر المختلف ايديولوجياً. ولا يقتصر هذا الاشتراك على الجانب السياسي وحسب؛ بل يشتمل على التشريع والقضاء والتنفيذ، وهو عمل كان يمثل قبل بضعة عقود خطوطاً حمراء أو شبه حمراء.
و لم يمثل العمل المشترك بين أبناء البلد الواحد المختلفين فكرياً مشكلة أساسية بحد ذاتها؛ بل كانت المشكلة ولاتزال تكمن في طبيعة صيغ الاندماج السياسي والحكومي المشترك، والتي جاءت انفعاليةً وسريعةً وغير علمية؛ ربما بسبب ضغوطات مشروع الإحتلال، وإرث الدولة المتعارض مع حقائق المجتمع العراقي، والتحولات السريعة والنوعية التي تعرضت لها بنية الدولة العراقية، وحداثة التجربة السياسية التي تقود الحكومة. وهي عوامل نوعية فاجأت الجميع وصدمتهم و لاتزال تربكهم؛ لأنهم لم يؤسسوا لها نظرياً ولم يقاربوا إشكالياتها من قبل؛ برغم أهميتها؛ كونها ترتبط ارتباطاً مباشراً ووثيقاً بأسس الفكر السياسي لكلا الإسلاميين والعلمانيين.
ولعل الدستور العراقي الجديد وكثير من القوانين والقرارات؛ بل حتى القرارات التنفيذية للأجهزة الحكومية المحلية؛ ظلت تدور في دوامة هذه الصدمة، وتتعامل معها وفق رؤى آنية؛ الأمر الذي يجعل الباحثين في القانون الدستوري والفكر السياسي يستغربون حجم التضاد الفكري بين مواد الدستور العراقي ذات العلاقة بمبادىء الدولة العراقية وهويتها وخصائصها الفكرية. وكان سبب ذلك هو محاولات التصالح بين الأفكار المتعارضة؛ لإرضاء أصحابها؛ لأنهم جميعاً شركاء في العملية السياسية.
ويرتكز هذه التصالح العشوائي على محاولات التوليف بين مرجعية الشريعة الإسلامية والمرجعيات الوضعية في مجال التشريع، وفي رسم مسار الاجتماع السياسي العراقي، وهي أحد أهم صور الإسلامية الإنتقائية أو العلمانية الإنتقائية. و تعد الأنظمة السياسية للبلدان المسلمة نماذج تطبيقية لهذه الفكرة، فهذه الأنطمة ليست علمانية؛ لا شكلاً و لا مضموناً، وليست إسلامية أيضاً؛ بل أنظمة هجينة في عقيدتها السياسية؛ الى مستوى التعارض في تشريعاتها ونظمها الإدارية والقضائية؛ أي أنها علمانية بنسبة معينة وإسلامية بنسبة أخرى. و لذلك يعد النظام السياسي في عراق ما بعد العام 2003 النموذج الأكثر تعبيراً عن هذا التعارض. ولا نقصد هنا جانب الممارسة وحسب؛ بل بنى النظام السياسي الفكرية والقانونية والإدارية أيضاً.
ويعود هذا الإرباك في بنى النظام السياسي في العراق وغيره من البلدان المسلمة الى طرائق استيراد المسلمين للأفكار، أو تصديرها إليهم؛ كالعلمانية والليبرالية والعقلانية والديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والمجتمع المدني والتنوير والثيوقراطية والقومية و الدولة القومية وغيرها؛ إذ دخلت هذه الأفكار وعي المسلمين بطرائق يغلب عليها الطابع الإنفعالي والمزاجي؛ واختلطت بإرثهم التاريخي والثقافي والاجتماعي؛ الأمر الذي أفرز أفكاراً ونظماً مشوهة لا تشبه أياً من تلك الموجودة في الغرب أو الشرق؛ برغم أن النخب المحلية تطلق على نتاجاتها الهجينة المسميات الغربية والشرقية نفسها.
وقد كان نتاج الخلط الانفعالي بين الايديولوجية الإسلامية والايديولوجيات الفكرية والفلسفية التي تنتمي الى معادلات مناخية وتاريخية اجتماعية مختلفة؛ ظهور مخلوقات غريبة تحمل عناوين إسلامية وعلمانية في الوقت نفسه؛ كالديمقراطية الإسلامية، والماركسية الإسلامية، والمجتمع المدني الديني، والإسلام التنويري؛ وصولاً الى ظهور رجال دين ملحدين، ومتدينين شيوعيين. وهو انعكاس للفوضى المعرفية التي تعيشها الدولة والنخب السياسية والثقافية.
ويعبِّر هذا التهجين الإنفعالي عن أكبر ألوان العجز؛ بعد أن قرر الإسلاميون والعلمانيون تطويع الواقع الإسلامي لمذاهب فكرية لم يفرزها، ونظام اجتماعي لم تنتجه بيئة المسلمين، وذلك ليحقق الطرفان هدف الشراكة السياسية القسرية والتحاصص في القواعد الفكرية للدولة ونظام الحكم من جهة، وليتمظهر الإسلاميون بالواقعية و بمظاهر التحضر والمدنية على النمط الايديولوجي الغربي، ويبعدون عن أنفسهم شبهة الانغلاق والتعصب والتطرف والتخلف من جهة أخرى.
و الحقيقة أن كل هذا الجهد التوفيقي العملي لا يمكنه بناء أسس رصينة لدولة متماسكة فكرياً، ولا حكومة قوية؛ فضلاً عن أنه لا يقنع الغرب ولا يرضيه؛ لأن النخب السياسية والثقافية الغربية تدرك مدى التشويه الذي تلحقه عمليات التهجين الانفعالية تلك بفكره ونظمه، وبذلك لا يعترف الغرب بعلمانية حكومات البلدان المسلمة ولا ديموقراطيتها ولا اشتراكيتها.
ولا شك؛ أن الغرب في تبنيه الليبرالية العلمانية؛ إنما يلتصق بحقائقه الموضوعية، وينسجم مع واقعه؛ فالعلمانية الحقيقية التي أنتجتها البيئة الغربية بفعل تراكمات فكرية تاريخية و واقعية لازمت الصراع بين الأنظمة الثيوقراطية الكنسية والاستبدادية الفردية من جهة، وخصومها من جهة أخرى، تعبّر عن فصلٍ شبه كاملٍ بين العقيدة الدينية، وبين الدولة وتشريعاتها ونشاطاتها السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا الفصل تحوّل من أفكار وتشريعات إلى مؤسسات ونظم صارمة على الأرض. وبالتالي فالدولة الغربية العلمانية حيادية بين الدين واللادين في كل المجالات.
أما علمانية أنظمة البلدان المسلمة، ومنها العراق؛ فهي علمانية من طراز خاص؛ يمكن أن نطلق عليها مصطلح الأنظمة «العلمانية المتدينة» أو «الإسلامية المعلمنة»؛ لانها أنظمة ليست حيادية بين الدين واللادين؛ كما هو مقتضى العلمانية؛ بل أنها أنظمة متدينة في بنيتها؛ فهي تولي الدين أهمية كبيرة؛ ليس على صعيد النشاط الاجتماعي؛ بل على صعيد حركة الدولة وتشريعاتها ومؤسساتها أيضاً؛ أي أنها لا تفصل بين الدين والدولة، ولا تفصل بين الشريعة والسياسة، ولكنها تنتقي مجالات اللقاء والفصل وفقاً لما تقتضيه مصالحها وأهدافها الخاصة. فمثلاً تؤكد دساتير البلدان المسلمة على أن الإسلام هو دين الدولة، أو أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع أو أحد مصادر التشريع في الدولة، وهذا هو التناقض الأهم مع جوهر العلمانية وفلسفة المذهب الديمقراطي وأي مذهب أرضي آخر؛ لأن كون الشريعة الإسلامية مصدر التشريع أو أحد مصادره؛ يعني أن السلطة التشريعية لن تكون حرة أو مطلقة اليد في تشريعاتها، وإنما ستكون ملزمة (نظرياً كحد أدنى) بمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية؛ فهي مرجعية التشريع وليس الشعب.
كما أن لكل دولة مسلمة مرجعاً دينياً رسمياً يحمل لقب «المفتي»؛ يمتلك صلاحيات لها علاقة ـ أحياناً ـ بعمل الدولة وسياساتها العامة؛ بل أن بعض الحكومات تستند في بعض ممارساتها السياسية إلى فتاوى هذا المفتي؛ لإضفاء طابع الشرعية الدينية على تلك الممارسات. وتخصص هذه الأنطمة ـ أحياناً ـ مؤسسات دينية لها حق الرقابة الكاملة على النتاجات الثقافية والفكرية والفنية التي تتطرق للموضوعات الدينية. أما على مستوى القضاء فهناك دول تحيل حالات الإعدام على مفتي الدولة لإقرارها وإمضائها، وليس على رئيس الدولة؛ ما يعني أن الأحكام القضائية، ولا سيما ما يرتبط بالقوانين المدنية والجزائية؛ خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية.
وفي الوقت نفسه لا يمكن إطلاق صفة «النظام الإسلامي» على مثل هذه الأنظمة؛ لأنها لا تدّعي ذلك أساساً؛ فضلاً عن وجود اختلاف بنيوي بينها وبين الحكم الإسلامي؛ فالأخير خاضع للدين والعقيدة والشريعة الإسلامية في هيكله ونظمه وممارساته، وكل مجالات حركته وعمله؛ بما في ذلك الأهداف والغايات والسياسات والمشروعية والأركان والسلطات والتشريعات والسلوكيات. وبالتالي فالحكم الإسلامي لا يفصل ـ بأي نحو كان ـ بين العقيدة والشريعة من جهة، والدولة وأهدافها وقوانينها ونشاطاتها من جهة أخرى؛ لأنها دولة تأسست على العقيدة الدينية وليست دولة سياسية.
أما الأنظمة التوفيقية الهجينة فهي تنتقي من التشريعات والنظم الإسلامية ما يناسب واقعها السياسي، وكذا مايناسبها من التشريعات والنظم العلمانية. ولا تتمثل مشكلة هذا التهجين في أساس الاقتباس من النتاجات البشرية المحايدة فكرياُ وفلسفياُ، أو مايمكن أن يسمى بالأدوات والآليات والتقنيات؛ سواء في الجانب السياسي أو الاقتصادي او التعليمي أو التشريعي أو القضائي، وهو أساس مقبول؛ بل في عشوائية التهجين المطبّق وعدم منهجيته، وخضوعه لرغبات الجماعات الحاكمة و أمزجتها و مصالحها وصفقاتها السياسية.
ولذلك فإن تخلص الدولة العراقية من كل ألوان العبثية الفكرية المذكورة يعد الخطوة الأولى باتجاه إعادة بناء الدولة بناءً فكرياً منهجياً سليماً و واقعياً. وهذا لايعني بأي نحو دعوةً الى تأسيس دولة إسلامية عقائدية؛ وإن كان من حق الجماعات الإسلامية التنظير لذلك؛ ولكن الهدف يتمثل في بناء دولةٍ تستند الى التشريعات والنظم التي تنسجم وهوية الأمة العراقية؛ بكل مكوناتها وتوجهاتها الفكرية، و ليس وفق منهجية الترضيات الإنفعالية والمزاجية.
وهذه المهمة العلمية الفكرية الرصينة ينبغي أن لا يباشرها السياسيون؛ بل يتركونها للمفكرين والفقهاء وعلماء الإجتماع السياسي وخبراء القانون الدستوري. وماينتجه هؤلاء الإختصاصيون يمثل قبليات ملزِمة لمشروع تعديل الدستور العراقي؛ لأن رفع التعارضات في مواد الدستور؛ سواء المتعلقة بالأسس الفكرية للدولة أو مؤسساتها؛ سيسد الذرائع والثغرات التي ربما يسيء استغلالها المشرع أو التنفيذي الذي يعمل وفق تفسيراته الفئوية وايديولوجيته الخاصة.