لعلَّ أول من ابتدع مصطلح العلمانية هو الكاتب البريطاني جورج هوليوك عام 1851م ، غير أنه لم يقم بصياغة عقائد معينة على العقائد التي كانت قد انتشرت منذ عصر التنوير في أوروبا، بل اكتفى فقط ؛ بتوصيف ما كان الفلاسفة قد صاغوه سابقاً وتخيله هوليوك، من نظام اجتماعي منفصل عن الدين ، غير أنه لا يقف ضده إذ صرح: “لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية .. هي فقط مستقلة عنها؛ ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها ، المعرفة العلمانية تهتم بهذه الحياة، وتسعى للتطور والرفاه في هذه الحياة، وتختبر نتائجها في هذه الحياة . بناءً عليه؛ يمكن القول أن العلمانية ليست أيديولوجيا أو عقيدة بقدر ما هي طريقة للحكم، ترفض وضع الدين أو سواه كمرجع رئيسي للحياة السياسية والقانونية، وتتجه إلى الاهتمام بالأمور الحياتية للبشر بدلاً من الأمور الأخروية، أي الأمور المادية الملموسة بدلاً من الأمور الغيبية.
العَلمانية تعني اصطلاحاً فصل المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية، وقد تعني أيضاً عدم قيام الحكومة أو الدولة بإجبار أي أحد على اعتناق وتبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية غير موضوعية،كما تكفل الحق في عدم اعتناق دين معيّن وعدم تبني دين معيّن كدين رسمي للدولة. وبمعنى عام فإن هذا المصطلح يشير إلى الرأي القائل بأن الأنشطة البشرية والقرارات، خصوصًا السياسية ؛ منها يجب أن تكون غير خاضعة لتأثير المؤسسات الدينية.
تعود جذور العلمانية إلى الفلسفة اليونانية القديمة لفلاسفة يونانيين أمثال إبيقور، غير أنها خرجت بمفهومها الحديث خلال عصر التنوير الأوروبي على يد عدد من المفكرين أمثال توماس جيفرسون وفولتير وسواهما. ينطبق نفس المفهوم على الكون والأجرام السماوية عندما يُفسّر النظام الكوني بصورة دنيوية بحتة بعيداً عن الدين في محاولة لإيجاد تفسير للكون ومكوناته. ولا تعتبر العلمانيّة شيئاً جامدًا بل هي قابلة للتحديث والتكييف حسب ظروف الدول التي تتبناها، وتختلف حدة تطبيقها ودعمها من قبل الأحزاب أو الجمعيات الداعمة لها بين مختلف مناطق العالم. كما لا تعتبر العلمانية ذاتها ضد الدين بل تقف على الحياد منه، في الولايات المتحدة مثلاً وُجد أن العلمانية خدمت الدين من تدخل الدولة والحكومة وليس العكس. وقد يعتبرها البعض جزءًا من (التيار الإلحادي) كما جاء في (الموسوعة العربية العالمية الصادرة في السعودية).
تقدم دائرة المعارف البريطانية تعريف العلمانية بكونها: “حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية بدلاً من الاهتمام بالشؤون الآخروية. وهي تعتبر جزءًا من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة الداعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به ، بدلاً من إفراط الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الآخر, وقد كانت الإنجازات الثقافية البشرية المختلفة في عصر النهضة أحد أبرز منطلقاتها، فبدلاً من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاه في الحياة الآخرة، سعت العلمانية في أحد جوانبها إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية”.
أقدَم التلميحات للفكر العلماني تعود للقرن الثالث عشر في أوروبا حين دعا مارسيل البدواني في مؤلفه «المدافع عن السلام» إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية ، واستقلال الملك عن الكنيسة ، في وقت كان الصراع الديني الدنيوي بين بابوات روما وبابوات أفنيغون في جنوب فرنسا على أشده؛ ويمكن تشبيه هذا الصرع بالصراع الذي حصل بين خلفاء بغداد وخلفاء القاهرة . وبعد قرنين من الزمن، أي خلال عصر النهضة في أوربا كتب الفيلسوف وعالم اللاهوت غيوم الأوكامي حول أهمية: “فصل الزمني عن الروحي، فكما يترتب على السلطة الدينية وعلى السلطة المدنية أن يتقيدا بالمضمار الخاص بكل منهما، فإن الإيمان والعقل ليس لهما أي شيء مشترك وعليهما أن يحترما استقلالهما الداخلي بشكل متبادل.” غير أن العلمانية لم تنشأ كمذهب فكري وبشكل مطرد إلا في القرن السابع عشر ، ولعلّ الفيلسوف اليهودي الملحد إسبينوزا كان أول من أشار إليها إذ قال أن الدين يحوّل قوانين الدولة إلى مجرد قوانين تأديبية. وأشار أيضًا إلى أن الدولة هي كيان متطور وتحتاج دومًا للتطوير والتحديث على عكس شريعة ثابتة موحاة. فهو يرفض اعتماد الشرائع الدينية مطلقاً مؤكدًا إن قوانين العدل الطبيعية والإخاء والحرية هي وحدها مصدر التشريع . وفي الواقع فإن باروخ سبينوزا عاش في هولندا أكثر دول العالم حرية وانفتاحاً آنذاك ؛ ومنذ استقلالها عن إسبانيا، طوّر الهولنديون قيمًا جديدة، وحوّلوا اليهود ومختلف الأقليات إلى مواطنين بحقوق كاملة، وساهم جو الحريّة الذي ساد إلى بناء إمبراطورية تجارية مزدهرة ونشوء نظام تعليمي متطور، فنجاح الفكرة العلمانية في هولندا، وإن لم تكتسب هذا الاسم، هو ما دفع حسب رأي عدد من الباحثين ومن بينهم كارن أرمسترونغ إلى تطور الفكرة العلمانية وتبينها كإحدى صفات العالم الحديث.
تعريف مختصر للعلمانية يمكن إيضاحه بالتصريح التالي لثالث رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية توماس جيفرسون ، إذ صرّح: “إن الإكراه في مسائل الدين أو السلوك الاجتماعي هو خطيئة واستبداد، وإن الحقيقة تسود إذا ما سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم”. تصريح جيفرسون جاء لوسائل الإعلام بعد أن استعمل حق النقض عام 1786 ضد اعتماد ولاية فيرجينيا للكنيسة الأنجليكانية كدين رسمي، وقد أصبح الأمر مكفولاً بقوة الدستور عام 1789 حين فصل الدين عن الدولة رسميًا فيما دعي «إعلان الحقوق». ويفسر عدد من النقاد ذلك بأن الأمم الحديثة لا يمكن أن تبني هويتها على أي من الخيارات الطائفية، أو تفضيل الشريحة الغالبة من رعاياها سواءً في التشريع أو في المناصب القيادية، فهذا يؤدي إلى تضعضع بنيانها القومي من ناحية، وتحولها إلى دولة تتخلف عن ركب التقدم بنتيجة قولبة الفكر بقالب الدين أو الأخلاق أو التقاليد.
والحالة هذه ؛ فلعل ما أحدثته الكنيسة الغربية من ردة فعل نفسية ، قادت إلى ردود أفعال أيديولوجية تسببت في عزوف المجتمع المسيحي الغربي عن التوجه الديني ، نتيجة لصكوك الغفران واستعباد البلاد والعباد باسم الرَّب، وما جرى لغاليلو وغيره من أرباب النظريات والأطروحات العلمية التي جاءت متقاطعة مع الرأي الكنسي في الغرب . ولعلها الصرخة التي تعالت في الغرب الأوربي ووجدت لها أذناً صاغية ً في بلاد المسلمين خلال الهيمنة العثمانية على الأمّة الإسلامية ، بما مقتته شعوب الأمّة الإسلامية من ويلات وتناحرات أدت إلى زعزعة العقيدة الإسلامية في ذات الفرد والأمّة المسلمة ، ما جعلها تتأثر بالصرخة الغربية لمؤازرة التنحي المسيحي للشعوب الغربية عن الدين ، والتأثر بالموجة العلمانية المتمخضة عنها ، على عموم البنية الفكرية للإنسان في العالم كافة .. مسيحياً كان أم مسلما ، بحيث تأثر بهذه الموجة أبناء العثمانيين أنفسهم ؛ كمصطفى كمال أتترك وغيره . إذ لولا تصدي الأقلام الإسلامية الواعية لتلك الموجة العلمانية الشبه إلحادية في العالم الإسلامي لانمحى الإسلام عن العقول والفصول في الطبيعة الإسلامية لأمّة الشرق .
وما نراه اليوم في جيلنا الحاضر من الابتعاد عن المظهر والجوهر الدينيين للمجتمع الإسلامي الشرقي ، لعله يرجع إلى ما أسلفنا وإلى ما سيأتي من تداعيات قديمة وجديدة ، ولعلَّ منها ما يلي:ـ
1. المشروع اليهودي الصهيوني العالمي الحريص على فصل الدين عن الدولة ، لأجل جعل المواطنين يخضعون إلى قوانين الدولة المدنية لا الدينية في العالم الغربي ، لكونهم مهمّشين دينياً في العالم بأسره ، بحيث تمنحهم الدولة العلمانية الامتيازات العامة دون الخاصة التي تمنحها الدولة الدينية ، ما جعل جهات يهودية تنفق الغالي والنفيس لأجل نشر القناعات إزاء هذا المشروع العلماني في العالمين الغربي والشرقي .
2. فشل المشروع الإسلامي العثماني لبناء الخلافة الإسلامية ، نتيجة لأخطائه المستغلة ترويجياً من قبل المشروع الاستعماري البريطاني .
3. ظهور الحركات والأحزاب القومية التي أنعشت روح العروبة على حساب روح الإسلام .
4. انهيار المنظومة الاشتراكية والشيوعية في العالم ،والتي كانت تعتبر أطروحة فلسفية واقتصادية بديلة عن الإسلام .
5. ظهور تنظيم القاعدة الإرهابي الوهابي في العالم ، الذي يدّعي الهوية الإسلامية ، ما تسبب في إحداث نفور عن الدين الإسلامي ، بعد أن تناما وتصاعد الوعي الإسلامي في الغرب والشرق . ناهيك عن التناحر الطائفي الإقليمي والمحلي في العالم الإسلامي .
6. فشل المشروع الوحدوي القومي ، الذي كان مغرياً دون نتائج مثمرة ، ما جعل الحاجة إلى نظام دولة آخر ونظرية حكم أخرى ، مع أن الدولة القومية ما هي إلا وجه من وجوه الدولة العلمانية ، إلا أنها لا تخدم القوميات الأخرى ، رغم أنها تقصي الدين .
7. تعملق الإدارة الرأسمالية الأمريكية والسوق الأوربية المشتركة في العالم ، والتي لا يخدمها مشروع السوق الإسلامية المشتركة، ما جعلها تشجّع على كل ما يقصي الدين عن الدولة ، ومن ثم اختراق النظام الحكومي بأساليب الشركات الاستثمارية والتنمية والعولمة والتسليح.
8. الخوف الغربي التاريخي من تنامي المدّ الإسلامي ، على أساس الموجه الجيبية الحضارية.
9. المصالح الدولية والأممية المتناقضة ، ومبدأ توازن القوى .
10. وسائل الثورة الإلكترونية ؛ بالتأثير على طبيعة التفكير المسلم وتوجهاته المصيرية في العالم.
والله من وراء القصد