18 ديسمبر، 2024 4:25 م

العلامة مصطفى جمال الدين والنجف الأشرف

العلامة مصطفى جمال الدين والنجف الأشرف

حث القي بتاريخ 29/30/2011 السبت، في افتتاح موسم أيام العراق الثقافية في أمريكا وكندا، والموسوم بمهرجان السيد مصطفى جمال الدين، والذي أقامة المركز الثقافي العراقي في امركا وكندا، بدعوة من الدكتور الاستاذ محمد حسين الطريحي رئيس المركز.
1- المقدمة
2- النجف مدينة شاملة
3- النجف أخلاقيا
4- النجف مدرسة العدل والحرية والسلام على قاعدة الأمر بين الامرين.
5- النجف ووظيفة المدينة الاولى في الفكر.
6-  النجف الأشرف بين تجربة مصطفى جمال الدين الشعرية والحداثة.
7- النتيجة.
………………………………………………………..
 
عند استعراض البحث

المقدمة:
ان النجف باعتبارها المدرسة العليا لتوجهات السيد مصطفى جمال الدين، استنادا من كونها هي المدرسة الأولى في الاسلام والتي أخذت تنتظم علميا منذ أن أتخذ الامام علي عليه السلام، الكوفة عاصمة للاسلام لترث النجف هذا التاريخ، ولتكون أول مدينة تتخذ صفة المدرسة بل والجامعة التي تتخذ صفة المدينة، وهو وصف استثنائي يندر أن نجده في العالم قديما وحديثا، بحيث يكون جهد بشرها من خدمات وواجبات واحتراف وحرف منصبا لخدمة هذه الصفة العلمية والمعرفية.
 النجف هي عبارة عن تراث وأصالة مقاربات متعددة في العالم الاسلامي عموما وفي العالم ككل وفي العالم العربي خاصة من الخليج العربي حتى المغرب العربي وهلما جرى، ومن مواقع متعددة، حيث نجحت هذه المدينة في تأسيس وترسيخ المعرفة للجميع، عوض البقاء على رفوف التاريح وأطلال في المتاحف وفي مدراج التوثيق والإعلام المدرسي.
أن السيد مصطفى جمال الدين وهو يغني أطروحاته بالاستعراض المتواصل كلما سنحت الفرصة، ومن ضمن مواضيعه التي بحثها كانت النجف الأشرف.
فضلا عن كونه باحثا ومنظرا وشاعرا وداعية فأنه كان فقيها ومفكرا من الطراز الأول، وذو نظرة تجديدية اصلاحية للمناهج والأساليب لاحياء الثوابت لمدرسة النجف الجامعية بشكل مناسب للعصر دون المساس بأصالتها، ان كانت تاريخية أو عقائدية، وهو بمثل هذا المسعى الفكري كان يعكس مشروعا مؤسساتيا استدعى اليه توجيهيا وفكريا من خلال هذا المشروع البعيد والقريب من رجال التاريخ والجغرافية والهندسة المعمارية ورجال السياسة وفعاليات المجتمع المدني فضلا عن العلماء، في تحذير منهجي لأهمية مدينة النجف في ذلك، ولم يعقه في توضيح رأيه حول الموضوع المطروح أي طرح مناوئ مهما كان، وهو ينطلق من بدايات تعريف المدينة المجردة كما ورد في لسان العرب فضلا عن مرتكزاته النظرية لأساتذته المجددين كالشيخ محمد أمين زين الدين والعلامة المظفر والسيد محمد تقي الحكيم، حيث دلّ معجم لسان العرب، لتحديد المدينة والتي تدل على معنيين:
المعنى الأول: يعني الإقامة في مكان معين.
والمعنى الثاني: يعني الحصن الذي يبني ويشيد على أرض معينة.
فالسيد مصطفى جمال الدين بيّن المفهومين البدائيين العربيين للسان العرب، وهما مفهومان على بدائيتهما أبلغ من أي مفهوم عالمي متطور، فقد شذب مضمون المدينة على ذلك، ليقودنا في آخر المطاف إلى كون مدينة النجف مشروعاً معرفيا انسانيا عالميا بامتياز بلغة السماء الرسمية والشرعية وهي العربية بامتياز، وبذلك أوضح من أن الانسان هو أبلغ من أي تعريف ليكون مشروعا ربانيا للكمال والاخلاق وليس مجرد مدنيا أو سياسيا أو مفكرا كما ذهب بعض فلاسفة العالم، وليتبنى عنوان استاذه الشيخ محمد أمين زين الدين، من أن الانسان ليس مجرد كائن بل مخلوق يتسيد الكون، تفسيرا لعبارة الامام علي عليه السلام، حول الجرم الصغير كجزئية وهمية لدى العقل البشري العاجز مقارنة بصفة الكون الكلية المعبرة عن حقيقة الانسان المقتدر الساعي نحو الكمال:
دواؤك فيك وما تشعر .. وداؤك منك وما تُبصر
وتحسب أنّك جرم صغير .. وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي .. بأحرفه يظهر المُضمَر
فلا حاجة لك في خارج .. يُخَبَّرعنك بما سُطًّرُ
 
النجف مدنية شاملة:
وتبرز علاقة النجف الأشرف بالحضارة والعقيدة على حدّ سواء كجامعة ومدينة، وهذه العلاقة المعرّفة لا تضع تناقضا مع مصطلح المدينة مع القرية، عندما نتابع سيد مصطفى جمال الدين، وهو دائم التحدث عن قرية المؤمنين في ذيقار الناصرية وأهتمامه بالهور وتنميته وقضيته الأنسانية وله بحث في ذلك، محاولا المعالجة المعرفية لترابط المصطلحين، وهما القرية والمدينة، من كون العلاقة علاقة علم ومعرفة لواجبات كل من العنوانين تجاه الآخر، وان مثل هذه العلاقة المدنيّة القرويّة في موضوعة النجف، تم معالجة تفرقاتها في التحديد الأولي لمفهوم المدينة، والتي أغلبها في التنظيرات الفلسفية لها سلبية الطبقية في الاحترافات العلمية والحرفية والهوايات، لتشمل أيضا الشعر والأدب عموما، مخترقاً بذلك التصورات البدائية التي تنظر أن المدينة تتميز بتعدد سكانها ومساحتها وشوارعها ومؤسساتها، لكن الواقع النجفي عكس ذلك، لأن ما يؤسس المدينة، وخاصة في مفهوم الواجب المعرفي والحقوق العلمية والتنظيم الأجتماعي، بالشكل الذي حددته فلسفة الأدب اليقظ، اعتباراً من أن الحقيقة الراسخة للمدينة هي حقيقة اسلامية ومعرفية لأهل البيت، ومن كون الحياة عبارة عن عدل وحرية وسلام ومعرفة، وان العلم الداعم لذلك هو المعترف به وليس الاطار الطبقي والتقسيمات المشوهة لعلاقة الانسان بأخيه، لتتجلى هذه الرؤية كغاية في المجال الأخلاقي والعلمي في آن واحد، لما لذلك من علاقة وثيقة بمدرسة أهل البيت والقاعدة الاسلامية السماوية المعرفية التي أطلقها الامام علي عليه السلام، في عهده الى واليه على مصر مالك الأشتر:
((الناس صنفان اِمّا اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق))
لتكون هذه القاعدة هي مقياس المعاملات من واجب وحقوق ومقياس القيادات في أصل كلّ من العدل والحرية والسلام، ومن الملفت للنظر كان للسيد مصطفى جمال الدين في توضيحاته الفكرية ما يمكن ربطه بقوة لتفسير هذه القاعدة، لتحقيق المجتمع الأمثل الذي كان في اطروحاته النجف الأشرف، وكتوضيح بهذا الخصوص، يمكن أن نجد من أن هناك:
أ- تلازم الأخلاق والمعرفة للحياة الشعبية والجامعية النجفية مدنيا وعلميا، وبذلك يمكن تعريف التلازم للعلاقات الإنسانية النجفية، لتنجح النجف الأشرف بمرجعيتها مهما اختلفت الآراء وأريد لها من تدمير وتآمر خارجي وداخلي، في معالجة وضبط الفتن والانحرافات المتعددة من سلطة أو ترسيخ أمر لا أخلاقي في اشاعة الأمية والجهل من أجل صراعات الأغلبية والأقلية والخلافات السياسية والمصالح الفئوية والأقليمية، باتجاهات تحريف القصد من غاياته السماوية والعقائدية حضاريا وانسانيا وتنمويا داعمة لهذا التوجه، ضمن ثلاثية النص الشريف التي كانت وما زالت منطلقات فكرية للمفكرين والمنظرين والعلماء من أمثال سيد مصطفى جمال الدين:
(( مكة حرم الله، والمدينة حرم رسول الله والكوفة حرمي لا يريدها جبار بحادثة إلا قصمه الله ))( وسائل الشيعة ج14ص360ب16ح [ 19386 ] 1) .
وتوالت النصوص الشريفة بهذا الخصوص: (( الكوفة،،، هي الزكية الطاهرة فيها قبور النبيين المرسلين وغير المرسلين والأوصياء الصادقين، وفيها مسجد سهيل الذي لم يبعث الله نبيا إلا وقد صلى فيه، وفيها يظهر عدل الله، وفيها يكون قائمه والقوام من بعده، وهي منازل النبيين والأوصياء والصالحين ))( وسائل الشيعة ج14ص360ب16ح [ 19388 ] 3) .
((عليك بالعراق الكوفة ، فإن البركة منها على اثني عشر ميلاً ، هكذا وهكذا ، وإلى جانبها قبر ما أتاه مكروب ولا ملهوف إلا فرج الله عنه ))( وسائل الشيعة ج14ص443ب43ح [ 19560 ] 1) .
وقد أكد الحديث النبوي الشريف هذه الحقائق: (( إنّ الله اختار من البلدان أربعة ، فقال عزّ وجلّ : ( والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين ) التين : المدينة ، والزيتون : بيت المقدس، وطور سينين : الكوفة ، وهذا البلد الأمين مكة))( وسائل الشيعة ج14ص360ب16ح [ 19389 ] 4) .
 وبالمحصلة يكون الجهد الثقافي والعلمي والأدبي عند السيد مصطفى جمال الدين، من أجل نتائجها المتوخاة الربانية في نبذ التطرف والتعصب والتطرف أيا كان شكله، وهو تعبير غير مباشر كنظام علمي ومعرفة رسالية ربانية تنتهجها مدرسة أهل البيت في النجف الأشرف بالأعتراف بقدرات الانسان ومهاراته، مهما كان أصله ولونه ولغته، وان كانت اللغة العربية لغة العلم كونها اختيار رباني شرعي للرسالة والمعرفة وبالأخص في العبادات والتشريع والعلم والتفسير الأبلغ والأكمل.
ب- وهناك تلازم المعرفة والأخلاق لمعادلة الحقوق والواجبات من أجل التنمية والنهوض، لتكون العلاقة أكثر فاعلة بين المجالات العمومية والخصوصيات الانسانية، من كون ضبط هذه العلاقة من أهم مقتضيات المدينة وبالأخص في صفة النجف، ومن أهم أدوات هذا الضبط المعرفة لتحقيق القناعات العلمية عقائديا من كون الخصوصيات أو العموميات مترابطة بالعلاقة الانسانية في التحقق الفعلي لاقتران العمل بالاخلاق والعلم، كشرطين أساسين، في المساوات والأخوة وبما يحقق احترام الذات والاخر، وليس ما يذهب له من تمييز أكثر مما هو تشخيص في ادعاء هذه مدينة وهذه قرية.
 وهذه هي منهجية النجف، في فلسفتها العملية والمعرفية، استنادا للمعرفة النفسية وانتهاجها مسعى الاستقامة واستناد للمعرفة التربوية وانتهاجها لمسعى الاخلاق، فضلا عن منهجية غاية مدرسة أهل البيت في السعي للكمال علماء وطلابا وشعبا وسلطة وعلم وعبادة ومعاملة وتفسير، وبالتالي فالحديث عن المدينة من خلال مقارنة فلسفية مجردة لذوي الاختصاص، هو أمر مجحف للانسان والمدينة والقرية والغابة أيضا لاعتبار بسيط، كون الأطروحة التعريفية للمدينة والمدنية، كان همهما الدراسة والتعريف المجرد فقط في البحث لهذا المفكر أو ذلك الباحث.
ويمكن مراجعة لقاءات السيد مصطفى جمال الدين المهمة المصورة والمسموعة ومن أهمها لقاء اذاعة مصر في زمن الجمهورية العربية المتحدة عام 1970م، وأيضا اللقاء الأخير مع مصطفى جمال الدين للدكتور ابراهيم العاتي والمنشور في مجلة النور اللندنية العدد 67.

النجف أخلاقيا:
إن السيد مصطفى جمال الدين وهو يؤسس لمثل هذا الطرح أنه يؤكد على ضرورة القاعدة الأخلاقية لمدينة كالنجف، باعتبار هذه القاعدة كأداة لتفعيل هذه المفاهيم وترسيخها في المجتمع من جهة ومن جهة أخرى في الثقافة عموما، وأن تغييبها هو غياب التواصل الأخلاقي، ونكوص مبدأ العلمية كأحد المرتكزات الأساسية التي ترتكز عليها المدنية والاسلام، كل ذلك يصب للعودة إلى الجذور التي تأسست  عليها الثقافات.
فالاسلام ومن ضمنه مدرسة أهل البيت وفي أكثر من نص وسنة، هناك تأكيد على ذلك. فأن ما وقعت به السياسات والعصر مجددا من عصبيات، يبين أهمية مثل هذا الوعي لمدينة مثل النجف التي هي مدينة جامعية مدرسية مختصة تختلف عن تفرعات المدن الأخرى من أجل بيان واجبها تجاه حقوق الأخرين، مهما وقع عليها من ظلم، بمحاولة لدرء التعصب الذي عانت منه الثقافات والشعوب عبر تاريخها وما زالت، ولعل قراءة هذه المبدئية في طرح السيد مصطفى جمال الدين على المستوى الفلسفي يحيل إلى فلسفة أهل البيت التي صاحبتها، حيث لا علاج للتعصب والتطرف والتعنصر الا بوحي السماء وبروح مكارم الأخلاق من أجل تهذيب السياسة والبشر، واعادة فضاء النجف لعهود البناء والتنمية، وليس مجرد استنساخا للتراث والاستفادة من المفكرين والأساتذة القدماء، بل تفعيل لمبدئية الأخلاق وضرورة العلم والثقافة، حيث ان ما كان من فضاء عمومي مدرسي في النجف كفضاء للحوار والتقريب والنقاش كفيل بإضعاف التعصب والتطرف وتحجيم التحريف، لتكون النجف بمدرستها خيارا واختياراً استراتيجياً ثقافياً ومعرفيا وأخلاقيا، وان حدث خلاف ذلك فأنه ينظر له كمؤامرة ضد دورها الأرضي الاخلاقي وضد دورها السماوي الرسالي وضد منهجية المعرفة والعلم للأستقامة والاصلاح والحضارة فضلا عن الفقه والأصول والعقائد وغيرها من المعاملات والعبادات والتفسير.
إن هذه القيم الإنسانية والسماوية التي رسختها مدرسة النجف الأشرف منذ بداياتها تؤول في آخر المطاف إلى غايات مقدسة ابتدأها في عاصمة العرب والأسلام الامام علي عليه السلام، كأول عاصمة للعالم الأسلامي وكامتداد محمدي لأصالة السماء وما يستوجب عليها من تجسيد أهم أركان المدرسة العلمية وهي تتخذ صفة المدينة من سلام وعدل وحرية وأخلاق، ولا يقبل منها عربيا وعراقيا واسلاميا وعالميا غير ذلك، حتى في جبهات مناوئيها.
من هذه الاطروحة أقترب السيد مصطفى جمال الدين من المدينة كمدنية عموما ومن النجف خاصة، ليس كموضوع مفارق للواقع، بل كموضوع واقعي يطمح لكيفية تدبيره ونوع العلاقات الموجودة داخل الثقافة عموما.
إن التجربة النجفية وضعت موضوع المدينة كمضمون في مدرستها وكتاريخ في تراثها وكسماء في عقيدتها وكواقع في أصالتها، لتكون بحكم هذا الطرح الذي أصر عليه السيد مصطفى جمال الدين، أن تكون النجف الأشرف مشهدا متميزا وشرطا من شرائط المستقبل الإنساني العالمي والعربي والعراقي والأسلامي .
وهنا يمكن أن يستعين الباحث بمقدمة ديوان السيد مصطفى جمال الدين، فضلا عن ما ينثره من تنظير لهذه الخاصية النجفية شعرا.

النجف مدرسة العدل والحرية والسلام على قاعدة الأمر بين الامرين:
ان الذي يطلع على بحث السيد مصطفى جمال الدين المعنون حرية الأرادة بين الفلسفة والعقيدة، وهو رسالة بحث مهمة في عام 1962، فأن السيد مصطفى جمال الدين في نفس السياق تقريباً، تروم الأطروحة في وضع فارق جذري بين الحرية كأصل عقائدي وبين الديمقراطية كمفهوم حزبي هنا وهناك، مبرزاً المفاهيم الأساسية في الأسلام وبالأخص مدرسة أهل البيت التي تتجاوز وتتعايش مع مفهوم الديمقراطية كحالة طرح عالمي مقبول وليس كعقيدة يحاول الطرح المدني لمدرسة النجف تعميمه لأصل الاسلام في الحرية كغاية سامية، ومركزاً الحديث عنها في مدرسة النجف وانطلاقاً منها في كونها تخص المجتمعات الحديثة، من كون الطرح لدى مصطفى جمال الدين، لا يحاول التقاطع معها بل يحاول تعريف الحرية في منطلقات مدينة النجف الأشرف ومدرسة أهل البيت في كونها هي الأكمل وهي الأمل، في مقابل كون مفهوم الديمقراطية بتعبير حكم الشعب يحمل التباساً، ومتقاطعا حسب مدرسة الأسلام بتفسير أهل البيت مع مشروع السياسي للمدينة، ولهذا السبب تبدو عبارة الأفعال الشعبية في المصطلحات السياسية خادعة وتحيل إلى ما هو دعائي، إذ يتعلق الأمر عموماً بمبادرة بعض الأفراد والمفكرين وبعض السياسيين دينيين وغير دينيين، التي يتم اخضاعها في أحسن الأحوال للتقييم النقدي للشعب أو التصورات البرلمانية الكلاسيكية.
اذن الطرح الذي يريده السيد مصطفى جمال الدين، للنجف بل وهو مشروع ثقافي لنهضة المدن ومجتمعاتها عموما، يكون كترسيخ للحوار وليس المقاطعة لمرجعيات طرح فكرة الديمقراطية، ومن خلال ترابطه النسقي مع مجموعة من المفاهيم الأخرى، مع توضيح لمعالجة ما يتوهمه بعض المفكرين في كون الديمقراطية هي الشورى، فإن هذا يدخلنا في مغالطة التاريخ وإنتاج المفاهيم، أو ما وقع فيه البعض من كون الشورى، هي الوسط بين الاستبداد والعدل، أو جعل الأستشارة المهمة التي يركز عليها الاسلام ومدرسة أهل البيت كأساس تطبيقي، غير تقريرية، ليكون السياسي مطلق الحرية في اتخاذ القرار، وهذه من الاشارات في أطروحة السيد مصطفى جمال الدين التي تعطي توضيحا لأسباب تخلف الأمة وسيادة الاستبداد والظلم مهما كان ادعاء الحكم دينيا أو علمانيا، أو الدين علمانيا أو العلمانية دينيا، لأن النجف حالتها العملية والعلمية مختلف عن الاتجهات المطروحة بادعاء الدين السياسي أو العلمانية السياسية ايضا، أو الدين علمانيا أو العلمانية دينيا.
وبذلك يسعى السيد مصطفى جمال الدين، لبيان أهمية المدرسة النجفية لتعريف حدود الديمقراطية من جهة ومن جهة أخرى الشورى، في أصول الأسلام من العدل والحرية والسلام، والربط بين أهمية هذه المدينة وواجباتها، مثلما وضح بكل دقة تعريف العروبة وأهميته لنهضة الامة والفكر بالضد من مفهوم القومية القاصر والدحيل على الامة، ليس في أطروحات التزاوج بين المختلفات، بل الأصرار على تعريف ومعرفة أصول التطابق والانسجام والتقريب في فهم المنظومات والآليات والتصورات التي يقرّها الإنسان للعقيدة والسماء والروح والمادة وللكون والعالم والفكر .. إلخ، لان التوازج لا يثمر الا الصراع كونه يحمل ثقافة الغاء الغير بشكل أو بآخر، وهو قياس فاشل لاستغلال مصطلح خاص بالجنس ومحصور فيه معنى ومضمون ولا يتحمل استحدامه في غير موضعه، وان أريد منه الاستنتساخ فهو استنساخ فاشل.
لكن ما يمكن التأكيد عليه هو أن الوعي بالحرية يلزم الثقافة من أجل ترسيخها داخل المجتمع، ومن هنا يمكن الإنصات لمدرسة أهل البيت وهي صفة العلمية المعرفية لمدرسة النجف كونها وريثة مدرسة الكوفة والبصرة من وجهة النظر الأكاديمية، ومن كونها وريثة الاسلام بتراث مدينتي مكة والمدينة سماوية ووريثة التراث العلمي العربي والعراقي لما يقارب من عشرة الاف سنة تاريخيا، وما زالت في إخضاع التنظيم الإجتماعي لقيم الأخلاق والحرية والعدالة والسلام والعلم، في اطار ما عرف بنظرية الانسجام الأخلاقي لاستاذه الشيخ محمد أمين زين الدين وهو الأستاذ الأول للسيد مصطفى جمال الدين وقد تأثر به وبها كثيرا، وبالأخص في مؤلفاته كالطليعة المؤمنة وأيضا كتاب الأخلاق وكتابه القيِّم الاسلام، مؤكداً على أهمية التواصل الأخلاقي كرسالة سماوية مهما تم ممارسة التقاطعات، لأن الأسلام يرتكز على قواعد من المفاهيم العقلانية والفاعلية التواصلية وعالم المعايشة وأخلاقية النقاش والاعتراف بالآخر … إلخ. فاعتبرها السيد مصطفى جمال الدين من أن هذه المفاهيم الداخلة ضمن المجال التعريفي لواجبات انسان وشعب ومجتمع وجامعة ومدرسة لمدينة كالنجف الأشرف عالميا .
 
النجف ووظيفة المدينة الاولى في الفكر:
ان مسعى السيد مصطفى جمال الدين هو تأكيد لاطروحة مَن ذهبَ الى أن النجف مدينة تشكل رهاناً أساسياً في المجتمع العالمي عامة والمجتمع العربي خاصة، لما تشكله الحقيقة المعاشة الفعلية من داخلها من جعل النجف الأشرف أفقاً للمستقبل وانخراطاً في التحولات العلمية والمعرفية ومدار الثقافة كاحتراف معرفي وبشكل مباشر، وان كان للبعض أن يسجل لها أثرها بالتحولات العالمية والأقليمية والعربية سياسيا بشكل غير مباشر أيضا، وان كان هذا الأمر ليس من اختصاصاتها الاحترافية أو السياسة كمدرسة عقائدية ومعرفة عالمية، لذا فهي تطرح في سياق ثقافي في معاني المقارنة كمدينة سماوية أرضية بين علمية المدارس وانسانيتها، وفي معاني المقاربة كمدينة معرفية تتراوح دلائلها بين أصول المعرفة باعتبارها مولدة من أحضان المدينة ومن أهم واجباتها في هذا الأطار المقاربة بين الفرقاء وان كانوا بالضد من منهجيتها لأن منطلقها الحوار والأخلاق، لتحقق الشرط الأول والأخير وهو المدينة كمدنية، وثانياً لأن شروط قيام المدينة في تطورها تضعنا أمام إلزامات علمية كالعقائد والحرية والعدل والمواطنة وحقوق الإنسان والتسامح والأخلاق وغيرها.
قدم السيد مصطفى جمال الدين الدلالة المفهومية للنجف، وإن تحديد هذا المفهوم أوصلنا مباشرة في أحضان التجربة المدنية من جهة ومن جهة أخرى التجربة السماوية ورسالاتها، باعتبار النجف أحد قواعدها المؤسسة لذلك، منذ الامام علي عليه السلام، والى يومنا هذا برغم التحديات لم تتزلزل هذه الحقيقة، الى جانب أساساتها التاريخية منذ أدم ونوح عليهما السلام، والطوفان وبقية الأنبياء والأوصياء، فلا أحد من القراء والباحثين والمتتبعين يستطيع نفي هذه الذاكرة، اعتباراً أن النجف ليست فقط فضاء للتبادل المعرفي أو التجاري، بل كانت وما زالت مجال لتبادل الأفكار وإنتاج الخطابة والعلم، إنها الركيزة العمودية لفضاء التداول والتواصل والحوار، كما أن لها فعلاً ثقافياً يروم التفكير في شؤون المدنية والحضارية، عن طريق الأدب الى جانب الفقه والاصول، رغبة في إبداع الشعر والخطابة والعلم والفلسفة والحضارة.
ان التجربة التي عاشها السيد مصطفى جمال الدين وأخوانه وبالأخص مجموعة الأدب اليقظ، بأشراف الأساتذة المشار لهم بالبنان، جعلته ميز هذه الأهمية من أن التجربة النجفية في تنمية المدينة النجفية سواء في سن القوانين وقواعد التأسيس المعرفي وحتى السياسية منها نوعا ما، في النظام الاجتماعي المدرسي العلمي للنجف، جعل من الفضاء العمومي فضاء للتشاور والجدال المعرفي والفكري الى جانب الفقهي منه والأصولي والاجتهادي.
 فالغاية من التواصل العالمي للنجف الأشرف كمدينة ومدنية، هو بلوغ رسالة الانسانية بمحورها العقائدي كمدار للكمال الانسان الحضاري والاخلاقي بعيدا عن صراعات السياسية التي انتجت الارهاب المعلن والمخفي والطائفية والعنصرية والعصبية كخلل اخلاقي في اطروحاتها.
ان اعتبار مدينة النجف الأشرف موضوعاً ثقافياً، مرتبط فيما تفترض هذه الأطروحة أن كيان النجف الأشرف في تمفصلاتها وتقاطعاتها لما واجهت من مدارس على الصعيد الداخلي أو الخارجي، بين ما هو عملي وما هو نظري، كالدين وما فيه من فقه وأصول وعبادات ومعاملات، الى جانب السياسة والواجب والحقوق والأخلاق والحرية والعدل والسلام، هذه الأصول الأسلامية والتي ركزت عليها مدرسة أهل البيت وهي من اختصاصات مدرسة النجف الأشرف، تتعمق بين الأزمنة والأمكنة في التاريخ والحضارة، ولعل النجف هي قطب الرحى الأقدم والذي لم يتحول الى الأطلال في هذا الفعل الثقافي العقائدي الحضاري:
أ- النجف الأصلاحية المجددة:
ان مثل هذا الطرح حول مدينة النجف وهو طرح رائد فكري لمجموعة الأدب اليقظ، فأنه في سياق العصر الثقافي المأهول بالأيديلوجيات حدّ التخمة، والمأهول بصياغات وجدليات مختلفة ومتصارعة ومتقاطعة، باعتباره قطباً نموذجياً للمدينة النجفية، لذا أراد السيد مصطفى جمال الدين مثل هذه الاثارة تكون منهجية عملية لأدب اليقظ في بعدها العلمي والفلسفي وبعيدة عن تقاطعات السياسة، وهي تأكيد لنظرية مقرونة بتجدد العصر والذي من روادها أساتذته كما أكد دوما وهم، مجدد العصر الشيخ محمد أمين زين الدين والشيخ سلمان الخاقاني والعلامة المظفر والسيد محمد تقي الحكيم، حول العلم والمواطنة وحقوق الإنسان ونظام العلاقة التاريخية بين العلماء والشعب وبين عالم الدين والمثقف عموما من غير رجال الدين وبين العراق والعالم من جهة وبين العراق والعرب من جهة أخرى كامتداد أصالة للتاريخ والدين، معالجة للطرح العنصري ومدارسه المختلفة.
إن هذا الطرح كان مقلقا، مثله مثل أي عصر تتطلع به الأجيال الواعية ومدركة لأهمية التطور، لذا كان اهتمام السيد مصطفى جمال الدين بهذا الطرح للمدينة غير المفكّر فيه سياسياً، وإن كان التفكير فيه سيظل مفهوماً فكريا محاولة منه تنقيته من اللبس والجدل العقيم الذي طالما وقعت فيه الاطروحات السياسية وما زالت. فكان هذا الطرح والذي كان قد أقترب من كونه جهدا عمليا، من مشروع إعادة التأمل في أهمية المدينة عموما، وخاصة من مدينة النجف الأشرف، في كل تجلياتها، عقائديا وسياسياً ومعمارياً وثقاقياً وتاريخيا، ليبقى هذا الجهد وهذا الطرح مشروعا ثقافيا في عمقه.
ب- النجف مشروع متواصل :
طرح السيد مصطفى جمال الدين مدينة النجف مضمونا ثقافيا الى جانب الشكل والمضمون التاريخي والتراثي والديني، ليجعل النجف مدينة تشكل موضوعة أساسية علمية وفلسفية، كيما تتشكل الفلسفة والعلم والأصالة والمدينة معا، ولتعكس وجهة النظر هذه أهمية مدينة النجف السماوية من جهة ومن جهة أخرى العالمية، وربما بشكل غير مباشر حاول أن يعبر بهذه الأهمية أسباب العداء الداخلي والخارجي لهذه المدينة، وهذا الأمر حقيقة قائمة لا لبس فيها، وهو توضيح من أن تأريخ المدينة عموما هو تاريخ المواطنة مضافا له ضمن خصوصية النجف تاريخ العلم والتجدد والحضارة والحرية في العمق الفلسفي والعقائدي والتاريخي.
ان تصور الأدب اليقظ الذي تمسك السيد مصطفى جمال الدين بالتنظير له رغم انفراط حلاقاته لأسباب مختلفة معروفة، ولكن بقت الأواصر متينة متواصلة، تأكيدا لحقيقة القيم التي انتهجها هؤلاء المؤسسون للأدب اليقظ، في مجالات مختلفة ومنها نظرتهم الى قيمة النجف الأشرف ومن ضمن هذه النظرة مضامين القيم التي أسست عليها تاريخيا وتراثيا وسماويا، حيث عزز جمال الدين، بالاصرار على هذا الطرح من خلال جعل التصور العقائدي بمدينة النجف، لم يبرح المرجعية النجفية العراقية على الرغم من الاختلاف الموجود داخل هذا التصور، ولكن بمقاربات فكرية لأثار فكر الأساتذة عليه من خلال جعل النجف:
أ- مشروعا علميا في النهضة الحضارية وفي الإنتاج المعرفي، وهذا ما استخلص من الخصوصية الثقافية والابداعية في سلم القيم الانسانية.
ب- من انها، أي نجف، واقع عيني، وهي رغبة اجتماعية وفكر علمي وخيال أدبي، يروم المفكر والمثقف ورجل الدين الحقيقي إلى تصور تنميتها كمدنية راقية.
ج- من انها، تستمر بمفاهيم المدنية دعما لموقعية العراق أولا، وثانيا العالم العربي، وثالثا العالم الاسلامي، ورابعا عالم الانسانية ككل، بتحفيز نظام العدالة والحرية والسلام كمشترك انساني لا يختلف عليه اثنان، وهي كلها مفاهيم داعمة للطرح السياسي البناء غير المشوب بالصراعات والتطرف والعصبية، لهذا تظهر فلسفة هذا الطرح المعرفي من قبل السيد مصطفى جمال الدين، مقوماتها كأفق مدرسة عقائدية وحضارية وفي نفس الوقت وطنية داعما للعراق والعرب من جهة ومن جهة أخرى للعالم الاسلامي والعالم ككل، دون تحريف أو جدل عقيم، أو تحيز لجهة دون أخرى في الصراعات السياسية والأقليمية وحتى العالمية.
د- من انها، تجعل التفكير في النجف الأشرف ليس فقط محدداً بأفقه الثقافي المجرد، بل هو فعل سماوي عام تعززه صياغات رمزية متعددة ونصوص عقائدية ثابتة ونظريات مفكرين بناة.
ه- من انها، تجعل الحديث عن النجف الأشرف، هو حديث عن المواطنة والوطنية والأصالة والمعاصرة وغيرها الى جانب الحرية والعدالة والسلام، وهي مفاهيم مرسخة في الخطاب الديني والتاريخي والحضاري والعقائدي منذ بدايته، أي منذ الخليقة الاولى، إلى حدود ترسيخه اجتماعيا كغاية من غايات مدرسة النجف الأشرف ورسالتها العقائدية، من أجل أن تكون النجف الأشرف حاضرة في تمثيل المفهوم كجوهر إنساني في الحياة الى جانب الغاية العقائدية لاثبات عدم تقاطعهما في الفضاء الذي يتحرك فيه الإنسان من المدينة نحو المدنية أو من الفرد نحو المجتمع، سواء بالحقوق أو الواجبات والتي تتحكم بهما مكارم الأخلاق دون اكراه امتثالا للنص القرآني، ليكون هذا التعبير الحرّ في اطروحة سيد مصطفى جمال الدين، الامتثال الحر والتعبير السماوي  للقوانين دون ضغط أو إكراه، هو تأكيد للحق في تجلياته ضمن مبتنيات السيد مصطفى جمال الدين لمدرسة أهل البيت، وتحقيق للمواطنة والعلمية والمدنية في عمقها الوجودي الفاعل وليس النظري المجرد.

النجف الأشرف بين تجربة مصطفى جمال الدين الشعرية والحداثة:
ان الضرورة تستوجب التطرق لتجربة السيد مصطفى جمال الدين الشعرية، وان كان البحث في ظاهره بعيدا عن ذلك، ولكنه يدخل في صلب البحث عن أي موضوع بخصوص السيد مصطفى جمال الدين، لكي نعرف أدبه وانجازه الشعري كان يضمر غايات من أهمها التعريف العقائدي والوطني والفكري .
شعر وأدب السيد مصطفى جمال الدين مرتبط بشكل وثيق برسالته الفكرية التي تبناها تجاه النجف الأشرف خاصة والعراق عامة، وخصوصية المدرسة العقائدية التي هو أحد أساتذتها المعاصرين، فكان شعره مستكملا لاطروحاته الفكرية، وأحد أدواته الأدبية للتعير عن الرسالة التي يحملها، لما يشبه التسائلات عنها في قصائده بنفس الوقت، مستوحات من التجربة الحياتية له ومن تجربة النجف الأشرف الداعمة للأدب الى جانب الفقه والعلم، ليكون أدبه الشعري يفتح باب البحث عن حقائق المواضيع المطروحة ويحث على استقصاء فضاءات ينشغل المجتمع والمحبوب والعاشق والعالم وأيضا الشاعر بهمّ الوصول إليها، ورؤية العالم والوطن والحبيب والعقيدة من خلالها.
أدب مفتوحة في الشكل الشعري أولاً، على تنوع مقصود في بنائية القصائد بين قصيدة تفعيلة، وأخرى تقليدية تلتزم بحور الشعر وعاموده. هي إذاً أشبه بحرية تنقلٍ، تنطلق من تجسيد البلاغة العربية من أن الشعر لا يرتبط بشكل محدد، مؤسسا على أساسيات صحتها في البلاغة العربية التي تحتفظ للغة ميزة الفكر أكثر مما هو مطروح عالميا من ان اللغة مجرد وسيلة أو أداة.
مسك السيد مصطفى جمال الدين بذلك علاقة التميز النجفي في التجديد والحداثة في المتغيرات من أجل بيان الثوابت ومنها العقائدية وأصالتها بشكل عصري من خلال مبدأ الأجتهاد الذي تتميز به مدرسة النجف العلمية فقهيا وبالتالي أدبيا بالضرورة المعرفية للايمان بالمستجدات وسنن التطور وطبيعة التقدم، والنتيجة في ذلك الأيمان بالحداثة دون المساس بالثوابت كي لا يكون الفكر فوضى سلوكية وعبث منهجي وهوى فكري وانحراف عقائدي وأيضا سطحية أدبية.
 مع ذلك لا يلغى التساؤل المشروع، بل والضروري عن جدارة الحداثة، خصوصاً حين تلج مخيلة الشاعر واختياراته الفكرية فضاءات حديثة ومتجددة، تفترضه مدرسة النجف العلمية من أنها لا تستطيع أن تعبر عن نفسها في أقفاص الكلاسيكية المرتّبة مسبقاً والمعدّة سلفاً. فمن يطالع تجربة النجف الأشرف وبالأخص الأدبية منها مضافا لتجربة السيد مصطفى جمال الدين، يلحظ فرقاً واضحاً تتحرر فيه القصيدة من ربقة القالب الجامد، ومن تخليد سكونية الشكل وقيوده، وتحوله الخبرة الفكرية ومنها الشعرية كلها إلى محاولة فاعلية الرؤى الشعرية وليس مجرد رصفها، خصوصاً في معالجات ارباكات المواضيع الساخنة التي تعاني منها التجارب الأخرى ومنها غير العربية كالوطن والأمة والعقيدة والانتماء، وهي خصوصية نجفية لمدرسة أهل البيت في التعامل مع العصر وحداثته ومعالجة للأمية والتسطيح والتجهيل، ودافعاً بالقصيدة في محصلتها النهائية إلى الخروج من عالم ما يشبه قصيدة مناسبة تطغى فيها الحماسة، كيما يطغى الايقاع البلاغي والهدف الغائي للأدب في منهجية النجف مثلها مثل منهجية العلم، فتخفف من الصخب وتقرب من الهتاف للبنائية الشعرية. فكان هذا العالم الشعري من نسيج القصيدة المضمون والشكل في الكلاسيكية والتحديث هو كالبناء يذهب بالتأكيد نحو اللغة العربية وبلاغتها بالذات، فيضطر إلى أن يغرف من عالمها المألوف والمتكرر ولكن بابداع ما يحتاجه العصر كي يكون الموضوع المطروح عصريا مقبولا، فبين الوصفي والانشائي، أمكنه من تحديث الموضوع شكلا ومضمونا شعريا، مختزلا الضيق الفكري الذي تفرضه تكلسات الأزمنة وهي من بذور المنتجة للأمية والجهل والتخلف، نحو عالم شعري مثله مثل العالم العلمي لمدرسة النجف الأشرف، عالم ينطلق بحرية أكبر ولياقة فنية أعلى، فيها ما فيها من طلاوة ومن تجاوب اختياري للأفكار كما في الصور، ليقترب السيد مصطفى جمال الدين من روح موضوعاته، إذ هو ينجح في القبض على علاقة حيوية بين هذه الموضوعات وبنائية شعرية طليقة إلى حد ما، وغاياته العلمية والوطنية والعاطفية والعقائدية.
سيد مصطفى جمال الدين ينجح في الوقت ذاته بسبب من حرية المخيلة في التجول، بلغة أكثر يسراً، خصوصاً أن لغته العربية البليغة من أساسيات الوعي بها كعلم وفكر وحرية، وهي من مودعات الله عزوجل لتكون معجزة النبي(ص) في القران المجيد، ولتكون مثل هذه اللغة أساساً، وفي تجربته كلها تفرض عليه أن تأتي من قاموس الحياة اليومية، ونعني بذلك من الكلمات المتداولة بل والمواضيع المطروحة ومن ثم تجربة النجف الجامعية العلمية، من أن تنضج التجربة دون فوضى أو صخب أو ادعاء ودونما افتعال، ومن دون انتقائية قصدية واضحة، لتذهب القصيدة إلى غنائية طافحة بعاطفة متزنة وشجى مغمس بنبض القلب ووجع الروح وحلاوة اليقين بالتدريج.
ان سيد مصطفى جمال الدين، فلا نراه يدخل في مغامرات تجريبية، ولا يخاطر في بنائية شعرية تركيبية، إذ تظل قصائده في نطاق القصيدة السهلة بسبب ثقافتها وبلاغتها، وذات الصوت الواحد المعبر عن مجتمع، والطالع من الذات والعائد إليها، في وضوح من صدى الذي يرتطم بالعالم المحيط قبل أن يرتد أعجابا، إذ هو في أغلب قصائده يجتهد كي يظل قوله هذا في محيط التوهج من خلال جملة شعرية حارة مع بساطتها، فيما يعتمد صورة شعرية أقرب إلى المشهد، متخلياً بدرجة أكبر عن أدوات المناسباتية.
ان شعر سيد مصطفى جمال الدين، مثله مثل الطرح العلمي له وهمّه الفكري الذي هو من طبيعة المعرفة لمدرسة النجف الأشرف بالذات، نقف من خلاله على حضور تفكّر في العالم المحيط، ليبدو مشغولاً فعلاً بأسئلة الوجود وماهيات الحضور الإنساني فيه، تحفيز للأجيال لما يدفع إلى التفاؤل بنضج الجانب الذاتي بعمقه الفلسفي وضرورته لكل عصر جديد كخصوصية تفرضها النجف الأشرف كمدينة ومدنية وكجامعة علمية، وبما يمكن أن يفتحه هذا الجانب من ارتطامات كبرى بأسئلة الحياة العسيرة والمتنوعة والمنفتحة على تعقيدات ذهنية وفكرية ولكن دون انغلاق وتسطيح وتجهيل، هي عادة في صلب التجارب الشعرية والعلمية المهمة، محاولا أن يبين السيد مصطفى جمال الدين، في أغلب اطروحاته عن الشعر وأغلب المقابلات والدراسات بهذا الخصوص، منجزه الشعري كحاضنة لغايات النجف الأشرف العلمية والفكرية، ومن أجل تحقيق جديد، يلوح بين وقت وآخر، ويتضح في صورة جميلة في قصائده التفعيلية.

النتيجة:
ومن التعليقات البليغة التي اطلعت عليها بهذا الخصوص المقدمة التي كتبها العلامة السيد محمد تقي الحكيم لكتاب القياس حقيقته وحجيته للسيد مصطفى جمال الدين .
إذن فالنجف الأشرف لم تشكل موضوعاً ثانوياً في تاريخ الفكر عموما والعقائدي خاصة، بل شكلت محوراً مركزياً تدور عليه قضايا معرفية أخرى وأوسع. فحاول السيد مصطفى جمال الدين طرح هذه العلاقة بايمان تام من خلال تاريخها وعقادها والتنظير لها، أي من خلال تاريخ الثقافة ان كانت أرضية وضعية أو سماوية ربانية، معتمداً على وعي تام بالعقيدة وأرتباطها بالتطور كمنهجية لأحياء الثوابت بكونه فقيها وأديبا وباحثا في آن واحد.
 ويمكننا الالتفات إلى بعض العناصر المهمة في هذا الاهتمام التاريخي والسماوي، أولها أن المعرفة والانسان والمدينة، على ارتباط كبير ببعضها البعض دون انفصام عند الرسائل السماوية، والتي شكلت عبر التاريخ بذور الخصوصية العربية والتي انعسكت على العراق والعالم فلسفيا عموما، أعني أن لا وجود لهذا الثلاثي خارج الرسالة المنزلة، وبتوضيح أكثر أن الرسالات الكبرى هي التي أنشأت هذا الثلاثي كقيمة وقيم، وذلك بالفضاء العمومي الذي فتحته لها السماء والعقيدة الربانية، لتتماسك دون انفصام وبشكل بناء عناصر الواقعية والمثالية، لنفهم في حقيقة النجف كمدينة جامعية شعبية العلائق التي تربط بين الواقع والعقل، فتحضر مدينة النجف الأشرف كما لو كانت إحدى تجليات هذا التطابق فتحجها الدول والشعوب باعتبارها نشيدا ومنهجا للكمال من حيث هي حق وحرية وعدل وسلام.
 إن العلاقة هنا، علاقة نسقية بين الثلاثي من المعرفة والانسان والمدينة كنسق جزئي والسماء كنسق كلي، لمواجهة القصور الفكري الذي يطرح من قبل الفكر السياسي المجرد دينيا أو غير ديني، أو ما وصف بالعِلمانية أو العَلمانية، في الربط بين الانسان أو المعرفة أو المدينة، كل على انفصال كعلاقة مع السياسة، لتكون المدينة عموما بسبب هذا الخلل الفكري موضوعاً غامضاً لاعتبارات تدخل في صميم التحولات التي وقعت في الخطاب الفكري والتنظيري.
وهذا ما تركه لنا السيد مصطفى جمال الدين، من اطروحات رائعة، بما أضحت في الفكر المعاصر إمكانيات أخرى بعد التطور الهام الذي حصل في الاعلام والتقنية والمناهج وعلوم أخرى، وتخلص هذه المداخلة إلى كون العلاقة بين المعرفة والنجف مرت بتطورات أساسية منها :
أ- تأمّل الفكرُ النجفَ كمعرفة ضمن الشمولية الكلية.
ب- تأمّل الفكرُ النجفَ في كلية متعالية للمدينة من عقيدة وتاريخ وانسان ومجتمع وأمة.
د- ساعد التأملُ الفكري النجفَ كمدينة في الارتقاء المعرفي لجعل الاصلاح والتجديد والحداثة كضرورة في التحولات الحضارية والمدنية.
ان النجف كمدينة جامعية شعبية وكجامعة مدينة عالمية، حصنٌ منهجيٌّ فكري لطموحات أي مدينة ومجتمعها رغبة بالنهوض، ليكون العلم موضوعهما المركزي، من أجل عدم انهيار المدن وتجهيل الشعوب، وتلك التي حقا انهارت أو تلك التي بدت عليها مظاهر الانهيار لسبب دون آخر.
ومن المناسب أن أختم بحثي المتواضع بهذه الأبيات النجفية للعلامة مصطفى جمال الدين رحمه الله، وان كانت النجف الشريفة متشذرة بين أشعاره مثلما حبُها متجذر في قلبه وقلب كلّ من عرف العلم والثقافة عقيدة أو أدبا، فاذا لم تكن النجف الأشرف مدينة ربانية سماوية عند البعض، فأن عند الجميع بدون خلاف مدينة للفكر:
يا رملة النجف الشريف تذكري .. ظمأ العيون ففي يديك الموردُ
حنّت فكان لها بذكرك مسـرح .. وشكت فكان لها برملك إثمدُ
أشرقت بي نوْرا وغرسي ناعـم .. وزهوت بي ثمرا وعودي أغيدُ
ووقيتني غُرر الشباب فما التوت .. قدم ولا امتدت لناقـصة يدُ