كان الرئيس”عبد السلام عارف”، كما كان يبدو في معظم تصرّفاته وتصريحاته وأحاديثه، من أشدّ المُعجَبين بشخص الرئيس” جمال عبدالناصر” ومن أعنف مؤيّديه، مُعتبراً إياه مَثَلَه الأعلى في النضال ضد الإستعمار والرجعية والكفاح في سبيل الأمة العربية ووحدتها، متمنّياً بكل ما أُوتي من قوة، أن يحقّق وحدة يكون “عبدالناصر” رئيس دولتها، لتضمّ أساساً كلاً من “مصر وسوريا والعراق” بمثابة خطوة أولى نحو تحقيق وحدة الأمة العربية من المحيط الى الخليج، وربما كان من أهم أسباب الخلاف المبكّر الذي نشب بينه وبين “عبدالكريم قاسم” هو المطالبة المُلِحّة بوحدة فورية مع “الجمهورية العربية المتحدة” التي إنبثقت في (شباط1958).
وقد سمعتُ الرئيس “عبدالسلام” وهو يتحدث أكثر من مرة عن الرئيس “جمال عبدالناصر” بحماس شديد أثناء تجواله في حدائق القصر الجمهوري مع مرافقيه أو مع مسؤولين في الدولة، وضرورة بل وحتمية الوحدة مع “مصر” وإتخاذ خطوات جادة لتحقيقها… كما كان الناس يسمعون بالإذاعة والتلفزيون في خطاباته، والتي كانت مرتجَلة في معظمها، خلال المناسبات الرسمية وغيرها، أو لدى زياراته لمدن العراق والمعسكرات، أو تصريحاته داخل القطر وخارجه، كما يقرأون مقابلاته في الصحف العراقية أو تصريحاته عند إستقباله لشخصيات مصرية أو عرب أو أجانب.
كانت الصحف اليومية في العراق تنشر مقالات إفتتاحية مُركَّزة، وبحوثاً طويلة في الصفحات الداخلية، تمتدح نهج الوحدة العربية، وفي مقدمتها ضرورة الوحدة مع “ج.ع.م” بزعامة الرئيس جمال عبدالناصر… ولا يخفى على الجميع أن صحف العراق ووسائل إعلامه الأخرى، المسموعة منها والمرئية والمقروءة، ومنذ (14تموز 1958) كانت تحت سطوة نهج “المراقبة على المطبوعات والإعلام الموجّه مركزياً” والذي تمسك الدولة بخيوطه عن طريق وزارة الثقافة والإرشاد، ناهيك عن بعض الكُتّاب والصحفيين الذي يحاولون التقرّب من النظام وسياسة الدولة ويؤيّدونها في كل صغيرة وكبيرة، كما هو الحال في معظم دول العالمين الثاني والثالث في حينه، ومازال… فيما كان معظم صحف العراق يشنّ حملات إعلامية شديدة على نظام الحكم البعثي الذي كان قائماً في “سوريا” برئاسة “الفريق أمين الحافظ”.
وفي خطوة إيجابية نحو تحقيق الوحدة العسكرية، كمرحلة أولى، كان هناك إتفاق رسمي قد أُبرِمَ بين البلدين على مرابطة “جحفل قوة مصرية” في العراق، والتي سنأتي على تفاصيلها لاحقاً.
وقلّما كان العراق خلال عامَي (1964-1965) يخلو من شخصية مسؤولة أو وفد رسمي أو شعبي أو جماهيري أو عسكري مصري، يزوره لتوطيد العلاقة بين البلدين، يقابله شخصية عراقية مع وفد رسمي أو شعبي أو جماهيري أو عسكري يزور “مصر” بمعدّل شهري… ولم يكن الرئيس “عبدالسلام عارف” يألو جهداً في إستقبالهم والإطراء عليهم وعلى دور الرئيس “عبدالناصر” القيادي ودور “مصر” الريادي في تحقيق وحدة الأمة العربية… فيما كان للسيد “أمين هُوَيدي” سفير “ج.ع.م” في بغداد الأسبقية في الدخول الى مكتب الرئيس “عبدالسلام” متى ما شاء نهاراً أو ليلاً.
ويبدو أن الرئيس “عبدالسلام” كان يعتقد أنه كلّما تقرّب من شخص الرئيس “عبد الناصر” وكلّما عَظـَّمَه وإمتدح “ج.ع.م”، وإنتهج نهجاً شبيهاً لأسلوب قيادته وإدارة الحكم في بلاده، وكلّما أسنده في تصريحاته وأحاديثه ومقابلاته وذكره في خطاباته وأطرى عليه في عباراته، فإن سُمعَتَه ستعلو، ليس في العراق وحسب، بل على مستوى الوطن العربي الذي كان موقِــناً أن “عبدالناصر” يقوده ويتزعّمه.
ولكن الرئيس المصري لم يكن يجامل الرئيس العراقي إلاّ قليلاً في إطلاق تصريحات مقابلة أو مديح أو ذكرٍ لإسمه في خطاباته، وكان هذا الموضوع حديث الكثير من الناس في الشارع العراقي… كما كان الرئيس “عبدالسلام” يحاول توطيد علاقات العراق مع كل دولة عربية أو إسلامية أو سواها من التي لها علاقات حسنة مع “مصر”، ويبتغي التقرّب من كل زعيم عربي أو غيره ممّن يرتبط بعلاقات مع الرئيس المصري، ومعاداة كل من يُعاديه.
ومُجمل القول، كما يبدو للمؤلّف، أن الرئيس “عبدالسلام” كان “مُقَـلِّـداً” بشكل أو بآخر للرئيس “عبدالناصر” في معظم أمور السياسة الداخلية والخارجية، وفي العديد من تصرّفاته، ولكن من دون مقابل معنوي يُذكَر… وقد إتخذ خطوات عديدة تدلّ على ذلك، يمكن إجمال أهمّها فيما يأتي:-
أولاً- إصدار قرارات بتأميم العديد من الشركات والمعامل والبنوك العراقية يوم (14تموز1964).
ثانياً:- تأسيس “الإتحاد الاشتراكي العربي” في العراق أُسوةً بـ”الإتحاد الإشتراكي العربي” في مصر، وعقد جلسته التأسيسية الأولى بحضور ورعاية السيد “حسين الشافعي” نائب رئيس ج.ع.م يوم في اليوم ذاته.
ثالثاً:- إنشاء “مجلس رئاسة مشترك”ó يترأّسه الرئيسان وإلى جانبهما (3) أعضاء من كلا الطرفين، وتنسيب السادة “ناجي طالب، أديب الجادر، وعبدالستار علي الحسين” أعضاء متفرّغين فيه من الجانب العراقي.
رابعاً:- جعل أسماء بعض المؤسسات العراقية شبيهة بمُسمّياتها لدى “ج.ع.م”، وخصوصاً تلك المؤسسات الإشتراكية التي تشكّلت ضمن قرارات التأميم.
خامساً:- إتخاذ خطوات جدية وتشكيل لجان لتوحيد الرُتَب والمصطلحات العسكرية المستخدمة لدى القوات المسلحة للبلدين.
سادساً:- إستحداث “المؤسسة الإقتصادية” لتضم (28) شركة أو معملاً كبيراً تم تأميمها وفقاً للقانون وأُسوة بما هو عليه لدى “ج.ع.م”.
سابعاً:- إلغاء جوازات السفر وسمات الدخول بين البلدين والإكتفاء بالهوية الشخصية.
ثامناً:- تأسيس “القيادة السياسية الموحدة” بمثابة أعلى سلطة سياسية للبلدين برئاسة رئيسَي الجمهوريّتين وعضوية (12) مصرياً و(11) عراقياً من كبار مسؤولي الدولتَين.
تاسعاً:- جعل شعار الجمهورية والسلام الجمهوري العراقيين مشابهَين تماماً لشعار الجمهورية العربية المتحدة وسلامها الوطني.
وبعد إنقضاء شهور عديدة على خدمتي العسكرية ضابطاً في الحرس الجمهوري، تعرّفت بشكل مباشر على معظم مسؤولي الدولة من خلال جلوس البعض منهم في غرفة التشريفات وإنتظارهم لبضع دقائق أو عَشْراتها، وخصوصاً في المساء والليل، أو بشكل غير مباشر عن بُعد لدى حضورهم للقصر الجمهوري، من أولئك الذين عَيَّنَهم الرئيس “عبدالسلام عارف” بمناصب غايةً في الأهمية تمسك بأمور الدولة التي تُعنى بإستقرار الحكم وأمنه، وعلمتُ أيضاً أنهم من “الكتلة القومية” التي تؤيّد بكل ما أُوتيت من قوة سياسة الرئيس “جمال عبدالناصر” وتُناصره بشدّة، وهم:-
1. عميد الجو الركن “عارف عبدالرزاق” – قائد القوة الجوية .
2. العميد الركن “عبدالكريم فرحان” – وزير الثقافة والإرشاد .
3. المقدم الركن -العقيد الركن فيما بعد- “صبحي عبدالحميد”– وزير الخارجية/ وزير الداخلية بعدئذ.
4. العقيد الركن “هادي خماس” – مدير الإستخبارات العسكرية.
5. المقدم الركن “رشيد محسن” – مدير الأمن العام.
6. العقيد الركن “عرفان عبدالقادر وجدي” – آمر الكلّية العسكرية.
إن التغيير الوحيد الذي حصل في مناصب أولئك بعدئذ هو تعيين السيد “صبحي عبدالحميد” وزيراً للداخلية بدلاً من الخارجية بمرسوم جمهوري صدر يوم (14/11/1964)، حين تم تشكيل وزارة “الفريق طاهر يحيى” الثالثة التي ضمّت (21) حقيبة وزارية، إذْ أصبحت “وزارة الخارجية” من نصيب “اللواء الركن ناجي طالب” أحد أبرز الذين يحترمهم “عبدالسلام عارف” والذي كان من أهم الأعضاء المتفرّغين في “مجلس الرئاسة المشترك” الذي تشكّل بعد إتفاق (26/5/1964) لتوحيد الجمهوريتين “العربية المتحدة والعراق”.
ولكن التغيير المفاجئ الذي حدث وأدّى إلى إنتشار إشاعات واسعة عن وجود خلافات بين العراق ومصر وبين “عبدالسلام” و”عبدالناصر”، على الرغم من محاولات جدية قامت بها الصحف العراقية لتكذيبها أو التخفيف منها، هو صدور مرسوم جمهوري يوم (11تموز1965) ينصّ على ((قبول تخلي)) كل من السيدين “عبدالكريم فرحان” من منصب وزير الثقافة والإرشاد و”صبحي عبدالحميد” من منصب وزير الداخليةó… ولكن الأربعة الآخرين الذين ذكرتُهم في صفحات هذه المقالة ظلّوا محتفظين بمواقعهم المهمة.
والحقّ يُقال، أن “عبدالسلام عارف” و”طاهر يحيى” وكذلك “ناجي طالب” وزير الخارجية، ناهيك عن الصحف ووسائل الإعلام المتنوعة، لم يبدوا أي إيحاء أو تلميح في التصريحات أو التصرفات اللاحقة إلى أُمور سلبية، سواء بين البلدين أو بين رئيسَي الدولتين الشقيقتين، بل كان العكس هو الصحيح، فقد جرى بعد ذلك التأريخ ما يأتي:-
أولاً: ذكر “عبدالسلام عارف” في خطابه الشامل يوم (14تموز1965) وبمناسبة الذكرى السابعة لـ(14تموز1958) عبارات طويلة عن وحدة العراق مع مصر كنقطة إنطلاق لجمع شمل الأمة العربية، وأن العراق سائر بخطوات ثابتة وواقعية لبناء تلك الوحدة على الوجه الأكمل، وأنه سينهض بـ”الإتحاد الاشتراكي العربي” في العراق على دعائم شعبية ثابتة.
ثانياً: أرسل العراق وفداً عالي المستوى في (تموز1965) برئاسة رئيس الوزراء “الفريق طاهر يحيى” وعضوية عدد كبير من الوزراء وكبار الضباط لحضور إحتفالات “مصر” بالذكرى/13 لـ(23يوليو1952).
ثالثاً: زار “عبدالسلام عارف” القوة المصرية المرابطة في “معسكر التاجي” يرافقه وزير الدفاع “اللواء الركن محسن حسين الحبيب”، حيث إستقبله هناك السفير المصري “أمين هويدي” وقائد تلك القوة “المقدم الركن إبراهيم عرابي”، وألقى خطاباً مرتجلاً بين الضباط والجنود ذكر خلاله عبارات إفتخار بشخص الرئيس “عبدالناصر”.
رابعاً: كذّب “عبدالسلام” في مقابلة مع صحيفة “الجمهورية” العراقية الصادرة يوم (27تموز1965) الإشاعات الرائجة حول خلافات بين “العراق وج.ع.م” حين قال:- (أن الجمهوريتين العراقية والعربية المتحدة رَسَمَتا طريق الوحدة وإلتَزَمَتا بمسؤولياتهما كاملة).
خامساً: وأخيراً أقدَمَ “عبدالسلام” على قبول إستقالة وزارة “الفريق طاهر يحيى” الثالثة، وتشكيل وزارة جديدة يرأسها “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” بمرسوم جمهوري صدر يوم الإثنين (6أيلول1965)، وأناط إليه منصب “وزير الدفاع وكالة” أيضاً، ومن دون تعيين قائد للقوة الجوية يحلّ محلّه.
ولكن رئيس الوزراء الجديد -الذي كان يقدّس شخص الرئيس “عبدالناصر” والمقرّب الأعظم منه- نكث العهد حالما غادر الرئيس “عبدالسلام عارف” إلى “الرباط” لحضور مؤتمر القمة العربي الثالث، وأقدم على محاولة إنقلابية فاشلة مع مجموعة من كبار مسؤولي الدولة هربوا بعدها بطائرة نقل عسكرية إلى “القاهرة” التي منحتهم لجوءاً سياسياً… وقد تعمّقتُ في تفاصيل تلك المحاولة في دراسة مطولة إحتوت (100) صفحة نشرها موقع “كتابات” خلال شهر (ت2/نوفمبر2015