تعددت التصريحات من مختلف الإتجاهات السياسية في تركيا والعراق حول تواجد القوات التركية في شمال العراق – قرب الموصل، ومطالبة الأتراك بحقهم في المشاركة في قتال داعش. وكانت هنالك ردات فعل بين الطرفين حول حق تواجد تلك القوات في العراق، وإصرار القيادة التركية على أعلى مستوايتها بأن تواجدها شرعياً. ثم تضخمت التصريحات تعالت النبرات بين الطرفين وأصبح هذا الأمر المتعلق بالسياسة الخارجية في متناول وسائل الأعلام والأوساط الشعبية لتزيد من تأزيم الوضع. ولكن العلاقات الدولية يجب عليها أن لا تكون عرضة لردات الفعل، أو ناتجة عن مساومات أو مزايدات القوى السياسية في كلا البلدين، وأن لا تحكمها الظروف السياسة الداخلية أو الإنفعالات الشعبية. فالمواقف الدولية التي تتخذ على أرض الواقع نتيجة لتلك التصريحات من الصعب تجاوزها أو إصلاح النتائج المترتبة عليها.
في أغلب الأنظمة السياسية (ما عدا الأنظمة الشمولية)، قد تنتج مواقف وتصريحات من السلطة التشريعية أو القوى السياسية الفاعلة في النظام السياسي، ولكن يجب أن لا يترتب عليها مواقف رسمية في العلاقات الدولية. وغالباً ما تكون تلك التصريحات النارية أو الإنفعالية هي للإستهلاك السياسي المحلي حتى وإن صدرت من السلطات الرسمية العليا، ولكن يجب أن يعقبها ما وراء الإعلام تهدئة دبلوماسية بين الطرفين. ففي الأنظمة الديمقراطية يمكن أن تصدر من أطراف مختلفة فاعلة في العملية السياسية تصريحات تعبر عن توجهاتها السياسية، وقد يعربد بعض الزعماء بتصرحيات نارية بما شاء وخطر على باله للتجاوب مع مشاعر جماهيره وكسب ولاء مريديه، ولكن هذا يجب أن لا يحسب على أنه موقف الدولة، أو أن يُعدّ على أنه موقف النظام السياسي والحكومة القائمة.
الدولة الحديثة لها قناتها الرسمية، وهي وزارة الخارجية وسفرائها المعتمدين. وعلى هذا نرى أن صاحب أعلى سلطة في الدولة هو من يستلم أوراق إعتماد السفراء العاملين في دولته من بقية بلدان العالم. إن الدولة الرصينة والمحترمة في مواقفها الدولية هي التي تجيد إختيار سفارائها وممثليها. فالسفير عليه أن يتسم بالحكمة والدراية والمسؤولية والفصاحة بأن يكون بمستوى جعفر بن أبي طالب – سفير النبي محمد الى النجاشي ملك الحبشة. هذا الحال كان قبل حوالي 1500 عام، فكيف ونحن الآن في عصر العولمة وتشابك المصالح الدولية على أعلى المستويات وكافة الأصعدة. فالأمر ليس هيناً أو ينحو بإتجاه ردود الفعل على تصريحات نارية أساسها الإستجابة لشؤون داخلية أو مصالح سياسية خاصة.
وفي الأزمات والظروف الحرجة في العلاقات بين الدول، يجب أن تكون هنالك “دائماً” قنوات اتصال “خلفية” و”خفية” و”مباشرة” عبر قنوات رسمية رصينة بين أي دولتين حتى يمكن تفادي إتخاذ مواقف من الصعب التراجع عنها، لإن التراجع عن تلك المواقف فيما بعد قد يعد موقف ضعف يؤثر على سمعة القيادة داخلياً وهزيمتها الدبلوماسية دولياً.
إن الدول الجارة لها خصوصية، حيث لا يمكن أن تصل الأمور والعلاقات بينهم الى حالة العداء (حتى الظاهري منه) أو القطيعة، بخلاف العلاقات مع الدول الآخرى. فلا يمكن استبدال الدولة الجارة، بينما يمكن استبدال الإرتباط بالتحالفات الخارجية أو التقلب بين المحاور الدولية أو حتى قطع العلاقات مع الدول الأخرى.
في منطقتنا التي نعيش فيها هنالك صراع تاريخي بين تركيا وإيران، وصراع معاصر بين السعودية وإيران. وبما أن هنالك توازن قوى بين هذه الدول الثلاثة، فمن الصعب أن يكون هنالك تصادم مباشر بينهم (لأنه سيكون مكلفاً لهم بصورة بالغة)، ولكن تحقق هذه التوازن الدولي عادة ما يقود الى حروب بالوكالة وتنافس بالتفويض بين تلك الدول على ساحة صراع مشتركة بينهم. والعراق بالتحديد هو هذه الساحة المشتركة المفتوحة بين هذه الدول الأقليمية الكبرى الجارة لنا، فهذا هو “قدرنا الجغرافي”.
وعادة ما تستغل مثل هذه الدول “وسطاء” محليين للتأثير على ساحة الصراع المشتركة لتنفيذ مخططاتها، وهذا الأمر هو بادياً للعيان وليس خافياً، فيمكن للجميع تحديد هوية وتوجهات كل القوى السياسية العاملة في الدولة أو المشاركة في الصراع السياسي الداخلي.
وعليه فعلاقاتنا مع دول الجوار لا يمكن أن يحكمها مبدأ “توازن القوى” في السياسية الخارجية، لأنه يقود الى تنافس حتمي بين الدول على كافة المستويات العسكرية والإقتصادية والثقافية، لأن ما تجنيه أحدى الأطراف المتنافسة يعد خسارة وضعف للطرف الآخر. فهو كـ توازن القبان، فلإعادة الميزان الى وضعه الطبيعي يتطلب من الأطراف الآخرى أن تزيد من مصادر قوتها، وهذا ما يقود الى تنافس وصراع أبدي. وهذا الوضع في العلاقات بين الدول المتجاورة غير سليم ولا يقود الى حفظ المصالح وديمومة السلام بينهم، بل دائماً ما يؤدي الى الأزمات الدبلوماسية ويقود الى الصراعات الإقليمية وإشعال الحروب. وقد لاقى العراق في عهد البعث المنصرم مآسي هذه السياسية (توازن القوى)، فدخلنا في صراعات وحروب مع الدول الجارة أحرقت الحرث والنسل وأرجعتنا حضارياً الى الوراء عقود وأجيال.
علاقاتنا مع تركيا إنما هي متجذرة تاريخياً بقدر حتميتها الجغرافية. بمعنى أن هنالك تواصل إجتماعي وتمازج ثقافي وتداخل تاريخي وتحكمها شراكة في الموارد الطبيعية وإندماج اقتصادي. فعلاقاتنا ليست وليدة الصدفة وكأننا في جزر متجاورة ومعزولة هيأت لها الظروف التكنولوجية ووسائل الإتصالات بالتواصل مع الأمم الأخرى المجاورة وبناء العلاقات الواسعة (اليابان إنموذجاً). فتاريخ الأتراك في الحضارة الإسلامية إنطلق من العراق، وما سامراء إلا عاصمة وجودهم الحضاري وبروز نجمهم السياسي التاريخي، كما هي بغداد مصدر ثقافتهم، وأبو حنيفة أمامهم، وأهل البيت والخلفاء الراشدين عنوان إيمانهم، وتراب العراق يحوي رفات أقطاب طرقهم الصوفية الذين هم من معالمهم المقدسة. وبالحدود الجغرافية للعراق الحديث تنبع من أرض الأناضول مياه رافديه، بالإضافة الى أن تركيا هي نافذتنا التجارية الى أوربا والغرب كما هو العراق نافذة الأتراك الى الخليج وجزيرة العرب والهند.
فالعراق في مخيلة الأتراك هو جزء حيوي من ثقافتهم ووعيهم وتاريخهم وحاضرهم، لا يمكن فصله عن مخيلتهم لأنه في ضميرهم، في منطقة اللاوعي في تفكيرهم. وهذا الشعور الكامن في ضمير الأتراك ليس له مرادف عندنا نحن. كما أن هذه المكانة العضوية للعراق بالنسبة للأتراك لا يمكن عدها نقطة ضعف لنا تعطي لتركيا الدافع للتدخل في شؤوننا الداخلية والعمل الدؤوب في التأثير على سياساتنا، بل على العكس إنما هو مصدر قوة للعراق. لأن كل من تركيا – وكذلك إيران – يعدون العراق جزءً من تراثهم الثقافي والإجتماعي وبالتالي كيانهم الحضاري والتاريخي.
المعضلة في علاقاتنا الدولية هو أننا نتعامل منذ نشوء دولة العراق الحديثة بمبدأ “توازن القوى” مع الدول المجاورة لنا، وخاصة في علاقاتنا مع تركيا وإيران. ولكن علاقاتنا مع كليهما عليها أن تتجاوز كذلك حتى مرتبة “المنفعة المشتركة” بين الدول، لتصل الى درجة العلاقة العضوية، فلا يمكننا الإستغناء عنهم ولا يمكنهم التفريط في علاقتهم معنا، إن شئنا كلنا جميعاً أو أبينا. فالعراق هو الجامع بينهم والقاسم المشترك الذي يلتقون حوله ومعه وفيه. فعلاقتنا مع الدولتين (تركيا وإيران) هي مترابطة ومتداخلة من أبعاد مختلفة وجوانب متعددة تكاد تكون أكثر عضوية حتى مع علاقاتنا مع أخواننا العرب مع إشتراكنا معهم بروابط اللغة والدم والتاريخ والمصير المشترك.
وبهذا فنحن نحتاج الى هندسة هذه العلاقة العضوية من قبل أهل الحكمة والعلم والخبرة من جميع الأطراف، داخلياً ومن الدولتين، تقود الى رسم خريطة طريق تقود الإقليم الذي نعيش فيه جميعنا الى السلام والتنمية والتمدن في هذه المرحلة التاريخية من الزمن الداعشي المشابه لمرحلة الجاهلية في تاريخ الإسلام، حتى نستطيع أن ننتقل من مخلفات الدمار والدماء الذي أحدثه الى مرحلة التعايش الأخوي والوئام الإجتماعي وتحقيق التقدم الإقتصادي والعمران المدني. فالدمار الفكري والثقافي والحضاري الذي أفرزته سلفية داعش عليه أن يكون لنا الحافز والمنطلق الى إقامة عهد جديد مغاير وعلى النقيض تماماً مما نحن عليه. وخير مثال لنا هو أنه ما كان بالإمكان أن تنطلق أوربا من مخلفات حروبها الكونية الدينية والسياسية والإجتماعية لتقيم على إنقاضها طفرة حضارية كبرى انتجت هذه المدنية التي ينعم العالم
بإختراعاتها ورفاهها. فالمحنة التي نمر بها، ونحن على أبواب تطهير العراق من دنس داعش من خلال تحرير الموصل يجب أن تكون المنطلق لنا نحو إقامة عهد علاقات دولية جديدة مع دول الجوار (وخاصة مع تركيا وايران والسعودية) لنوقف أي إحتمالات لحمام الدماء القائم على الصراع بشتى أشكاله على ربوع وادي الرافدين.
وقد تحسب هذه النظرة في العلاقات الدولية “شقشقة الجبناء” في زمن “فتل العضلات”، ولكن إن أدت الى السلام فنِعِماً هي، فأنها مستوحات من فحوى الآية الكريمة:
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
و”الشنآن” هي العداوة والبغضاء. وقد نزلت الآية لترسم للرسول والذين آمنوا معه بأن تكون علاقاتهم مع قريش التي هجرتهم وشنت عليهم الحروب وصدتهم عن مزاولة شعائرهم في مكة بأن لا يعتدوا عليها، بل رسمت لهم منهج التعاون معهم على البر والتقوى، وعدم بناء العلاقة على الإثم والعدوان، كما وأن الله تعالى الذي هو شديد العقاب سوف يراقب أعمالهم بإتباع هذا المنهج. فالعراق بجغرافيته الحتمية وتاريخه العريق منذ قدم الحضارة الذي كان ملاذاً للأمم المختلفه لا بد لأبنائه أن يتعايشوا بسلام ووئام مع الأمم التي تجاوره بمنهج التعاون لتحقيق التنمية المشتركة وإعمار البلاد. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.