19 ديسمبر، 2024 3:53 ص

في أيام تشكيل مجلس الحكم – تموز 2003 – التقطت صورة جديدة بشكلها على تاريخ العراق السياسي. نقلت لنا الصورة الابتسامة المرسومة على وجوه أعضاء المجلس، وشعورهم بالفرحة الكبيرة التي لخصت تاريخهم في “النضال” ومدى حماستهم للمشاركة بما يسمى بـ”العراق الجديد”، نقلت أيضا الخلفية التي يقفون أمامها عبارة مكتوبة بخط كبير “كلنا نشارك في العراق الجديد”. المقال يحكي عن تَحول “كلنا نشارك في العراق الجديد” إلى لغة أصولية، عُمل بها بمنطق ضدي وعنصري ولد الإقصاء والعنف الطائفي، عُمل بها بعقل بربري أحادي يشعر بأنه أفضل من الآخرين.
الشعار “كلنا نشارك في العراق الجديد” هو جزء من أزمة العقل العربي، كُتبت صيغته على قاعدة “نطالب بالشيء لكي نبتعد عنه”، “نكتب الفكرة الخصبة لكي نحيلها إلى معرفة ميتة أو إلى آلة للخراب”.
يسند المفكر علي حرب هذه الأزمة إلى أزمة فكر ومعرفة. يقول حرب “لاشك أن الثقافة، بثوابتها ومحرماتها ونماذجها ومنتجاتها، هي مصدر أساسي من مصادر الخلل والعطب. فالعلة لا تكمن دوما في القرار السياسي أو في المشروع الاقتصادي، وإنما لها جذورها في نظام الفكر ومصادرات العقل أو في قوالب المعرفة ومنظومات القيم، فضلا عن طرائق التفكير وقواعد التعامل”.
الجزء الأكبر من أزمتنا السياسية، هي إن نخبة ما بعد 2003 الموجودة الآن في السلطة بكافة قوائمها وأحزابها وزعمائها، ما زالت تعمل بموروثها العقائدي القديم “التحكمي، الانفرادي، الأحادي”. فكل جماعة تعتقد أنها أفضل من الآخرين، وتدعي احتكار الوطنية والمشروعية في الحكم. بالإضافة إلى أنهم يؤمنون بالزعيم “القوي” أو “الامبراطوري”، عكس ما مطلوب من رجل وسطي يؤمن بالتعددية والتداول السلمي للسلطة.
هذا ما يؤكده أحد زعماء ما بعد 2003، يقول الرجل في أحد رسائله معترفا “لاسيما أنه بجانب أي حكومة منتخبة في النظام الديمقراطي والبرلماني توجد معارضة منتخبة مثلها تسعى لكسب الأصوات لحل وزارة وتشكيل أخرى، لكن مثل هذا المشهد مرفوض في تربيتنا الثورية التي نشأنا عليها والتي تعتبر أن مجرد فكرة التصويت لاختيار الزعيم مؤامرة يستحق من يفكر بها حكم الموت العلني”، وعن هذه التربية “الثورية” يمضي قائلا “يجتمع في النظام الثوري حبائبا وأقاربا.. وحواشيا وورثة وحكايات لا يقرأها الناس إلا في قصص ألف ليلة وليلة”.
وإلا كيف نفهم أن الطبقة السياسية تنتج اليوم من المشكلات أكثر مما تبتكر من الحلول؟ كيف نفسر كون الديمقراطية التي ينشدون بها باتت مصدر قلق وخوف لدى الناس أكثر مما هي مصدر من مصادر الحقوق والحريات، التنوير، التقدم، السلم والمنبع الرئيس للمواطنة والمساواة؟
وعن هذا المأزق السياسي نعود إلى كتاب علي حرب “أزمنة الحداثة الفائقة”، يَكتب “الأدهى والأخطر فهو أننا نتعامل مع هوياتنا كعصاب أو كقوقعة أو كفخ، والحصيلة أن ندمر صيغ التعايش بيننا في الداخل بقدر ما ننصب الحواجز الرمزية والمادية بين دوائر المجتمع المدني”، “باختصار ما نتقنه حتى الآن في الأكثر والأعم، هو تبادل التهم والاستبعاد، أو المساوئ والأخطاء، أو الارتكابات والفضائح، وذلك بقدر ما تتحكم بالواحد أشباحه أو هواجسه وكوابيسه”. هذا ما يسمى بــالعقول القاتلة، أو تلغيم المشروع المدني الديمقراطي.

أحدث المقالات

أحدث المقالات