يعتبر الدكتور فائق شاكر، تغمده الباري برحمته ( 1891م – 1962 م ) من ظرفاء بغداد، وهو طبيب عيون عاصر العهد الملكي في العراق، وكان من المقربين من رجال الحكم آنذاك ، وقد تقلد عدة مناصب حكومية وكانت بعيدة كل البعد عن اختصاصه كطبيب عيون.
تارة يصبح اميناً للعاصمة، وأخرى مديراً للبريد والبرق، ومرة مديراً للمطار المدني أو السجون أو متصرفاً وهكذا.
كتب الكثير من المواضيع الطريفة, ومما كتبه عن نفسه قال :- كنت في زيارة عمل الى احدى الدول الأوربية، عندما أرسلت وزارة الصحة العراقية برقية تطلب فيها مني، حضور مؤتمر طبي هناك ممثلاً عنها، ” اذ ليس من السهل أرسال طبيب آخر والمؤتمر على وشك الأنعقاد ” وفي اليوم المحدد حضرت الى مكان المؤتمر، لكنني فوجئت ان المؤتمر عبارة عن ورشة عمل حول الامراض العقلية، ومرض الشيزوفرينيا بالذات، تلقى فيها محاضرات حول المرض والمستجدات في مجال العلاج.
كذلك يتم احضار بعض المرضى الى القاعة، لدراسة حالاتهم ومدى استجابتهم للعلاج، لم يكن امامي الا ان اجلس في المكان المخصص لممثل العراق.
بعد بضع دقائق جاءت طبيبة، وجلست الى جانبي، وبعد التعارف والمجاملات سألتني عن دراساتي وبحوثي في مجال الامراض العقلية عامة، ومرض الشيزوفرينيا خاصة، والبحث بصدد المستجدات في مجال علاجه، فاجبتها :- ” في الحقيقة أنا طبيب عيون، وقد كلفت بحضور ورشة العمل هذه، من قبل وزارة الصحة ولا علاقة لي بالامراض العقلية والشيزوفرينيا خاصة” فنظرت اليَّ الطبيبة نظرة استغراب وتعجب وغيرت من لهجتها متسائلة : – وفي اية مؤسسة صحية تعمل الآن في العراق؟ فأجبتها : ” أنا لا اعمل في أية مؤسسة صحية، أنا الآن مدير عام، دائرة السكك الحديد” فعادت وسألتني : – وقبلها اين كنت تعمل؟ فأجبت: – ” كنت امينا للعاصمة بغداد اي ما يشبه العمدة عندكم” .
ابتسمت الطبيبة ونهضت من مكانها، بهدوء وذهبت الى بعض المشرفين على ورشة العمل فجاءني احدهم متسائلاً : – عذراً ياسيدي، هل انت الدكتور فائق ممثل العراق ؟
فأجبت : – ” نعم ياسيدي .. هل هناك مشكلة؟”
– كلا ولكن يبدو ان هناك التباساً او سوء فهم. فسألته: – “حول ماذا ياسيدي ؟”
فأجاب: – ان الطبيبة التي كانت جالسة الى جوارك، تصورتك احد المرضى المصابين بالشيزوفرينيا، الذين أتينا بهم الى هنا، وقد احتل المقعد المخصص للعراق فأجبته ضاحكاً:
“لا ياسيدي انا لست مصاباً بالشيزوفرينيا لكن الطبيبة على حق فيما قالت” …
فأجاب : كيف ؟ .. لكنني لم اجب فتركني وهو يضحك، طبيب عيون يشغل منصب مدير عام السكك الحديد يمثل العراق في ورشة عمل حول الشيزوفرينيا!
لا غرابة في ان تاريخا حافلا، بكهذا شخصيات يتعرض لمثل هذه الهزات العنيفة, والتخبط الواضح في بناء البلد والنقص الكبير في تقديم الخدمات، والتراجع الملحوظ في شتى المجالات, قد يكون الدكتور فائق اعترف بأنه كان الطماطم التي تصلح لاي طبخة في القدر العراقي, وقد دون تلك المواقف في مذكراته ونشرها في الصحف، وكانت الغاية من تلك الكتابات أيصال رسالة لأصحاب القرار أن الرجل المناسب يجب أن يكون في المكان المناسب.
على مدى عقود في تاريخنا المعاصر، والمأساة تتكرر نفسها, في توزيع المناصب في البلاد, فترة النظام الصدامي، كانت الأسوء بين تلك الفترات، فكانت السلطة بيد ازلام البعث، الذين يحكمون بعقلية رعاة الأغنام، ويديرون البلد بالنار والحديد.
بعد سقوط النظام البائد، أستبشرنا خيرا بقدوم الكفائات، الى وطنهم بعدما تعرضوا للتهجير والتنكيل، في حقبة البعث الصدامي, لكننا فوجئنا وصدمنا بأن العراق، منجم للعقول وأصحاب الشهادات, يدار بعقلية أقل مايقال عنها أنها عقلية جاهلية.
لم نشاهد الا ماندر أصحاب الأختصاصات؛ قد تولوا مناصب تتناسب وتحصيلهم العلمي والاكاديمي، وحتى أن قربوا فأنهم يكونوا في غير مكانهم المناسب، وبالتالي ضاع علينا الخيط والعصفور.
هل يعاني ساستنا من الشيزوفرينا الأكاديمية؟
الاف من الايفادات والدورات تقام لموظفي الدولة، في خارج البلاد ولكن معظمها تذهب لأناس لا علاقة لهم بأختصاصاتهم، فالذي يحكم هو الحزب او القربي او الدولار في تلك الايفادات, فمرض الأنفصام، لازال ساريا بالعقل السياسي العراقي ولقادة البلاد.
هل سنرى البلاد تدار بالكفائات وأصحاب الأختصاص يوما؟..لا ضير من أن يكون متحزبا ولكن يجب ان يكون عمله للعراق اولا واخيرا.
الفرصة الاخيرة بيد قادة البلاد, والحكومة المقبلة هي الاختبار الاخير لهم, ولا نريد أن نعيد تجربة الراحل الدكتور فائق.